

عشتُ وعشنا كل هذه السنين نتعامل مع هذه المفاهيم السياسية ومع تغيراتها، فاهمين أو متفهمين، لندرك في نهاية الأمر أننا كنا في السنوات الأخيرة مخدوعين أو ممالئين أو شركاء في عملية تحول تاريخي في طبيعة وربما في أسس ما اتفقنا عليه كدول وشعوب قبل سبعين عاماً أو ما يزيد.
اليوم أقف مشدوهاً أمام حجم ما تغيّر في، أكثر أو كل، مفاهيم السياسة الدولية والإقليمية. لا أقول أقف مشلولاً، لا قدّر الله، وإن ظهرت ممارساتي مثل ممارسات الملايين من الناس في أنحاء كثيرة من العالم بمظهر سلوك العاجزين عن الفعل أو في أسوأ الصور مظهر المستسلمين للتغيير. اخترتُ – لأجل التوضيح لا أكثر – عدداً من المفاهيم لعل الغوص فيما طرأ عليها من تغيير أو أحاطها بسحب كثيفة من الغموض يكشف عن حجم بعض ما تغيّر أو اختفى.
أولاً؛ النظام الدولي:
عشنا نُعرّف النظام الدولي بأنه خلاصة مزيج من التفاعلات الجارية بين وحدات في العالم كالدول والمؤسسات الدولية والكيانات الأخرى متعددة المهام والوظائف الدولية، ومجموعة من القيم والمبادئ الحاكمة والمنظمة لهذه التفاعلات. عشنا مرحلة من حياتنا نفترض أن مجلس الأمن -مثلاً- خير أداة للاحتكام إليها في النزاعات الدولية ولحماية الأمن والسلم الدوليين، ثم جاءت مرحلة غاب فيه هذا الاطمئنان.
أفقنا من مرحلة القطبية الثنائية لنجد قطباً واحداً يسعى لفرض هيمنته ولكن لنكتشف ما أثار الرعب في معظم أنحاء العالم. اكتشفنا أن هذا القطب لا يستحق أن يهيمن لأنه دخل بالفعل مرحلة انحدار، ولجأ، سعياً لفرض هيمنته، إلى تغيير أهم أرصدته على الإطلاق، وهي عناصر قواه الناعمة وفي مقدمها اعتناق مبادئ الحريات والديموقراطية والفصل بين السلطات. لجأ أيضا لتعظيم أدواره السلبية مثل التدخلات العسكرية والسياسية في شئون الدول الأخرى. في الوقت نفسه، تنازل لقوى ضغط عالمية التكوين والتشكيل عن بعض عناصر قيادته. سوف أعود لهذه النقطة مرات عديدة بعد قليل.
ثانياً؛ النظام الإقليمي العربي:
هذا النظام في بعض مظاهره ما يزال موجوداً ولكن بقي منزوع “العروبة”، أي منزوع العقيدة السياسية، الأمر الذي يُبرّر الفوضى الضاربة قي الإقليم ككل وفي معظم وحداته، دولاً كانت أم مؤسسات. زميل قديم تطوع بأن أسبغ على هذا النظام في حالته الراهنة صفة أو تشبيهه بإنسان ضعيف البنية أصابته أزمة قلبية. صار أو استمر مخترقاً من كافة جوانبه وفي الوقت نفسه تظهر الدول الأعضاء دائماً مرحبة بهذه الاختراقات، ثم بالتزام حمايتها من اختراق أو آخر. الجدير بالذكر أن هذا النظام فقد تماماً، أو يكاد يفقد، ثقة أطراف النظام والنُظم الزميلة في عالم الجنوب.
أكاد أجزم أن استمرار وجود جامعة الدول العربية ولو عند أدنى مستوى لنشاطها التكميلي في الاقتصاد كما في الأمن والسياسة أصبح يمثل التعبير الوحيد عن نظام إقليمي عربي موجود اسماً وليس فعلاً. فشل النظام العربي في تسوية نزاعات الدول الأعضاء ولكن فشله الأكبر ودافع سقوطه في نهاية الأمر كان في عجزه عن منع اختراق الصهيونية؛ عدو هذا النظام منذ النشأة، لعدد يتزايد باستمرار من الدول الأعضاء.
الصهيونية صارت قوة قادرة على إحكام هيمنتها على السلم العالمي، وأنها من خلال اختراقها لجميع مراكز وأعصاب الحكم في الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا وقواعدها في روسيا وفي دول الفلك الروسي تمكنت بالفعل من السيطرة على مكامن قرار الحرب والسلم في العديد من هذه الدول ودول أخرى في أمريكا اللاتينية وفي الشرق الأوسط
لا غرابة أننا صرنا نجد بكثرة من يعتقد أن اتفاق كامب دافيد كان الاختراق الأول والأهم على الاطلاق على طريق سقوط النظام الإقليمي العربي ليحل محله “نظام إسرائيلي إقليمي”، أو فيما صار يعرف بـ”إسرائيل الكبرى” وإلى جانبها دويلات طائفية أخرى، ولا مانع من وجود دول عربية وإسلامية كبيرة ولكن في الوقت نفسه مقيّدة بالتزامات تفرضها القواعد، سواء المعلنة أو المتكتم عليها، التي استجدت ضمن اتفاقات وعلاقات ومصالح ومؤسسات إقليمية جديدة أو تحت التكوين.
ثالثاً؛ عصر السلم الأمريكي:
لن أكون أول ولا آخر من يعتقد أن العالم يعيش الآن سنوات أشبه ما تكون بالسنوات التي سبقت نشوب الحرب العالمية الكبرى. انتهت في تقديري قبل عقود مرحلة يشهد التاريخ أنها مرحلة سلم دولي تحت قيادة الولايات المتحدة سواء في عهد القطبية الثنائية أو في جزء من عهد القطب الواحد.
انتهت مرحلة السلم الأمريكي عندما قرر “الآباء الصهاينة” في مواقع القيادة سواء كانت في أمريكا وأوروبا أو في إسرائيل أن الصهيونية كفاعل دولي، سياسي واقتصادي ومعلوماتي، صارت قوة قادرة على إحكام هيمنتها على السلم العالمي، وأنها من خلال اختراقها لجميع مراكز وأعصاب الحكم في الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا وقواعدها في روسيا وفي دول الفلك الروسي تمكنت بالفعل من السيطرة على مكامن قرار الحرب والسلم في العديد من هذه الدول ودول أخرى في أمريكا اللاتينية وفي الشرق الأوسط.
من هنا استطاع محلّلون أمريكيون وبعضهم من سلالات يهودية، أن يُعبّروا عن قلقهم على مستقبل السلم العالمي، وبالذات خلال مرحلة وجود الرئيس دونالد ترامب على رأس السلطة الرسمية في الولايات المتحدة. يهيمن هناك غضبٌ لا شك فيه داخل جماعات من المفكرين في دول الغرب حتى راح بعضهم يستخدم عبارة كريهة من أيام هيمنة النازيين على السياسة في ألمانيا وبخاصة على من بيدهم الإعلام والتعبئة العسكرية والشعبية. اليوم تقف العبارة ذاتها مع تغيير بسيط لتصبح “إسرائيل والصهيونية فوق الجميع”. صعب جداً أن ننكر أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعدد مهم من وزرائه تقع تحت هذا العنوان. العنوان الذي عاد يُؤرق تيارات سياسية في الغرب لأنه يعني بين أشياء أخرى أن هناك قوى عالية التنظيم تختفي وراء مناصب وأساليب ديموقراطية تسعى لإشعال حالة من الحرب الدائمة في العالم، وعلى رأسها الحرب المستمرة ضد الفلسطينيين لإجبارهم على نزع فكرة المقاومة في حياتهم وحياة كل الشعوب العربية، وعلى رأسها أيضاً الحرب الروسية الأوروبية الأمريكية في أوكرانيا. لاحظنا أنه في الحالتين تسيطر على توجيه الأمور قوى وجماعات صهيونية شديدة التطرف وواسعة النفوذ وقادرة على التغلغل في صلب الكيانات الكبرى.