الفيول المغشوش.. بين تصفية الحسابات وإستباحة المنشآت

عندما تتجاوز تقديرات حصة دعم قطاع الكهرباء من الدين العام الأربعين مليار دولار، قيمة الهدر المقدر، خلال نحو عقدين من الزمن، يمكن إدراك هول نتائج ومخاطر منظومة الفساد العابر للطوائف وتجذرها في القطاعين العام والخاص، دون أن تقيم وزناً أو تحسب حساباً سوى لمنافعها وقدرتها على النهب والسرقة على حساب المال العام والمصلحة العامة. في ما يلي جردة وملاحظات، نعرضها على هامش التطورات الأخيرة التي رافقت إقدام القاضية غادة عون على فتح ملف الفيول المغشوش:

أولاً: في سياق البحث عن أبعاد وخلفيات إحالة ملف الفيول المغشوش مجدداً إلى القضاء، يجب ألا نغفل أن ثمة رغبة لدى جهات سياسية معينة بإقصاء رئيس المنشآت  النفطية المحسوب على تيار المردة، انتقاماً منه وتسهيلاً للاستيلاء على المنشآت، ومن ثم فتح صفحة جديدة في إطار إعادة هيكلة حصة فريق سياسي معين في مرافق  الطاقة والمشتقات النفطية والتوسع إلى ما بعده، وتحديداً إلى سوق البنزين بعد نجاح وزيرة الطاقة السابقة ندى بستاني في اختراق السوق ووضع يدها على حصة منه، وربما على حصة من الرسوم غير المتوجبة التي يستوفونها وتبقى في جيوبهم.

ثانياً: ربما يجد البعض أن السر يكمن في اختيار “القاضي” الذي لجأ إليه وزير الطاقة الحالي وطلب تدخله، ومن بعده قاضي التحقيق، بحيث يؤشر ذلك إلى نوايا مسبقة تضمن السيطرة على مآل الأمور، بحيث لا تخرج النتائج عن سيطرة الفريق السياسي الذي اختار وزير الطاقة الحالي وقدّمه على غيره من المستشارين، فأصبح برتبة وزير، على غرار سلفيه، فتكون وظيفة الإختيار محاولة النيل من مستهدفين محددين، وفي المقابل، حماية آخرين ينتمون إلى الفريق السياسي للوزير.

ثالثاً: ربما يكون قد بدا طبيعياً للمتابعين إقفال النيابة العامة المالية ملف الفيول المغشوش بعد انتهاء التحقيق، باعتبار أن الشحنة قد أعيدت إلى مصدرها دون أن يخرج مال من الخزينة، وبالتالي، لم تتسبب المخالفة بـ”هدر المال العام”. غير أن المستغرب والملفت للانتباه هو هذا المشهد المسرحي الذي أطل فيه وزير الطاقة الحالي، المتمسك للتو بسرية العقد، ليعلن عن  طلب إحالة الملف مجدداً للنيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان التي أحالت المستجوبين إلى قاضي التحقيق الأول، فيما جميع الأطراف المعنية بدورة تطبيق عقد شراء الفيول مع صوناتراك الجزائرية وبالمسؤولية عن أي خلل أو خطأ أو مخالفة أو غش قد يقع خلالها، يقعون جميعهم ضمن صلاحية ومسؤولية “وزير الطاقة” ويحظون برعايته وحمايته، ومنهم مدير عام عام مؤسسة كهرباء لبنان، والمدير العام للنفط ورئيس لجنة إدارة منشآت النفط التي عينها وزير الطاقة الأسبق جبران باسيل.

رابعاً، أما وقد تبين أن شركتين محددتين فقط تتوليان تنفيذ طلبيات الفيول لصالح شركة كهرباء لبنان، في إطار علاقة تربطهما بشركة صوناتراك الجزائرية ما زالت غامضة كل فصولها حتى يومنا هذا، فإن عمليات الغش في النوعية قد تكرر حصولها  خلال السنوات الماضية، ما يعني أن البحث في المسؤولية عن هذا الغش والشركاء المحتملين فيها، يستوجب العودة إلى البداية وتلمس الحقيقة بين طيات مسار تنفيذ هذا العقد، منذ توقيعه (2005) وحتى يومنا هذا، توصلاً إلى ضبط الوقائع التي يمكن أن تكون ساهمت في تعديله أو في الانحراف في تطبيقه، وأدت إلى انكشاف وهم “العقد بين دولتين”: لبنان ممثلاً بوزير الطاقة، ودولة الجزائر ممثلة بشركة صوناتراك الوطنية، وكان ذلك خلال العام 2005، خلال تولي الوزير محمد فنيش وزارة الطاقة، وقد أبرم هذا العقد الرضائي، بموافقة مجلس الوزراء تحت بريق عنوان “من دولة إلى دولة”!

خامساً، ثمة حديث عن مسؤولية يتحملها كل الوزراء المتعاقبين، وهذا الأمر يستوجب أولاً التساؤل عن مواقف هؤلاء من أخبار الفساد التي راجت بعد سنوات من توقيع العقد الأساسي حول فساد في شركة صوناتراك الجزائرية نفسها، وهل أخذ جميع هؤلاء الوزراء بعين الاعتبار هذه المعلومات المتداولة بالجدية اللازمة وبروح المسؤولية، حيث كان يمكن عدم تجديد العقد أو على الأقل إجراء مراجعة شاملة ودقيقة حوله كل ثلاث سنوات، من أجل تحصين موقع الدولة اللبنانية فيه، وضمان تحقيق المنفعة المتوخاة من إجرائه من دولة إلى دولة في الأساس؟

خلال العام 2013، وبعد 47 يوماً من بدء تشغيل البواخر (التركية)، تبين أن نوعية الفيول أويل الثقيل والمحدد في ملحق العقد مع صوناتراك لم يعد ممكناً تبريرها، إذ توقفت محركات الإنتاج العكسية التي تحملها البواخر بسبب نوعية الفيول المستخدم وإحتوائه على زيوت تؤدي إلى ضرر يصيب بخاخات المحركات

سادساً: لاحظنا أن وزير الطاقة الأسبق سيزار أبي خليل حاول رد التهمة عن فريقه السياسي ورميه على آخرين بدءاً من نشوء العقد، وهذا يستوجب توضيح النقاط الآتية:

  1. بدايةً، لا بد من التمييز في الأهمية بين أن يكون العقد موقعاً مع شركة صوناتراك BVI (المسجلة في جزر العذراء البريطانية) او صوناتراك الأم وتضمينه بنداً غريباً يتعلق بالسرية، وبين تنفيذ هذا العقد فعلياً، وهنا جوهر الموضوع.
  2. لا بد من الإشارة أولاً إلى أنه عند توقيع العقد خلال العام 2005 لم تكن هناك بواخر ولا معامل جديدة تستخدم نفس المحركات العكسية التي تحملها البواخر، والتي تعطلت بسبب نوعية الفيول، وأن الفيول السيء “المغشوش” كان يؤمن تشغيل المعامل القديمة، باعتبار أن الزيوت المحروقة والمعادن الأخرى التي يحتوي عليها تعطي مردوداً حرارياً أعلى عند احتراقها، فيما يقول آخرون أنه كان يلحق بالمعامل القديمة أضراراً “صامتة” من نوع آخر  يؤدي إلى “اهترائها” وزيادة في أعباء صيانتها وقطع الغيار التي تستوجبها، والتي كانت بحد ذاتها تتسبب بهدر أموال طائلة، بتغطية من أصحاب نظرية المردود الحراري.
  3. خلال العام 2013، وبعد 47 يوماً من بدء تشغيل البواخر (التركية)، تبين أن نوعية الفيول أويل الثقيل والمحدد في ملحق العقد مع صوناتراك لم يعد ممكناً تبريرها، إذ توقفت محركات الإنتاج العكسية التي تحملها البواخر بسبب نوعية الفيول المستخدم وإحتوائه على زيوت تؤدي إلى ضرر يصيب بخاخات المحركات.
  4. ادعى متعهد البواخر، وقتذاك، أن مكونات المحروقات المعروض استخدامها في دفتر الشروط لم تشمل الزيوت المحروقة والمعادن، التي تبين لاحقاً وجودها وهي غير ملائمة للمحركات وأدت إلى تعطيلها.
  5. أضيفت إلى البواخر أجهزة تنقية للفيول المستخدم، وذلك ومن أجل إعادة تشغيلها بأمان، وقد أجرى التفتيش المركزي تحقيقاً حول هذا الموضوع في حينه. وبنتيجة التحقيق، تبين أن نسبة الحديد والالمنيوم والسيليكون الموجودة في الفيول المستخدم من شأنها أن تؤدي إلى أضرار في بخاخات المحركات، وكذلك في أجهزة التنقية والتصفية الممكن استخدامها لمعالجة هذه النوعية الرديئة من الفيول.
  6. بتاريخ 9 تموز/يوليو 2013، أصدرت هيئة التفتيش المركزي القرار الرقم 87/2013، وضمنته توصيات لجنة التحقيق، ومنها تعديل مواصفات الفيول أويل المستخدم، والتنبيه إلى مخاطر نوعية الفيول المستخدم على المعامل الجديدة التي كانت ما تزال قيد التنفيذ في حينه، بحيث كان يستوجب ذلك من  وزير الطاقة العمل على اتخاذ الإجراءات الوقائية الآيلة إلى تأمين سلامة تركيب وتجهيز وتشغيل المحركات العكسية في معملي الذوق والجية، الجاري تنفيذهما تلافياً لأية معوقات أو أضرار محتملة.
  7. تحدث تقرير هيئة التفتيش المركزي، عن قيام متعهد البواخر بإبلاغ مؤسسة كهرباء لبنان عن احتواء الفيول المستلم لتشغيل البواخر على زيوت مستعملة ما يرفع نسبة الكالسيوم ويؤدي إلى أضرار في المحركات، وأن المشكلة هي في نوعية المحروقات، ولكن برغم هذا التقرير، لم يتحرك أحد. وهنا لا بد من التساؤل حول أسباب الإبقاء على نفس نوعية الفيول بالرغم من إبداء صوناتراك موافقتها على توريد الفيول بمواصفات 8217 ISO وبسعر الفيول أويل الثقيل نفسه بمواصفات لبنانية محددة في ملحق العقد.

لا يجب أن نغفل أيضاً ثبوت علم وزيرة الطاقة ندى بستاني بالمخالفات الحاصلة، أقله خلال العام 2019، وفقاً  لشهادة مدير العمليات المسؤول عن تشغيل وصيانة معملي الذوق والجية الجديدين

سابعاً، إن ما يستوجب تحميل وزراء الطاقة المتعاقبين، المسؤولية عن فضيحة الفيول المغشوش هو أن نتائج التحقيق وتوصيات التفتيش المركزي قد أبلغت، خلال العام 2013، إلى كل من وزير الطاقة في حينه ومؤسسة كهرباء لبنان معاً، فضلاً عن أن جميع الوزراء المتعاقبين منذ ذلك التاريخ، من دون استثناء، هم شركاء في المسؤولية، لا سيما وأنهم يستأثرون بالسلطة ويصرون على اعتبار أن الوزير وحده دون سواه، هو المعني بممارسة الوصاية والرقابة على مؤسسة كهرباء لبنان، التي تعمل في الواقع تحت إشراف وزير الطاقة المباشر أو عبر مستشاريه، ويتدخل في شؤونها الذاتية على جميع المستويات. ولا يجب أن نغفل أيضاً ثبوت علم وزيرة الطاقة ندى بستاني بالمخالفات الحاصلة، أقله خلال العام 2019، وفقاً  لشهادة مدير العمليات المسؤول عن تشغيل وصيانة معملي الذوق والجية الجديدين.

إقرأ على موقع 180  "لا" فرنسية تتقاطع مع "لا" سعودية.. واللعبة الرئاسية مفتوحة

ثامناً، لقد تصدى وزير الطاقة الأسبق سيزار ابي خليل للملف محاولاً تبرئة نفسه ورفاقه في السياسة، من خلال الحديث عن محاولات فريقه السياسي المزعومة المتكررة للتحول عن العقد عن طريق إجراء مناقصة عمومية، دون أن  يتطرق إلى موقفه شخصياً بعد ملاحظته ان عنوان صوناتراك المتعاقد معها يقع خارج الجزائر، ولا إلى قناعته بالبند المتعلق بسرية العقد، وما إذا كان وجد فيه ما يبرر تكتمهم عليه وصمتهم حيال  شوائب تطبيقه، وما إذا كان أبلغ مجلس الوزراء بهذا الالتباس والغرابة،  إضافة إلى ارتفاع السعر الذي أشار إليه، وما إذا كان قد أثار عند التفاوض على التمديد، هذه الملاحظات وحاول تحسين الشروط على هذا الأساس. ولماذا وبرغم كل ما نشر من معلومات حول العقد، بقي الغموض يلف مسألة تحول تطبيق العقد إلى ما يشبه التلزيم من الباطن وحصره بآل البساتنة، ثم آل البساتنة وآل رحمة؟

تاسعاً، كان لافتاً للإنتباه تطرق وزير الطاقة الأسبق إلى موقف إدارة المناقصات، فقد اختصر أبي خليل الموضوع واستخف بعدم ورود الصفقة ضمن البرنامج السنوي المنصوص عليه في القانون، وعن التوازن المالي بدا جاهلاً بمعناه المرتبط بعدم توازن الموجبات المالية المتبادلة التي تترتب على الفريقين المتعاقدين. أما الأفدح، فهو إصراره، على التمسك بنوعية الفيول باعتباره المناسب وفقاً لطلب المتعهد الذي نفذ إنشاء المعامل، وأغفل الإشارة إلى صدور الرأي عن خبير من الاتحاد الأوروبي استندت إليه إدارة المناقصات.

ماذا عن خطأ وزيرة الطاقة السابقة ندى بستاني في مبلغ الـ 200 مليون دولار التي طلبتها لاستملاكات معمل سلعاتا وعند كشفها زعمت بوجود “خطأ طباعي”، ثم خفضت المبلغ إلى 30 مليون دولار، وكان الفرق فقط عبارة عن “شحطة قلم”!

ويكفي أن نعرض في هذا السياق تعليق مدير عام إدارة المناقصات على كلام ابي خليل، حيث  أوضح أن دفتر شروط المسماة  “مناقصة الفيول” رُدَ مرتين إلى الوزارة المعنية للتصحيح ولم يعد.

المرة الأولى: في 29/10/2018 بسبب ما شابه من أخطاء ونواقص تخل بالتوازن المالي للعقد لصالح الشركة الأجنبية، وتخلق احتكارات من خلال وضع شروط تعجيزية، كما غابت عن احكامه مندرجات قانون مقاطعة العدو الإسرائيلي بالنسبة للشركات الأجنبية، بالإضافة إلى محاولة إجراء الصفقة من خارج البرنامج السنوي في ظل حكومة تصريف أعمال، علما ان الوزارة لم تطلب إجراء أية مناقصة في إحالتها لدفتر الشروط بل طلبت إبداء الرأي الا انها لم تاخذ به .

المرة الثانية: في 18/11/2019 بسبب استمرار تجاهل التصحيحات المطلوبة بهدف إزالة الحصرية والخلل في التوازن المالي للعقد، بالاضافة الى تجاهل الكثير من الملاحظات الواردة في تقرير خبير الاتحاد الأوروبي الذي ارفق بتقرير إدارة المناقصات واعتبر جزءًا لا يتجزأ منه.

عاشراً، إعتراف وزير الطاقة الأسبق سيزار أبي خليل خلال تحليله أرقام حصة عجز الكهرباء من الدين العام، بـ 16 مليار دولار تعود فقط للعشر سنوات الأخيرة، متجاهلاً السنوات السابقة وتكلفة بناء المعامل الجديدة في أواخر تسعينيات القرن الماضي وبعد 2011، وتأهيل شبكات النقل المتكررة ومبالغ الاستملاكات لشبكات النقل والمعامل بعشرات ومئات ملايين الدولارات، وتكلفة المستشارين والاستشاريين لوضع دفاتر الشروط والخطط وتطويرها وتقويمها والإشراف على تنفيذها وعن المبالغ المسددة عن عقد البواخر والدفعة المسبقة الموازية لقيمة توحي بـ”العمولة”، والفوائد  المتراكمة على كل هذه المبالغ المسجلة على حساب الخزينة  العامة والممولة من قروض قديمة وجديدة ما زال تسديدها قائماً حتى اليوم، وتكلفة المصالحات مع المتعهدين ودعاوى التحكيم وأكلاف محاكمها ومكاتب المحامين بعد نقل الملفات إلى رئاسة مجلس الوزراء.

في الختام، وفي موسم الحديث عن مافيا المحروقات والمازوت والمولدات، يطرح السؤال: ماذا عن مافيا البواخر والمكافآت لقاء بدعة “وفر الفيول”؟ وماذا عن خطأ وزيرة الطاقة السابقة ندى بستاني في مبلغ الـ 200 مليون دولار التي طلبتها لاستملاكات معمل سلعاتا وعند كشفها زعمت بوجود “خطأ طباعي”، ثم خفضت المبلغ إلى 30 مليون دولار، وكان الفرق فقط عبارة عن “شحطة قلم”!

(*) مدير عام الإستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  الكومودور بخير.. بيروت ليست بخير