هذا الحكم يجب التخديم عليه وتحقيق أقصى درجات الاستفادة منه حيث تضمن جوانب فى غاية الأهمية للقضية الفلسطينية ولأهالى غزة على وجه الخصوص، كما شكل طعنة كبيرة للأساس الأخلاقى الذى تبنى عليه إسرائيل كيانها أمام العالم وابتزازها المستمر للعالم لتعرض اليهود لأكبر جريمة إبادة للجنس فى التاريخ الحديث كما تدعى.
وها هى إسرائيل تمثل أمام أكبر محاكم العالم بتهمة جريمة إبادة الجنس فقد رفضت المحكمة طلب إسرائيل بعدم النظر فى القضية وقررت أن «هناك شبهة قوية بأن الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة يتعرض للإبادة واستعرضت فى سردية طويلة مفصلة المآسى التى يتعرض لها سكان غزة من هدم للمنازل وقتل جماعى وحصار يمنع عنهم الغذاء والماء والدواء وقصف للمستشفيات والمدارس والمخابز ومستودعات المياه وأماكن لجوء النازحين».
ولما كانت جريمة إبادة الجنس البشرى تتطلب ثلاثة عناصر رئيسية هى:
أولا: إثبات أنها تستهدف جماعة إثنية أو دينية وقد أثبتت المحكمة هذه الصفة للشعب الفلسطينى فى غزة.
ثانيا: وجود نية لارتكاب هذه الجريمة ضد تلك الجماعة الإثنية وقد أسهبت المحكمة فى عرض مقاطع وفقرات مقتبسة من تصريحات المسئولين الإسرائيليين ومن بينهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الدفاع وعدد من الوزراء الآخرين من أعضاء الحكومة الإسرائيلية، وكلها تشير إلى أن أمن إسرائيل لن يتحقق إلا بالخلاص من سكان القطاع سواء بالحرب أو بالتهجير، وتضمنت الاقتباسات فقرات من خطاب وزير الدفاع موجها حديثه للجنود قائلا لهم: «لا توجد محاذير فى حربكم ضد هؤلاء الوحوش الآدمية»، أو التصريحات الأخرى المطالبة بتهجير السكان منه.
ثالثا: الأفعال التى تشير إلى محاولة تنفيذ هذه النوايا.. نوايا الإبادة الجماعية.. وقد تضمنت سردية المحكمة قائمة طويلة بهذه الأعمال…
وبالرغم من أن المحكمة لم تدن إسرائيل بجريمة إبادة الجنس لأن ذلك سيبت فيه فى الحكم النهائى، إلا أنها ذكرت أن «هناك شبهة ارتكاب هذه الجريمة الأمر الذى دعا المحكمة إلى مطالبة إسرائيل باتخاذ إجراءات من أجل منع وقوع هذه الجريمة ومنها المطالب بوقف القتل الجماعى للفلسطينيين أو إيذائهم، وتوفير المساعدات الإنسانية الكافية لهم».
وطلبت من إسرائيل تقديم تقرير للمحكمة خلال شهر بتنفيذها للأمر المؤقت الخاص بالإجراءات الاحترازية.
***
علينا الذهاب لمجلس الأمن للمطالبة بإصدار تحذير شديد إلى إسرائيل لعدم اجتياحها محافظة رفح، والتهديد باتخاذ إجراءات أخرى وفقا للفصل السابع من الميثاق إذا خالفت هذا القرار، ويحسن أن تتضمن صيغة المشروع نفس ألفاظ التحذير التى سبق صدورها من بايدن ومن القادة الأوروبيين، وسوف تجد أمريكا حرجا كبيرا فى إيقاف صدور مثل هذا القرار
لقد قدمت جنوب إفريقيا للعالم العربى وللإنسانية خدمة كبيرة، وعلى العرب الآن الاستفادة منها وتوظيفها لخدمة الفلسطينيين والتخفيف من معاناتهم، وعلى رأس الإجراءات الواجب اتخاذها هو موضوع المساعدات الإنسانية.. فلا بد أن نذهب إلى مجلس الأمن لنطالب بأن تتولى الأمم المتحدة الإشراف على دخول المساعدات بما فى ذلك عمليات التفتيش لضمان عدم وجود أسلحة أو مواد أخرى محظورة وذلك من خلال آلية تنشأ خصيصا لهذا الغرض، وألا يترك الأمر لإسرائيل خاصة بعد أن قام المستوطنون والمتطرفون بمحاولات لإغلاق معبر كرم أبو سالم ومنع الشاحنات من الدخول، وهذا المطلب ــ أى إشراف الأمم المتحدة على دخول المساعدات ــ كان موجودا فى مشروع القرار الذى أعدته المجموعة العربية فى نيويورك وقدمته الإمارات العربية التى كانت تشغل المقعد العربى بالمجلس.
***
الآن فلنذهب مرة أخرى إلى مجلس الأمن ونحن مسلحون بحكم أعلى هيئة قضائية فى العالم ونقدم مشروعا يركز على المساعدات الإنسانية.. ومن حسن الحظ أن العضو العربى حاليا بالمجلس هو الجزائر ذات التاريخ الطويل فى دعم القضية الفلسطينية.
كما يجب علينا أن ننتهز فرصة اندلاع الخلاف العلنى بين أمريكا وإسرائيل الذى تجلى فى تحدى بنيامين نتنياهو لأمريكا أثناء زيارة وزير خارجيتها الأخيرة إلى إسرائيل حيث رفض نتنياهو رد حماس على الاقتراح الذى تم التوصل إليه فى باريس، والذى رأى فيه أنتوني بلينكن أشياء إيجابية، كما رفض نداء أمريكا لإسرائيل بعدم اجتياح رفح بريا وأعلن ذلك فى وجود الوزير الأمريكى بإسرائيل ورفض وقف القتال، كما رفض الإفراج عن الفلسطينيين ذوى المحكوميات الطويلة. باختصار رفض نتنياهو الصفقة الخاصة بالمحتجزين جملة وتفصيلا وأطلق على عرض حماس صفة المطالب المجنونة..
وكان من نتيجة ذلك أن صرح رئيس الولايات المتحدة بنفسه بأن إسرائيل قد تجاوزت المدى، كما أصدر قرارا تنفيذيا يأمر وزيرى الخارجية والدفاع بإلزام الدول التى تتلقى أسلحة أمريكية بالالتزام بالقانون الدولى الإنسانى وحقوق الإنسان ومصالح الولايات المتحدة، كما أوقف قرار الكونجرس بتخصيص معونة قدرها 14 مليار دولار لإسرائيل ما لم يتضمن معونات لأوكرانيا وتخصيص موارد لمجابهة الهجرة غير الشرعية..
ثم توالت التصريحات المحذرة لإسرائيل، ليس فقط من الولايات المتحدة بل من بريطانيا وسائر الدول الأوروبية بما فيها ألمانيا التى كانت تؤيد كل ما ارتكبته إسرائيل من جرائم.
***
وبالرغم من هذه الهبة المتأخرة من بايدن، إلا أن نتنياهو قرر مهاجمته فى عقر داره، ولم يكتفِ بإهانة وزير خارجيته عند قدومه لإسرائيل ولكنه سارع بالحديث إلى أهم القنوات التليفزيونية الأمريكية المؤيدة للحزب الجمهورى ــ وهى قناة “فوكس نيوز” ــ وأعلن من منصتها أن الذى يحاول منعنا من الهجوم البرى على رفح لاجتثاث ما تبقى من كتائب حماس إنما يريد لنا الهزيمة.
ويبدو أن هجوم نتنياهو حقق نتائج فسرعان ما اتصل به بايدن وطالبه بأن يلتزم فى اقتحامه لرفح بخطة مدروسة تكفل الأمن للمدنيين.. يعنى إعطاءه الضوء الأخضر لغزو رفح.
وبالرغم من هذا التراجع المشين فلا يجب علينا أن نقف مكتوفى الأيدى، فلا زال التوتر قائما بين بايدن ونتنياهو، وعلينا الذهاب لمجلس الأمن للمطالبة بإصدار تحذير شديد إلى إسرائيل لعدم اجتياحها محافظة رفح، والتهديد باتخاذ إجراءات أخرى وفقا للفصل السابع من الميثاق إذا خالفت هذا القرار، ويحسن أن تتضمن صيغة المشروع نفس ألفاظ التحذير التى سبق صدورها من بايدن ومن القادة الأوروبيين، وسوف تجد أمريكا حرجا كبيرا فى إيقاف صدور مثل هذا القرار..
كما أناشد الجامعة العربية الدعوة إلى مؤتمر دولى لهيئات حقوق الإنسان الأممية والدولية والمحلية بما فى ذلك الإسرائيلية لمؤازرة هذا التحرك العربى، وأن تنصب مخرجات هذا المؤتمر الدولى على:
1. التحذير من اجتياح رفح وما سينجم عنه من جريمة إبادة للجنس مروعة وتهجير قسرى.
2. المطالبة بتدفق المساعدات الإنسانية بما يتناسب مع احتياجات السكان.
3. وقف التشهير بمنظمة الأونروا خاصة وأن إسرائيل لم تقدم دليلا واحدا يدعم مزاعمها، وإلغاء قرارات تجميد الدعم لها حتى تصدر لجنة التحقيق الدولية قرارها فى المزاعم المنسوبة للأونروا.
4. تكثيف الضغط على إسرائيل من أجل التوصل لصفقة سريعة تكفل وقف إطلاق النار لمدد طويلة وانسحاب القوات الإسرائيلية على مراحل تبدأ بالانسحاب من المدن ومعسكرات اللاجئين وتبادل الإفراج عن المحتجزين بالسجون الإسرائيلية ولدى قوات المقاومة.
***
أخيراً، فإنى أود أن أنبه إلى عنصر الوقت وأن من المهم أن تتوالى هذه الخطوات الآن حتى تؤتى ثمارها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“