لولا الفرق الشاسع في قيمة العملة الوطنيّة، بين ذاك الزمن وهذا الزمن، لظنَّ المرء أنّ “شحّاذين يا بلدنا” لم تُنظَم قبل نصف قرن، بل قبل نصف ساعة. إذْ أثبتت كلماتها أنّ “أصالتها” تزداد، كلّما تعتّقت آلام اللبنانيّين في خوابي بيوتهم. كالنبيذ تماماً. تسرد الأغنية واقع ذلك العصر، حيث كان لبنان يعيش في بحبوحة. ولديه فائض في الميزانيّة وفائض في البؤس، أيضاً. وهي تسرد واقع هذا العصر، حيث أصبح لبنان يعيش في فاقة. ولديه عجز في الميزانيّة وتضخّم في فائض البؤس، والـ”أيضاً”. تحكي عن نشّالين ونصّابين وعاطلين ومعطَّلين (عن العمل) ومشرَّدين ومساكين ومظلومين وطفرانين… أي، عمَّن يموضعهم علم الاجتماع، في أسفل البناء الهرمي للمجتمع. فـ”شحّاذين يا بلدنا” تشير إلى هؤلاء بالبَنَان، كضحايا. ضحايا لمَن لا يُخلِّفون وراءهم إلاّ الضحايا. أينما ساروا أو اتّجهوا، وكيفما نشطوا أو تقاعسوا.
بسخريّته السوداء المعهودة، يحاكي “شوشو” وجع الناس. ويترك لنا معادلته الوخيمة: “سرقونا الكبار وباعونا الكبار… ونحنا حراميّة دراويش زغار زغار زغار (والتكرار للتدليل على صغرهم الشديد)”. معادلةٌ وضعت (وتضع) في ميزان العدالة اللبناني ذاتِه: ارتكابات “الصغار” في كفّة. وارتكابات “الكبار” في كفّة. والنتيجة؟ هي مثلُ مَن يوازن، بين القشّة والبعير. فور تعميم الأغنية، تحرّكت النيابة العامّة في لبنان. فاستدعت “شوشو” للتحقيق في حيثيّات “الجريمة الكبرى”. وعليه، داهم عددٌ من رجال الأمن مكتب “الفنّان الذي يرتدي ضحكته” (كما كان يوصَف). وصودرت، من “المسرح الوطني” في بيروت، مئة وخمسٌ وثلاثون إسطوانة. مع صدور أمرٍ صارم يُلزِم “شوشو” بسحب الأغنية من الأسواق (الذكاء الأمني إيّاه).
ولكن، ما الذي أخاف السلطة في تلك الأغنية؟
إنّه إشهار المعادلة (الآنفة الذكر) وتعريف الناس بمضامينها الكامنة. فهي تفضح ما كانت تقترفه هذه السلطة في الخفاء. بدءًا بسياساتها الاحتكاريّة، وصولاً إلى سياسات الارتهان والجاسوسيّة للسفارات و…”الخارج”. وبين السياستيْن، تُعرِّي الأغنية (على بساطتها المُمتنِعة) السياسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة للنظام. لا يُخبِر مضمون “شحّاذين يا بلدنا” عن فقر بعض اللبنانيّين. على الرغم من أنّ رائحة الإفقار، تفوح من تفاصيل اللوحة التي ترسمها الأغنية. هي ترمي، تحديداً، إلى توصيف حال فئاتٍ عريضة من المواطنين، يهمِّشهم النظام والمجتمع. وهي تومئ (بألفاظٍ اتّهاميّة) إلى “القيِّمين” على هذا التهميش الذي امتهنه بلدٌ، وقف ذات 13 نيسان/أبريل على فوَّهة بركان. والتهميش يا أصدقاء، لا يعني الفقر حصْراً. فالفقر هو الفقر، ولا حاجة لأيّ قاموسٍ لتعريفه. بينما يعني التهميش والإمعان فيه، في ما يعنيان، انعدامَ الدور والموقع والفاعليّة للإنسان. مطلق إنسان. ودفْعه ليعيش على حافة المجتمع. وغالباً في الظلّ والظلام. إذْ يمكننا تشبيه الشخصيّة المُهمَّشة في الحياة، بالشخصيّة الخلفيّة في الرواية. أي، تلك الشخصيّة التي لا دورَ أساسيّاً لها في أحداث القصّة. ولا دور لها، على الإطلاق، في حبكة هذه القصة. بل ينحصر دورها، في المساعدة على رسم الحدث. وعلى تنمية الحبكة وإعطائها بُعْداً واقعيّاً، بالمعنى اللغوي للكلمة. المُهمَّش هو من الـ”كومبارس”. يقود سيارة في مسلسل درامي. أو يفتح باباً في فيلم. أو يحمل رسالة في مسرحيّة. والـ”كومبارس” لا يكون لهم، عادةً، أسماء. لا أحد يحاول رؤيتهم أو تمييزهم. إلاّ عندما يرتكبون الأخطاء والخطايا والحماقات. ومتى تحوّلوا إلى “زعران”، نراهم يقتحمون الصورة والمشهد لاحتلال الصدارة كي يراهم الجمهور. فهُم، ومن خلال التظهير العلني والصاخب للعنف، ينتقمون من تهميشهم وممّن (يعتقدون أنّه) همَّشهم. وينطلق انتقامهم، أحياناً، بقوّة دفعٍ ذاتي. أو، في أغلب الأوقات، بقوّة التوكيل الذي يُعطى لهم من الغير. من “الزعران الكبار”. فهؤلاء يكلّفون المُهمَّشين أو “الزعران الصغار” بمهمّات محدَّدة (هتافات، ضرْب، حرْق، تكسير، مولوتوف، قتْل..). وأحياناً أخرى، يوصونهم بالاكتفاء بتنفيذ بعض عراضات القوّة والترهيب. بمعنى، عراضات تكون كـ”الاستطلاع بالنار” (بلغة العسكر). كيف تتمّ عمليّة تكليف “الزعران الصغار”؟
يتقمّص “الزعران الكبار”، ممّن يواظبون على حضور أفلام كوبولا، سلوك رجال المافيات والعصابات. يوصلون تعليماتهم إلى “الزعران الصغار”، بطريقةٍ أو بأخرى، للترهيب أو التخريب
يتقمّص “الزعران الكبار”، ممّن يواظبون على حضور أفلام كوبولا، سلوك رجال المافيات والعصابات. يوصلون تعليماتهم إلى “الزعران الصغار”، بطريقةٍ أو بأخرى، للترهيب أو التخريب. تماماً، كما يلخّص الأخوان الرحباني، بأسلوبٍ فكاهي، مضمون هذا “التكليف”، في حوارٍ سريع يدور بين “أزعر كبير” و”أزعر صغير”. يقول الكبير وهو يوصي الصغير بالكتمان والإنكار الشديديْن (في حال الانكشاف): “مين بَعَتَك؟ مين دَفَعَك؟ مين دفَعْلَك؟”. فيجيبه الصغير “ما حدا بيعرف. طمِّن بالك. هيذي مصلحتنا”.
لا بدّ من التمييز، في هذا السياق، بين نوعيْن أساسيّيْن للمُهمَّشين: مُهمَّشو المدن ومُهمَّشو الأرياف. والناشطون في الأرياف، غالباً ما يعملون “على القطعة”. إذْ يتمّ شحنهم (ساعة الشِدَّة) من مناطقهم وقراهم البعيدة. لدعم وتزخيم نشاط نظرائهم المَدِينيّين. وفي لبناننا، يُضاف صنفٌ ثالث (نادر) من التهميش (أو ادّعائه): الطائفة المُهمَّشة، مع كلّ توابعها (أبناء وأحزاب وتكتّلات ومواقف وآراء ومناصب ووظائف وحصص وجوائز ترضية…إلخ). هذا النوع الثالث، يضمّ في حناياه (ومتى دعت حاجة الطائفة) النوعيْن الأوّليْن. ومن المفيد توضيحٌ بسيط هنا للقارئ العربي، كي لا يضيع في متاهات إنجازات نظامنا العظيم:
- كبِرنا في لبنان وفي ذهننا ووجداننا، أنّ الطائفة الشيعيّة مُهمَّشة لأنّها محرومة. ولذا، أنجب تهميشها أحزمة بؤس في ضواحي بيروت. وعندما زالت الظروف الموضوعيّة لهذا الحرمان، لم تنمحِ صفة البؤس عن هذه الضواحي. لكنّها “ارتقت” وباتت تنجب “أشرف المُهمَّشين”.
- بعد الحرب الأهليّة، باتت الطائفة المارونيّة هي التي تنعى تهميشها (السياسي). بعدما “شلّحها” اتفاق الطائف مزايا ودوافع استكبارها على باقي الطوائف. فأصبحت لا تتكلّم إلاّ عن الإحباط والحقوق الضائعة (باسم مسيحيّي سائر المشرق). ولا تنجب للجمهوريّة إلاّ الرؤساء المحرومين. وتُرجِمت “هذه المشاعر” مقاطعةً للانتخابات النيابيّة ذات مرّة. لكنّها زخّمت (ويا للعجب!) المناكفات والصراعات في الـ rally إلى قصر بعبدا، حيث التمتّع بالحرمان (شيءٌ من عقدة المازوشيّة).
- منذ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، اندفعت الطائفة السُنيَّة بزخم على درب جلجلة التهميش. ومن دون الإطالة في الشرح. يمكننا القول إنّ السبب الجوهري للمناداة بالمظلوميّة السُنيَّة، ليس إلاّ الإنهاء الرسمي والمدني والعسكري للمظلوميّة الشيعيّة… وهكذا. لكلّ طائفةٍ كريمة في لبنان، دورها ووقتها وظروفها ودوافعها في إعلان “مظلوميّة التهميش”.
غير أنّ النوع الثالث من التهميش، خطيرٌ جدّاً. لماذا؟ لأنّه المحفِّز المركزي للنوعيْن الآخريْن. فـ”الطائفة المُهمَّشة” (على حدِّ ادّعائها) تدفع بالمُهمَّشين، أفراداً أو جماعات، للّجوء “الرسمي والمُبَارَك” إلى العصبيّات الطائفيّة. وهؤلاء لا يجدون إلاّ الوسائل غير المشروعة للتعبير عمّا يعتمل في نفوسهم. فـ”الزعران الصغار” يرون إلى كلّ مهمّة يكلّفهم بها “الزعران الكبار”، كفرصةٍ تاريخيّة لعودتهم الصاخبة والعنيفة إلى الشارع. سواء على متن دراجاتهم الطائفيّة، أو على درّاجات منصّات التواصل الاجتماعي (الطائفيّة أيضاً).
في لبناننا، لا يجيد المُهمَّشون إلاّ التعبير الطائفي ليُظهِّروا تهميشهم. فهُم يعبِّرون، غالباً، عن قصورهم المعرفي ببروزهم كمواطنين مسيَّسين متطرّفين (طائفياً)
لماذا التركيز على التهميش والمُهمَّشين؟ لأنّنا في لبنان، انشغلنا على مدى أسبوع، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، بالزعران وغزواتهم على درّاجاتهم الناريّة أو “موتسيكاتهم” (بلغتهم). وهذا الانشغال أدارته ثلاث جبهات اجتمعت على التنديد بـ”الزعران”:
الجبهة الأولى، تولّى عملياتها مَن يعتبر أنّ بيروت طُوِّبت له بموجب حصْر إرث طائفي. فهي ليست عاصمة لبنان. بل عاصمة سُنَّة لبنان. بل قلْ، اختصاراً، عاصمة البيارتة. استفاق “قادة المحاور” على ضجيج اندلاع أزمة “التخريب” في وسط بيروت، وعُقر دار الحريريّة: “سوليدير”. وبتعابير استثنائيّة بسطحيّتها، بدأ توجيه الرسائل السياسيّة بقالبٍ ثأري وذرائع أمنيّة. أمّا المُرسَل إليه فكان: “لمَن يعنيهم الأمر”. فتح “أهل بيروت الأصليّون”، مع مناصريهم، المندبة على أبنية المدينة وحيطانها وأرصفتها. فلقد شلّعها وحرقها الرعاع والزعران الحاقدون. ويقصدون بهم مُهمَّشي الضواحي الجنوبيّة والشماليّة لبيروت (ناظمي هتافات “شيعة شيعة شيعة”). ويدعم هؤلاء مُهمَّشو طرابلس وضواحيها (من ناظمي الهتافات نفسها، ولكن مع استبدالهم كلمة “شيعة” بـ”سِنيّة” وتكرارها لمرتيْن فقط بدل الثلاث).
الجبهة الثانية، كانت أكثر تحضُّراً. وأدارها أركان ومناصرو الانتفاضة الأصليّة (تمييزاً لها عن الزائفة). هؤلاء عبّروا بأسى عن “ثورة اللبنانيّين التي سرقها الزعران”. واعتبر ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، أنّ ثنائي حزب الله- حركة أمل يتحمّل، حصْريّاً، مسؤوليّة شيطنة التظاهرات الشعبيّة وإخراجها من سياقها. فككلّ مرّة، برأيهم، يُطلق الثنائي “المستقوي بالسلاح” العنان، لاعتداءات زعرانه الموصوفة. كي يدلق هؤلاء كلَّ حقدهم ونقمتهم المكبوتة عنفاً على الثورة والثوّار. وبعد تنفيذ ما يطلبه الثنائي منهم، يسارع هذا الأخير لرفع الغطاء الحزبي عن هؤلاء والتبرُّؤ منهم ومن أفعالهم، بعد أن تصل الرسالة في ترهيب الشارع وتخويفه من الحرب.
الجبهة الثالثة، تولاّها رئيس الحكومة حسان دياب بصفته الشخصيّة لا الرسميّة. وسبب فتْح هذه الجبهة لا يزال، في الحقيقة، مجهول الدوافع. لأنّ ظاهره يبدو أنّه “غيرة الحكومة” على الهيبة المهدورة لرجالها (في الأمن والسياسة والقضاء)، على يد زعران الغزوات الأخيرة لبيروت (تحديداً). لكنّنا، وبعد التمحيص، نستشفّ أنّ الدافع الحقيقي هو أنّ رئيس حكومتنا (الذي بات يُعمَّم اسمه المُستحدَث “حسان غياب”) أراد الإثبات أنّه سمع. وقَشَع غضبُه كلَّ احتقانٍ وإهانةٍ وإساءة. وإمعاناً في تقرُّبه من الشعب، استبدل لغة خطابته الخشبيّة بالفصحى، بأخرى بالعاميّة. وبعد؟
يشكّل مُهمَّشو لبنان، بلا ريب، تحديّاً حقيقيّاً للسلطة وللطبقة السياسيّة التي ترعى تهميشهم وتمدّه بالمقوّيات. لذا، نلاحظ كيف ينطلق هؤلاء، بسلوكيّاتهم، من عقليّة الاستقواء وتحصيل الحقوق بالقوّة. حتى ولو كانت هذه الحقوق مُتَخيَّلة وغير حقيقيّة، لأنّ “القوي بياكل اللحم المستوي (الناضج)”. وفي لبناننا، لا يجيد المُهمَّشون إلاّ التعبير الطائفي ليُظهِّروا تهميشهم. فهُم يعبِّرون، غالباً، عن قصورهم المعرفي ببروزهم كمواطنين مسيَّسين متطرّفين (طائفياً). إنّما، قد تكون همجيَّة هؤلاء المُهمَّشين (الذين يسمّيهم المصريون ملح الأرض)، أرحم بكثير من تحضُّر أسيادهم في السلطة. وما اجتياحهم الشوارع الغاضبة إلاّ الدليل الحيّ على هشاشة بنية المجتمع اللبناني. وعلى عمق مخزونه من ثقافة التطرّف والتخلّف الاجتماعي. فهذه الثقافة التي تحقِّر راكب “الموتسيك” صباحاً. هي ذاتها مَن يدفعه ليسحق راكب “الموتسيك” الآخر ظهراً. وتعبِّئه ليعتدي مساءً على ثوّارٍ ما زالوا مؤمنين (حتى اللحظة)، بأنّ الاحتجاجات السلميّة هي وحدها السبيل لانتزاع “الزعران الصغار” من بين أنياب “الزعران الكبار”.
كلمة أخيرة. تقول حِكمة: “المصيبة ليست في ظلم الأشرار، بل في صمت الأخيار. لذا لا تقف أبداً موقف المتفرِّج على الظلم أو الغباء. فالقبر سيوفّر لك متّسعاً من الوقت للصمت”. ليست كلّ الحِكم طوباويّة. إقتضى التذكير.