الفاتيكان للراعي: قبل تحييد لبنان.. نريد حياد المسيحيين!

كان لافتا للإنتباه، تسريب خبر انتقال البطريرك الماروني بشارة الراعي قريباً إلى روما، ناقلاً مشروعاً عنوانه "حياد لبنان"، تردد أنه ينوي حمله إلى المحافل الدولية تمهيداً للعمل عليه وتطبيقه.

مشروع الحياد اللبناني ليس جديداً. انطلقت الفكرة من ايام البطريرك الماروني انطوان عريضة. ثمة قسمة في التوصيفات التاريخية. البطريرك الياس الحويك  هو “أب لبنان الكبير” والبطريرك عريضة هو “أب الاستقلال”.

قبيل استقلال لبنان بعامين، جمع البطريرك الماروني أنطوان عريضة القادة اللبنانيين من كل الطوائف في الصرح البطريركي في بكركي، يوم 25 كانون الاول/ديسمبر 1941، واطلق النداء الشهير الذي اعتبر انه من خلاله يجمع القادة المسيحيين والمسلمين حول فكرة نيل الاستقلال، وكان لبنان في خضم الحرب العالمية الثانية، وليس وارداً في حسابات فرنسا منحه هذا الإستقلال، كونها كانت منقسمة بين فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديغول وفرنسا الجنرال فيشي الخاضعة للاحتلال الالماني.

هذا النداء اطلق يد بشارة الخوري في المضي بالمطالبة بالاستقال تحت شعار “لا للشرق ولا للغرب”، الى اقصى حد، ولاقاه رياض الصلح في هذا الشعار، ويومها كان موقف البطريرك عريضة محورياً لان المناخ الماروني الوازن، وقتذاك، كان يميل اكثر الى اميل إده الذي كان يعتبر انه يجب بقاء فرنسا في لبنان دولة منتدبة، وانه لم يحن موعد المطالبة بالاستقلال وليس وقت المطالبة بتعديل الدستور، بينما تخوض فرنسا غمار الحرب العالمية الثانية، وكان مشروع إده يرمي إلى تطبيق معاهدة الصداقة الفرنسية اللبنانية  التي تعطي الفرنسيين سلطات واسعة في لبنان لسنوات طويلة تصل في بعض المرافق الى تسعين سنة.

عندما اعطى البطريرك عريضة اشارة الاستقلال في نداء بكركي الشهير، أشعل حماسة مطران بيروت للموارنة أغناطيوس مبارك الذي تبنى في عظاته مطلب إستقلال لبنان. ومن أجل طمأنة موارنة لبنان من انه اذا تم جلاء القوات الفرنسية عن لبنان، فإن ذلك لا يعني فقدان الحماية الفرنسية لهم، كانت المطالبة بفكرة حياد لبنان وتم تضمين نص النداء المطالبة بحياد لبنان. حينذاك، وضعت في الميثاق الوطني الذي بقي حبراً على ورق، عبارة “الصيغة”، ليس بمعنى “المعادلة” انما من “الصياغة” المأخوذة من الذهب، اي أغلى ما توافق عليه اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين، وهي عبارة “لا للشرق ولا للغرب” وان لبنان ذو وجه عربي، وهي العبارة التي كان مقصوداً منها عدم اثارة احد من “الأمم” بما يمكن لبنان من نيل استقلاله في اقرب وقت. واستمر الصراع مع فرنسا الى حين وصول اللواء فؤاد شهاب الى سدة رئاسة الجمهورية، أي بعد ثورة العام 1958 حيث تم رفع شعار رفض الاحلاف ان كانت عربية او غربية.

عندما حدّد يوحنا بولس الثاني النطاق الجغرافي لاندماج لبنان قال “من ايران الى السودان وشمال أفريقيا”، واستخدم عبارة “الاندماج” في العالم العربي ولم يستخدم عبارة “الانضواء” كما تم تحريف ترجمة الارشاد في لبنان

بعد عودة ديغول الى الحكم في فرنسا، ولان فؤاد شهاب كان يخشى ركوب الطائرة، أوفد في العام 1959 ميشال الخوري نجل بشارة الخوري الى فرنسا للتفاوض مع ديغول لضمان حماية لبنان في مواجهة مخاطر خارجية أولها لخطر الإسرائيلي الزاحف بعد نشوء الكيان الصهيوني. ذهب ميشال الخوري وقابل ديغول الذي كانت له طريقته في استقبال ضيوفه. يقف ديغول حتى لا يقال انه متكبر وانه يمارس العظمة، فيدخل الضيف ويجد ديغول واقفاً في انتظاره في مكتبه، واول عبارة قالها ديغول لموفد شهاب، “انا اعرف جيداً أنت إبن مَنْ؟ الآن تأتون لطلب مساعدة فرنسا بعدما رفضتم بقاءها كدولة منتدبة”.

بطبيعة الحال نحن أمام لحظة لبنانية مختلفة. الثابت الوحيد هو الخطر الإسرائيلي في المنطقة، أما سوريا فقد أصبحت في موقع دفاعي منذ حوالي العقدين من الزمن. يصبح السؤال، هل يمكن أن يجد البطريرك الماروني آذاناً صاغية في الفاتيكان؟

لسان حال كل سفراء الكرسي الرسولي وموفدي الفاتيكان إلى لبنان، منذ العام 2000 أنه على اللبنانيين أن يعيدوا صياغة علاقاتهم الداخلية، من خلال عقد إجتماعي جديد، قبل الإلتفات إلى ما يجري في الجوار. هم فوّتوا لحظتي إنسحاب إسرائيل في العام 2000 وسوريا في العام 2005، ودخلوا في معارك وأحلاف داخلية، تسببت بتشققات في البنيان اللبناني. ماذا إذا وقف البابا فرنسيس وقال للراعي: قبل أن تنادوا بالحياد الدولي، هل يمكن للمسيحيين أن يكونوا محايدين في بلدهم، فلا يكونوا اليوم رافعة لهذا المشروع الداخلي والإقليمي والدولي وغداً رافعة لمشروع نقيض؟ هل يمكن للمسيحيين أن يكونوا جسراً للتقريب بين اللبنانيين لا التفرقة في ما بينهم؟ هل يمكن للمسيحيين أن يكونوا رياديين في مشروع إقامة دولة قوية عادلة ومتوازنة تضمن حقوق الجميع؟ هل يمكن للمسيحيين أن ينخرطوا أكثر في مؤسسات الدولة اللبنانية وأن يقدموا النموذج في الشراكة الوطنية؟

الكل يعلم أن طرح البطريرك الراعي الداعي إلى حياد لبنان ليس جديداً. الطرح قديم والمذكرة التي اعلن انه رفعها، سبق ورفعها منذ فترة طويلة سابقة الى الكرسي الرسولي، ولم تعط الاهمية اللازمة، لأن موقف الكرسي الرسولي من لبنان واضح من ايام البابا بيوس الثاني عشر، اي منذ خمسينيات القرن الماضي الى اليوم، وكرّسه البابا يوحنا بولس الثاني بالارشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان”، وطلب فيه اندماج لبنان كجزء لا يتجزأ من العالم العربي، وان المطلوب من الكنيسة في لبنان الإنفتاح لا أن تتقوقع، وعندما حدّد يوحنا بولس الثاني النطاق الجغرافي لاندماج لبنان قال “من ايران الى السودان وشمال أفريقيا”، واستخدم عبارة “الاندماج” في العالم العربي ولم يستخدم عبارة “الانضواء” كما تم تحريف ترجمة الارشاد في لبنان بعدما رفض البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير عبارة “الاندماج” واستبدلها بعبارة “الانضواء”.

إقرأ على موقع 180  هل تنسحب أميركا من الشرق الأوسط؟

إذا كان موقف الكرسي الرسولي واضحاً وضوح الشمس، فإن شخصية قريبة من الفاتيكان تشدد على ان لبنان لا يمكنه انكار الثوابت التالية:

اولا، لا يمكن للبنان انكار موقعه الجغرافي.

ثانيا، لا بد من صياغة عقد إجتماعي جديد بين اللبنانيين، يكون ناظما لعلاقاتهم الداخلية وضامناً لحقوق الجميع.

ثالثا، هناك شروط للحياد. إذا أعلن لبنان حياده، هل ستحترم إسرائيل هذا الحياد ولا تعتدي على أرضه ومياهه وثرواته وتعيد مزارع شبعا والجزء الشمالي من بلدة الغجر إليه؟ وإذا قرر لبنان الحياد، هل المقصود الحياد بين الفلسطيني الذي يناضل من أجل إستعادة حقوقه وبين الإسرائيلي الذي يريد التوسع وشطب القضية الفلسطينية وهل المطلوب حياد لبنان في قضية التوطين؟ كيف نكون دولة محايدة وفي ذات الوقت نستمر بدعم القضية الفلسطينية، ثم هل يمكن أن يكون هناك حياد في التعامل مع الارهاب؟

ثمة قواعد ومسلمات في السياسة الدولية، وهذه لا تخضع لمزاج دولة او فريق داخل دولة، وعلى كل دولة احترامها وتطبيقها، ولو سلمنا جدلا ان الدول المحيطة وافقت على حياد لبنان، فان السؤال الكبير: هل أن كل اللبنانيين أجمعوا اليوم على حياد لبنان؟ ولو ان هذا بات محققاً، لتمت الموافقة على حياد لبنان من ايام البطريرك عريضة  يوم كانت اسرائيل لم تتوسع بعد، وما كنا انتظرنا الى ايام البطريرك الراعي، حيث اسرائيل توسّعت وسوريا تشهد على أرضها حرباً عالمية مما جعل الارهاب على حدودنا مباشرة.

(*) راجع مقالة ملحم الرياشي عن الحياد اللبناني.. وما إليه:

 https://180post.com/archives/9655

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  التراجيديا اللبنانية والـ Total collapse