ما كانت هذه المقدمة لتكون لولا هذه الاختلافات العميقة اليوم داخل المجتمع اللبناني حول الاولويات، حول سقوف المعارك الداخلية، حول الاهتمامات المشتركة وغير المشتركة، وحول الجشع الذي لا ينتهي الى سلطة عابرة اتى الفايروس التاجي “Corona” ليؤكد ضحالة هذه الصراعات، ولاجل تاج.
ان لبنان يمرّ بأحوال عصيبة جداً، حصاراً وانهياراً وجوعاً وفساداً، ومن المقدر ان تطول وقد تنفجر بعد انحسار الوباء التاجي، باستثناء ان يلجأ اللبنانيون الى اخذ المبادرة والانتقال الى مرحلة جديدة تستحق الابداع من خارج التقليد وإعادة النظر لحماية ما تبقى والبناء عليه، قوةً دافعة للزمن الآتي.
وبعد، ما اقترحه للمهتمين وللراي العام عبر هذه السطور، قد يبدو من خارج العلبة لكنه من داخل التاريخ؛ وقد مرّت على لبنان تجربة سلام استثنائية طويلة الردح، منذ قرنين الى اليوم، كانت تجربة المتصرفية التي ارست سلاماً دولياً على جبل لبنان -في حينه- امتد لخمسين سنة وزد، ولولا الحرب العالمية الاولى لاستمرّ وتطور ليواكب معطيات جديدة او مساحات جغرافية جديدة اضيفت الى الجبل مع لبنان الكبير عام 1920.
اهمية هذه المتصرفية، كمثل، انها فُرضت على لبنان على اثر نزاعات 1860 وما سبقها عام 1840، لتُقرّ على الاثر برعاية فرنسا وروسيا وبروسيا وبريطانيا والنمسا زائد السلطنة العثمانية، ما عرف في حينه بنظام المتصرفية.
قضى هذا النظام بتشكيل مجلس اداري، اي حكومة، من اثنتي عشر عضواً موزعين كالتالي: 2موارنة، 2 اورثوذكس، 2 كاثوليك، 2 سنة، 2 شيعة و2 دروز، وبادارة متصرف مسيحي غير لبناني ولا تركي تسمّيه الدولة العثمانية بموافقة الدول الخمس الكبرى.
وادى هذا التحييد (الذي فرضته الدول الكبرى) الى ازدهار الجبل في مختلف مجالات الحياة خصوصاً التعليمية منها والاقتصادية، والى تحييد جغرافية المتصرفية عن الصراعات القائمة في المنطقة، فكان ان حمى الجبل رأسه من ضرب الفيلة المتصارعة على الدولة العثمانية المتهالكة.
لا بد من الدعوة الى اعادة احياء تجربة الحياد اللبناني الذي نجح في زمن المتصرفية بقرار دولي مفروض على لبنان فرضاً. ولكن هذه المرة عبر تزويجه على قرار لبناني
ان الامم الذكية هي التي تتمسك بتجاربها الناجحة لتستعيدها وتعيدها بما يتلاءم مع واقعها الجديد ومصالح ابنائها. فلا تصرّ على تقليد الفشل، ولا تتشدد في ابتذال القناعات الزائلة لتتحول بالتالي حقلاً ترفيهياً لصيد الكبار، وملعباً لمآربهم وصراعاتهم، ومضحكةً للتاريخ!
من هنا لا بد من الدعوة الى اعادة احياء تجربة الحياد اللبناني الذي نجح في زمن المتصرفية بقرار دولي مفروض على لبنان فرضاً. ولكن هذه المرة عبر تزويجه على قرار لبناني، يجعل هذا الوطن يأخذ المسافة اللاغية لاي تدخل في شؤونه من اي كان، ويجعل اللبنانيين لا يتدخلون او “يعظون” في شؤون الآخرين وصراعاتهم.
ان الاجماع الوطني على اتفاق الطائف، ولو تنوعت أنظمة السيطرة على البلد من خلاله بحسب موازين القوى المتبدلة، ادى في العام 1990 الى اعلان نهاية المارونية السياسية، لتقوم على جثتها السنية السياسية معطوفة على قوة درزية تقدم التوازن الخاص باستثنائيته لتلك المرحلة، وليحلّ العام 2005 ويسقط رفيق الحريري وتلفظ السنية السياسية انفاسها الاخيرة في 7 ايار/مايو 2008، وتقوم على جثتها الشيعية السياسية التي قادها حزب الله وهي بدورها بدأت تلفظ انفاسها الاخيرة في 17 تشرين الاول/أكتوبر 2019. ومع سقوط هذه الطوائفيات السياسية، تتنازع لبنان مجموعة خيارات يسعى ابناؤه، خصوصاً الاجيال الجديدة منها، بدءاً من الدولة العلمانية المركزية مروراً بالفيديرالية الجغرافية الى الفيديرالية الطوائفية ووصولاً الى التقسيم وما بينهما.
اعتقد ان بحث النظام السياسي في لبنان يحتاج الى جلسات مكثفة بين مكوناته من اجل تعديله و/او تطويره. لكنّ هذا الامر مستحيل قبل تحقيق أمرين استراتيجيين، أولهما، فصل لبنان عن تجاذبات السياسات الإقليمية والدولية، وثانيهما، تحقيق هذا الفصل من دون ان يؤدي ذلك الى انفصال ينعكس سلباً على لبنان.
عبر الحياد اللبناني يمكننا اعادة النظر من خلال الحوار بين مكونات الوطن والولوج الى اي ترتيب يتناسب مع وحدة أراضيه، سواء عبر دولة اتحادية حقيقية تحقق التوازن او عبر تطوير اتفاق الطائف اذا ما رغب الراغبون
إقرار الحياد، بقرار داخلي ذاتي المنشأ، او الاستعانة بمجلس الامن الدولي عبر نقل المسألة اللبنانية الى طاولته، واقرار هذا الحياد تماماً كما تمّ إقرار نظام المتصرفية “بالفرض” في العام 1860. ومن دون ان نعدم وسيلة، طرح لما لهذا الحياد من ارتباط عضوي بمستقبل لبنان وشكله السياسي والثقافي على السواء؛
عبر إقرار الحياد اللبناني، يخرج لبنان من الصراعات المتكررة والمملة والقاتلة لشعبه، ويدخل في فترة ازدهار واستثمار قد يكون لهذه القوى المتصارعة على ارضه دور فيه ومن دون اي استثناء.
- عبر إقرار الحياد يتحول لبنان الى واحة حوار ومساحة لقاء لكل مختلفَين في العالم او اكثر، تماماً كما هي جنيف او آستانة اليوم.
- عبر إقرار الحياد يرتاح الشيعة اللبنانيون من تحمل اعباء الصراع الاميركي-الإيراني ومندرجاته وتبعاته، وينزلون بالتالي عن أكتافهم التكاليف الباهظة لهذا الصراع العسكري غير المتكافئ، فلا يستحيل لبنان بالتالي ساحة ولا يتحول شعبه الى وقود كبيدقٍ في لعبة الامم.
- عبر الحياد اللبناني تخرج المواطنة من عنق الصراع الطائفي على حسابها، ونستطيع بعدها الولوج الى لبننة الانسان وفصل الدين عن الدولة.
- عبر الحياد اللبناني يطلّ الجيل اللبناني الجديد من خارج التوازنات الحالية، ويضع يده على مقاليد مصيره.
- عبر الحياد اللبناني ينفتح نقاش حقوق المرأة على مصراعيه بكل ابعادها السياسية والشخصية، ولن يقوم قانون مدني يمكنه ان يحقق التوازن المجتمعي والجندري، الا من من خلال الحياد، فتُسقط المرأة بنفسها وعبر حركتها وديناميتها، محاكم الظلم عنها، لصالحها.
- عبر الحياد اللبناني يمكننا اعادة النظر من خلال الحوار بين مكونات الوطن والولوج الى اي ترتيب يتناسب مع وحدة أراضيه، سواء عبر دولة اتحادية حقيقية تحقق التوازن او عبر تطوير اتفاق الطائف اذا ما رغب الراغبون.. لكنّ الحياد، والحياد وحده كفيل بخلق الأجواء المناسبة لذلك.
- عبر الحياد اللبناني، تعود العلاقات الطبيعية الندية مع سوريا بما فيه مصلحة الشعبين، ومن دون خوف من اي خلل توازناتي في المستقبل.
- عبر الحياد اللبناني يبرز دور لبنان الطليعي الجامع في المشرق ليكون واحة التنوع والالتقاء لكل حضارات الشرق وجامعة ثقافية حقيقية تقدم للشعوب نموذجاً اذا ما احتذي به، يمنع تكرار “باتاكلان” وسواها.
- عبر الحياد اللبناني تثمر بذور ثورة شباب وشابات لبنان، وتعطي لشكلها معنىً لسبب؛ فلا تقتصر على صرخة جوع.. ومن ثمّ تزول.
ولو يطول التعداد، نكتفي لنخوّل هذه السطور ان تتحول فاتحةً لحوار جدي بين اللبنانيين على مشروع إنقاذي حقيقي وواقعي خارج السياقات المتكررة والمدمرة، سواء على حساب طائفة دون اخرى او من اجل قضايا اثبتت تجارب التاريخ ان حق القوة يتفوق فيها وعليها، ولكن في كل الحالات، على حساب وطن. ومن له أذنان…