لوضع خطة كاملة لإنهاض الدولة وشكر دول القوة المتعدّدة الجنسية على مؤازرتها لبنان للخروج من محنته، باشرتُ في 17 تشرين الأول/أكتوبر(1982) ـ ولم يكن قد إنقضى شهر على تسلّمي صلاحياتي الدستورية ـ جولة على الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وطبعاً الفاتيكان. فور وصولي إلى نيويورك قابلتُ رئيس أساقفتها الكاردينال تيرانس كوك الذي عبّر عن عاطفة تجاه لبنان وقضيته ووعد بدعمه لدى الإدارة الأميركية، كما شاركتُ في جلسة الجمعية العمومية لمنظمة الأمم المتحدة، وألقيتُ خطاباً أطالب بتطبيق قرارات مجلس الأمن 425 و426 و520 المنادية بانسحاب كل الجيوش الأجنبية من لبنان وتكليف ذوي القبعات الزرق التابعين للأمم المتحدة (اليونيفيل) توفير الأمن على حدودنا مع إسرائيل. دعوتُ إلى خروج فوري وغير مشروط للقوات الأجنبية من لبنان، وناشدتُ الأسرة الدولية مساعدته على استعادة إستقلاله وإعادة بناء اقتصاده. وختمتُ: “أعطونا السلام وخذوا منا ما يدهش العالم”.
اجتمعتُ أيضاً بالأمين العام للأمم المتحدة خافيير بيريز دوكويار وممثلي المنظمات والوكالات الدولية المتخصصة والسفراء العرب للغرض نفسه.
كان اليومان النيويوركيان مفعمين بالمشاعر. مساء اليوم الذي ألقيتُ فيه خطابي، توافد ألوف اللبنانيين القادمين من جميع أنحاء الولايات المتحدة ومن كندا والمكسيك للسلام عليَّ في فندق “والدورف أستوريا”، حيث أقمتُ إستقبالاً لأصدقائنا ومواطنينا من أبناء المدينة. فجأة، تقدّم مني معاونيَّ طالبين مني “الخروج إلى الشارع حيث يحدث شيء ما”. كانت الشرطة محاطة بجمهور غفير راح يهتف باسمي وشعارات مؤيّدة للبنان وللسلام. الجادة الخامسة صارت مسرحاً للقاء حاشد يرفع أعلاماً تتوسّطها الأرزة إلى جانب صوَر أخي بشير وصوَري. ما كان أحد يريد أو يستطيع ردّ هذا الحشد أو تفريقه. كان اللقاء مؤثّراً، خصوصاً وأن الجموع المتدفقة ضمّت أناساً من المناطق والأجيال المختلفة، وشباباً مولودين في الولايات المتّحدة لا يتكلمون العربية إنما هم محافظون على تعلّقهم بوطنهم الأم، فتوجّهتُ إليهم بكلمات.
صباح 19 تشرين الأول ركبتُ الطائرة الرئاسية التي أرسلها إليَّ الرئيس الأميركي رونالد ريغن لتقلّني إلى واشنطن العاصمة لعقد أول لقاء رسمي بيننا. أقرّ بأنني كنت أشعرُ بشيء من الرهبة. ذلك أنني سأقابل رئيس أقوى دولة في العالم، الذي في مقدوره مساعدتي على إنقاذ بلدي، علاوة على أنه كان في عمر يقارب ضعفَي عمري. بيد أن هذه الرحلة وُسِمت بسمة الحرارة الإنسانية والمودّة. أضف أنني أول رئيس للبنان يزور البيت الأبيض.
لدى وصولي إلى قاعدة أندروز الجويّة حيث تحط طائرات رؤساء الدول القادمين في زيارات رسمية، بقيتُ في مقعدي، كما يقضي العرف، في انتظار صعود مدير التشريفات في البيت الأبيض لملاقاة مدير المراسم اللبناني في القصر الجمهوري السفير عبّاس حميّة، ووضع ترتيبات خروجي. إذ بي أسمع قهقهات مصحوبة بتحيّات ضاجّة بالعربية. حين عاد الهدوء، رأيتُ السفير حميّة – الذي كان رجلاً فذّاً صديقاً ومستشاراً لامعاً وبعيداً من التقاليد البروتوكولية ـ يقترب مني متأبطاً سيّدة فاتنة: “فخامة الرئيس، أقدّم لك رئيسة التشريفات في البيت الأبيض، السيّدة سلوى روزفلت شقير”.
أضاف متخلياً عن النبرة الرسمية: “السيّدة روزفلت شقير هي إبنة خالتي، وقد هاجرت إلى الولايات المتحدة منذ سنوات”.
شعرتُ بغبطة فائقة، خصوصاً وأن عائلتنا كانت وثيقة الصلة بآل شقير وآل حميّة، وهما من عائلات الجبل الدرزية الكريمة. صحتُ قائلاً: “فعلاً، اللبنانيون موجودون في كل مكان، حتى في البيت الأبيض”.
إستقبلني الرئيس ريغن مظهراً لي مودّته وتضامنه، في مرحلة إنخراط الأميركيين تماماً في البحث عن حلّ سياسي للأزمة اللبنانية، تمهيداً لمبادرة شرق أوسطية أوسع.
ببشاشة، ممازحاً أيضاً حول علاقة القرابة بين مديرَي المراسم في بلدينا، قال: “ها هو لبنان يجتاحنا، عليَّ أن أنتبه”.
في أول اجتماعاتنا المتتالية، كنت أشعرُ ببعض الرهبة جرّاء عمر الرئيس الذي يستضيفني وهيبته، وبعض الحرج في التحدّث بالإنكليزية التي تعلّمتها في سنّ متأخرة. لكن ريغن كان غاية في اللطف. وضع في جيبه بطاقات صغيرة (fiches)، أعدّها له وزير الخارجية جورج شولتز ووزير الدفاع كاسبار واينبرغر، يعود إليها غالباً ليُحسن توضيح سياسة بلاده تجاه لبنان. وهو أمر طبيعي لرئيس دولة عظمى لا يسعه الإلمام والإطلاع الواسع على مشكلات دول الكرة الأرضية. في البطاقات تلك معطيات تساعد الرئيس على شرح مواقف إدارته من ضمن عناوين عريضة أساسية. عندما يريد التوغّل في التفاصيل وطرح الأسئلة وإعطاء أجوبة محدّدة، يحيل الكلام على أحد مساعديه المختصّين.
بدا لي الرئيس الأميركي رجلاً عازماً على المضي في سياسته حتى النهاية. أشعرني بالراحة، وكان ودوداً جداً في التواصل الأول وفي اجتماعات العمل الموسّعة التي شارك فيها ممثلو كل الطوائف اللبنانية.
حضر لقائي بالرئيس الأميركي في مكتبه أبرز معاونيه منهم نائبه جورج بوش ووزير الخارجية جورج شولتز ووزير الدفاع كاسبار واينبرغر ومساعد الرئيس لشؤون الأمن القومي وليم كلارك والسفير في بيروت روبرت ديلون ومساعد فيليب حبيب موريس درايبر وآخرون. إلى جانبي وزير الخارجية إيلي سالم ووزير الموارد المائية والكهربائية بهاء الدين البساط والمستشار الرئاسي غسّان تويني والسفير في واشنطن خليل عيتاني ورئيس مجلس الإنماء والإعمار محمد عطالله والسفير عبّاس حمية.
أوردُ هنا وقائع من محضر الاجتماع الذي أبرز نقاط التلاقي اللبناني ـ الأميركي على تأمين انسحاب القوات الأجنبية من لبنان، وسعي واشنطن إلى دعم سيادتنا وإعادة بناء جيشنا الوطني. كان عليَّ أيضاً أن أقدّم عرضاً متكاملاً عن سياسة لبنان الخارجية وعلاقاته بالعرب والغرب، وأيضاً تمسّكه بتوافقه الوطني.
إستهل الرئيس ريغن الاجتماع بالقول: “نحن سعداء لأن الولايات المتحدة ساعدت على وقف القتال في لبنان، وتعمل على التوصّل إلى السلام، وهي مستعدّة للقيام بكل ما في وسعها لمساعدة لبنان”.
وأعطى الكلام إلى الوزير شولتز الذي قال: “ثمّة أربعة مواضيع نحتاج إلى مناقشتها في اجتماعنا: انسحاب القوات الأجنبية، علاقة لبنان بإسرائيل، مساعدة الجيش اللبناني، المساهمة في إعادة بناء لبنان”.
بعد ذلك توجّهتُ إلى ريغن بالقول: “أتينا إلى هنا لإبلاغك رسالة شكر من الشعب اللبناني لأن الولايات المتحدة أعادت إلى لبنان الأمل بعد ثماني سنوات من فقدانه والمآسي. لا نريد هذا الأمل أن يتبخّر. أنتم أبطال المرحلة. هذه المرّة الأولى بعد ثماني سنوات نبصر الضوء في آخر النفق. نشكركم على دعمكم وقد ضحّيتم بحياة بعض الجنود الأميركيين المارينز. نأمل في علاقات مميّزة مع الولايات المتحدة. نريد تعزيزها بين البلدين. لكل عائلة في لبنان أقارب في الولايات المتحدة، ونتقاسم القيم نفسها في الحرّية والديموقراطية وحقوق الإنسان. لبنان هو البلد الوحيد في العالم العربي لديه نظام ديموقراطي وانتخابات حرّة وحرّية التجارة. أول موضوع تجب مقاربته هو خروج القوات الأجنبية التي أتت إلى لبنان بلا دعوة. نريد مساعدتكم في العمل على انسحابها الكامل للحفاظ على سيادتنا من أجل إعادة بناء لبنان، والإضطلاع بدورنا الخاص في الشرق الأوسط. فرادة النظام اللبناني وخصائصه سمحت له بهذا الدور. لكن من الصعب جداً حماية سيادتنا ووحدتنا بسبب وجود القوى الأجنبية. يهمنا السلام في الشرق الأوسط، وهو أمر حيوي لنا. ننظر إلى مشروعكم كمبادرة لإمكان إحلال السلام في الشرق الأوسط. لكن ثمّة مشروعاً عربياً طرحته قمّة فاس، ووافق عليه العرب الذين يؤسسون لسياسة جديدة لإحلال السلام في المنطقة، ويستطيع لبنان الإضطلاع بدور في الشرق الأوسط. دفعنا الثمن الباهظ لفقدان السلام. نريد إنهاء الحرب من ضمن اتفاق الهدنة مع إسرائيل. أي عمل نقوم به يجب أن لا يؤدي إلى تدمير التوافق الوطني اللبناني وعلاقاته العربية. نريد أن نبشّر بالسلام في المنطقة. علينا أن نفاوض فوراً على إنسحاب القوات غير اللبنانية من لبنان”.
بعدما أشدتُ بجهود فيليب حبيب وموريس درايبر وروبرت ديلون، أكدتُ لريغن على “ضرورة مباشرة المفاوضات لإخراج الجيش الإسرائيلي. يجب وضع مفكرة واضحة، متكاملة، تتضمّن كل الشروط وتوقّعات المستقبل. عليكم المساعدة بأن تظهر إسرائيل حسن نيّة للتوّ بالانسحاب من محيط القصر الرئاسي. من شأن علاقاتنا أن تساعد على حصول انسحاب أولي للجيش الإسرائيلي من المواقع التي ينتشر فيها، وهو ما يتطلّب منك تدخّلاً شخصياً ومباشراً”.
عرّجتُ في الكلام على القوة المتعدّدة الجنسية، فدعوتُ إلى “تعزيز مسارها ووجودها. أهميتها رمزية أكثر منها أمنية وعسكرية، ونأمل في أن تبقى حتى يتم إنسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان، وتكتمل إعادة بناء الجيش اللبناني. نأمل في زيادة عديدها وانضمام دول جديدة إليها”.
بعد ذلك توقفتُ أمام المساعدات العسكرية الأميركية. تمنيتُ على الحكومة الأميركية “الإهتمام بتطوير الجيش اللبناني الذي يقتضي أن يكون في أسرع وقت القوة الوحيدة المسؤولة عن حماية لبنان”. إقترحتُ لجنة عسكرية لبنانية ـ أميركية للوصول إلى هذا الهدف وتنسيق العلاقات، وخاطبت الرئيس الأميركي: “نريد دعمك الكامل. نحاول تعزيز رئاسة الجمهورية ومكتبها على مستويي الحداثة والفاعلية كي يكون محترفاً، ونريد مساهمتكم في التنظيم والخبرة نظراً إلى تجربتكم في البيت الأبيض. نجري مراجعة لحاجات شعبنا في إعادة البناء والنمو، ومن الممكن الحصول على مساعدة اقتصادية، كما أن من شأن زعامة الولايات المتحدة تشجيع الدول الأخرى على المشاركة في إعادة البناء هذه. نطلب مساعدتكم بداية”.
ريغن للجميل: نحن مستعجلون الانسحاب من لبنان، وتقلقنا الحدود الجنوبية، وأعتقد أن من المهم درس إنسحاب تدريجي لإسرائيل
ردّ ريغن: “تعتزم الولايات المتحدة مساعدة لبنان مقدار ما تستطيع. الأولوية لديها الآن هي التهدئة ووقف الإضطرابات. لا نريد أن نكون قوات إحتلال، بل أتينا لمساعدتكم. نحن مستعجلون الانسحاب من لبنان، وتقلقنا الحدود الجنوبية، وأعتقد أن من المهم درس إنسحاب تدريجي لإسرائيل. يهمنا الوقوف إلى جانبكم مالياً، وخصصنا مساعدة 107 ملايين دولار لهذه السنة، وسنشجّع القطاع الأميركي الخاص وخصوصاً رجال أعمال متحدّرين من عندكم على المساعدة في بعض المشاريع. نعترف بضرورة المحافظة على العلاقات اللبنانية ـ العربية، وهذا مهم للسلام الدائم. نستطيع المساعدة لدى الجانب الإسرائيلي. نريد السلام للبنان وإسرائيل، لكن ليس على حساب علاقاتكم مع العالم العربي”.
من ثم أخذ شولتز الكلام متوجّهاً إليَّ: “أظهرتَ لنا بوضوح برنامج حكومتك. أميركا مستعدّة للعمل على خطة انسحاب إسرائيل. اجتمعتُ مع الوزير ]الإسرائيلي إسحق[ شامير هذا الأسبوع، والآن نحن نستمع إليك. الاجتماع مع شامير كان تشاورياً، والجنرال بارتلت عاد من اجتماع لجنة المراقبة وسنرى كيف يمكننا المساعدة على إعادة بناء القوات المسلحة اللبنانية. ستناقش هذا الأمر مع واينبرغر، وبيتر ماكفرسن فهو الذي سيتولى التعامل في مسألة المساعدات وينظّم مبادرات خاصة. وسيتولى ترتيب اجتماع مع مايك هلبوتي ]رجل أعمال أميركي لبناني الأصل[ في هيوستن، وسنطلب منه أن يساعد بدوره”.
أضاف: “نحن متأثرون بالتزامك السلام والأهمية التي توليها له. لبنان يستحقّ الإهتمام أكثر من أي دولة أخرى، وهو ما يشعر به الرئيس ريغن أيضاً. يستطيع لبنان الإضطلاع بدور بالغ التأثير كجسر بين إسرائيل والدول العربية”.
قال من بعده الوزير واينبرغر: “لدينا تقرير أولي لفريق عمل يتناول العتاد وأنواع أخرى من المساعدة للجيش اللبناني. نقدّر جهود الرئيس الجميّل وزياراته التفقدية للثكن العسكرية التي رفعت من معنويات الجيش. ثمّة عتاد مهم منه دبابات سيُرسل فوراً إلى لبنان، وبعض آخر من الأسلحة سنخرجه من مخازن الجيش الأميركي لإرسالها إليكم كي تتوافر بين أيديكم في أسرع وقت وأخرى ستليها. الجيش الأميركي لا يرتاح إلى فتح مخازنه لإخراج أعتدة وأسلحة منها، لكن الجيش اللبناني القوي والجيّد التجهيز هو أول ما يحتاج إليه لبنان الآن. أخوك بشير طلب عدداً من الأعتدة ووسائل إتصال ونقل وأرسلناها فوراً. وجود لجنة مشتركة بين لبنان والولايات المتحدة مهم للغاية وسندرس الفكرة”.
عقّبتُ: “لديّ محضر اجتماعك مع بشير وأثني على ما طلبه. التقيتُ الجنرال بارتلت ونقدّر هذا الإهتمام. ما يحتاج إليه لبنان هو إنتقاله بسرعة من الكمية إلى النوعية. القدرات النوعية لا تنفي النقص في الكمية. نرغب في تسلّمها سريعاً. لدينا ألوية بلا تجهيزات. نريد الحصول عليها ما دام هدفنا إنتشار الجيش في البلاد”.
أنهى الرئيس الأميركي اللقاء بالقول: “أقدّر الموقف اللبناني، وسنعمل على خطين متوازيين لإقناع إسرائيل بالقبول بتحكيمنا وأن لا تتدخّل”.
بُعيد اجتماعنا الأول، جمعني بالعديد من “أصدقائه”، لاسيّما مايك هالبوتي، أحد أقطاب النفط والممثل داني توماس ونجيب الحلبي رئيس شركة بان أميركان للطيران حمي العاهل الأردني الملك حسين الذي تزوّج ابنته فأضحت الملكة نور. بمبادرة من الرئيس الأميركي نفسه، أسسنا في الولايات المتحدة مجموعة العمل من أجل لبنان (تاسك فورس فور ليبانون) التي تألّفت من رجال أعمال بارزين وشخصيات أميركية لبنانية الأصل.
في اليوم نفسه كانت لي اجتماعات مع شولتز وواينبرغر، ناهيك بأخرى لإيلي سالم وغسّان تويني مع مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية. أضف اجتماعات مع عدد من الوكالات الدولية المتخصصة كنت عقدتها في 18 تشرين الأول، ناقشتُ مع مسؤوليها التعاون، وتقديم مساعدات لانتشال الاقتصاد اللبناني من صعوباته في ضوء الحجم الهائل للإضرار التي ألحقها بنا الإجتياح الإسرائيلي.
في الاجتماع مع شولتز كان التركيز على مرجعية اتفاق الهدنة مع إسرائيل المعقود عام 1949 واللجنة المنبثقة منه، و”هو المدخل الأنسب للتعاطي مع إسرائيل ويحظى بتأييد لبناني ودولي”.
أعاد إظهار تأثره بالتزامي السلام “ليس من أجل لبنان فقط، بل في سبيل الشرق الأوسط كله”، كما قال. ثم أضاف أن “فريق العمل الأميركي أعدّ تقريراً ضمّنه ثماني نقاط ترتبط بمفاوضات الانسحاب”، تناولت:
“1 ـ وضع برنامج انسحابات.
2 ـ الإسراع في تحقيقها.
3 ـ وضع أجندة بالمسائل التي توجبها.
4 ـ حصول الانسحابات من شأنه إقناع العرب وتفهّمهم للخوض في تجربة مماثلة.
5 ـ لا تحبّذ إسرائيل تدخّل الأمم المتحدة عند حدودها، ولا في إجراءات انسحابها وفي المفاوضات.
6 ـ تطلب إسرائيل حزاماً في جنوب لبنان في إشراف قوات اليونيفيل، وعندئذ فقط تسمح للجيش اللبناني بالإنتشار عند الحدود.
7 ـ تريد إسرائيل عودة سعد حداد إلى قيادته في الجيش اللبناني.
8 ـ تعتبر إسرائيل أن في وسع لبنان نشر لواء واحد عند الحدود، ولا حاجة إلى أكثر من ذلك ما دام لا وجود لمنظمة التحرير ]الفلسطينية[“.
مع واينبرغر قلتُ إن برنامجي من أهداف أربعة: “وقف شامل للنار، انسحاب كل القوات الأجنبية، إعادة بناء الجيش، علاقات متطوّرة مع الولايات المتحدة”. أما الأخطار التي تجبه بلادي فثلاثة: “الإرهاب الأصولي في البقاع والفلسطيني في الشمال، الحدود مع إسرائيل وسوريا وتنامي التسلّل عبرها، وجود القوات الأجنبية على أرضنا”.
أضفتُ له: “نحن في حاجة إلى جيش قوي، وأملي في أن نصل إلى بناء عديده من 60 ألف جندي وتعزيز قوى الأمن الداخلي كي تبلغ 20 ألفاً وإنشاء قوة خاصة لحماية الحدود من 20 ألفاً. كل ذلك لا يتحقّق إلا إذا ساعدتنا الولايات المتحدة. يهمنا أيضاً زيادة عديد القوة المتعدّدة الجنسية وتوسيع نطاق الدول المشاركة فيها”.
ردّ واينبرغر بالموافقة على الخطوط العريضة هذه التي بسّطتها أمامه، مؤكداً “التعاون في إطار واسع للغاية حيال ما يحتاج إليه لبنان. سنرسل بداية 24 ناقلة جند ومعدات وتجهيزات لوجيستية وبزّات، وسنعود إلى اللجنة العسكرية لتعزيز قدرات الجيش. سننشىء أربعة ألوية. الآن ثمّة جهوز بنسبة 50%، لكننا نريد أن نصل بهذا الجهوز إلى نسبة 70%”.
بعد ذلك، قال لي واينبرغر: “لقد أدهشتنا. ما كنت أظنّ أنك تقدّمتَ إلى هذا الحدّ في إعادة بناء الجيش. جنودنا يحبّون العمل مع جنودكم. يمكنكم الإعتماد علينا”.
بدوره شولتز بدا إيجابياً. قال: “أنا على يقين بأن لبنان سيستعيد، في ظلّ قيادتكم، دوره التقليدي كجسر بين الشرق والغرب”.
ما سمعته أشبه بموسيقى ناعمة، لكنها لم تكن لتُنسيني التدخّلات الخارجية التي كانت لا تزال تزعزع الوفاق الوطني الهشّ الذي كنت أحاول تعزيزه منذ انتخابي على رأس الجمهورية.
عرفات للجميل: “وجود القوات الفلسطينية في البقاع والشمال في تصرّف اللبنانيين رئيساً وحكومة وشعباً”
في واشنطن إستقبلتُ وفداً فلسطينياً ضم الصديقين العزيزين حسيب الصبّاغ ووليد الخالدي اللذين أبلغا إليّ “رسالة خاصة ومباشرة” من ياسر عرفات “يضع نفسه في تصرّف الحكومة اللبنانية لمساعدتها في كل النواحي، وإبداء الإستعداد للعمل بحيث لا يكون الوجود الفلسطيني المسلح، المتبقّي في عدد من المناطق اللبنانية، عقبة تتذرّع بها القوات الأجنبية في لبنان لعدم الانسحاب”. لا يلبث عرفات أن يكتب إليَّ من تونس، في 24 كانون الأول 1982 للمرّة الأولى منذ انتخابي، مهنئاً ومُعيداً مضمون الرسالة الشفوية، وهو أن “وجود القوات الفلسطينية في البقاع والشمال في تصرّف اللبنانيين رئيساً وحكومة وشعباً”، مع رجائه “التأكيد على حقّ المواطنين الفلسطينيين المدنيين في الحياة الكريمة إسوة بإخوانهم اللبنانيين”.
بين رئيس و”نابليون الأول”
من واشنطن أكملتُ جولتي الغربية معرّجاً على باريس في 20 تشرين الأول. هذه المرّة، لم تكن الزيارة لشخص لا أعرفه، ولا الصفة التي آتي بها تشبه ما كنت عليه قبل سنتين.
عام 1980، وكنت لا أزال نائباً، تعرّفتُ على فرنسوا ميتران، رئيس المعارضة آنذاك، خلال رحلة إستطلاعية إلى باريس. رتّب اللقاء في شارع “بييفر” صديقنا المشترك فرنسوا دو غروسوفر. كان ميتران يشغل مكتباً ذا سقف منحن، ممتلئاً بأكداس الكتب بحيث يقتضي القفز من فوقها لبلوغ طاولة عمل مضيفي، وكذلك التنبّه إلى عدم إثارة الكلب الرابض في وسط القاعة. كان هذا الحديث الأول بنّاء جداً بحيث أفضى إلى مبادرة لبنانية – فرنسية للمصالحة الوطنية، عابرة للإصطفافات الحزبية في فرنسا كما في لبنان. ترأس فرنسوا دو غروسوفر الوفد الفرنسي المؤلف من موريس كوزيوزسكو- موريزيه وهو سفير سابق مثّل جاك شيراك بصفته رئيس حزب التجمّع من أجل الجمهورية ورولان دوما المنتدب من الحزب الإشتراكي. من جهتي، وعبر أصدقاء مشتركين، إتصلتُ بوليد جنبلاط الذي وافق، على نحو أثار إستغراب الجميع، على مبدأ توجيه دعوة مشتركة إلى البعثة الفرنسية هذه للمساعي الحميدة مكوّنة من ممثّلين عن حزب التجمّع من أجل الجمهورية والحزب الإشتراكي. سجّلت هذه المبادرة إنطلاقة جيّدة، لكنها توقفت عقب الإجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982. توخيتُ منها تحريك الحوار اللبناني ـ اللبناني برعاية فرنسية. زارني الوفد، كما زار جنبلاط، كلاً على حدة، وحرصنا على إبقاء هذه المهمة مكتومة إلى حين التوصّل إلى نتائج إيجابية، بغية الحؤول دون أي تدخّلات تعترضها.
في 10 أيار 1981، يوم انتخاب فرنسوا ميتران رئيساً للجمهورية، إتصلتُ هاتفياً بفرنسوا دو غروسوفر الذي كان باشر عمله كمكلَّف مهمات رئاسية، وطلبتُ منه أن يُبلغ تهانيّ الحارّة إلى صديقي الرئيس الجديد. في أثناء المكالمة، قاطعه أحدهم، فقال لي: “رئيس الجمهورية يريد أن يكلّمك”.
حوّل إليَّ فوراً الرئيس ميتران الذي كان إلى جانبه. بعدما شكرني الرئيس، قال لي بشيء من المزاح: “آمل في أن تأتي إلى باريس قريباً. مَن يدري، ربّما بصفة رئاسية”.
أبدى ميتران الإستعداد لأي مساعدة عسكرية في إطار دولي أو من خلال القوة المتعدّدة الجنسية
بعد سبعة عشر شهراً، إستقبلني بصفتي رئيساً للبنان. عقدنا بادىء بدء خلوة في قصر الإليزيه، ثم عشاء عمل شارك فيه رئيس الوزراء الفرنسي بيار موروا ووزير العلاقات الخارجية كلود شيسون. أكد لي ميتران صداقة فرنسا للبنان ودعمه “في أعادة بناء هوّيتكم الوطنية”. أكد لي التزام قضية لبنان وما تطلبه الشرعية اللبنانية في سبيل إستعادة الوحدة والسيادة والإستقلال. أبدى أيضاً الإستعداد لأي مساعدة عسكرية في إطار دولي أو من خلال القوة المتعدّدة الجنسية. سرعان ما أوفد، في نهاية الشهر التالي إلى بيروت، وزير الدفاع شارل إيرنو، ثم كتب الرئيس إليّ في 2 كانون الأول معبّراً مجدّداً عن تضامنه معي، وتطابق وجهتي نظرنا المجسّدة في اجتماع 20 تشرين الأول و”ضرورة انسحاب كل القوى الأجنبية من لبنان في أسرع وقت، وإعادة بناء بلدكم”. أكد أيضاً “الإستمرار في دعم سلطة الحكومة اللبنانية واسترجاعها أراضيها، وممارستها شرعيتها على سيادتها كاملة”.
في ختام برنامج باريسي رسمي حافل، حللتُ ضيفاً على مأدبة عشاء خاصة في حيّ “كيه برانلي”، حيث يستخدم فرنسوا ميتران شقّة موضوعة في تصرّف الرئاسة، يشغل فرنسوا دو غروسوفر شقّة قربها. ذهبتُ إلى هناك خفية، وفي حماية الحرس الشخصي لفرنسوا دو غروسوفر. كانت الفتاة الصغيرة مازارين التي فضّلت أمها، صديقة الرئيس، الحاضرة معنا عدم الإبتعاد عنها، تنام على كنبة قرب طاولة الطعام. كنت قد تكتّمتُ حتى ذلك الحين على السرّ الذي أثار ضجّة كبيرة عندما كشف فرنسوا ميتران بنفسه علناً عن أبوّته لمازارين. غنيّ عن القول إنه لم يكن وارداً عندي التقصّي عن هذا الأمر ولا إشاعته. لكنّني قدّرتُ قبولي ضمن الحلقة الحميمة لهذا الثنائي كعلامة ثقة.
بعد العشاء، أعادني سائق دو غروسوفر، بالسرّية ذاتها التي كان قد أحضرني بها، الى قصر مارينيي، مقرّ ضيوف فرنسا الرسميين قبالة قصر الإليزيه. في الطريق، أحببتُ أن أستفيد من هذا المشوار الخالي من الدرّاجين وسيارات المواكبة بمصابيحها الدوّارة، لأُعرّج بسرعة على شقّتي في شارع فوبور سانت – أونوريه، القريب من الإليزيه لجلب بعض الحاجات الشخصية. ظنّ السائق، الذي كان معتاداً على إيصالي إلى هذا العنوان، أنني سأبيت ليلتي هناك، فأنزلني وغادر على الفور، تاركاً إيّايّ وحدي بلا أوراق ثبوتية ولا نقود عند الأولى بعد منتصف الليل.
رئيس لبنان الذي كان غادر قصر مارينيي خلسة عبر باب سرّي صار في الشارع بسبب سوء تفاهم. لم يكن لديّ ما يثبت هوّيتي، وكنت قد تواريتُ بصورة فجائيّة عن أنظار جميع حرّاسي والصحافيين، فإذا بي وحيد في الشارع المقفر.
حين وصلتُ أمام قصر مارينيي، القريب من منزلي والخاضع إلى إجراءات أمنية إستثنائية، وكنت مرتبكاً جداً، إعترضني الخفير قائلاً: “ممنوع المرور”.
دار بيننا حوار هزلي: “أنا أمين الجميّل، رئيس جمهورية لبنان، وثمّة مَن ينتظرني في قصر مارينيي”.
“تشرّفنا”، أجاب الحارس بصوته الخشن: “وأنا نابوليون الأول”.
لحسن الحظ أن أحد عناصر الأمن اللبناني مرّ أمام الحاجز وتفاجأ برئيسه يتجادل مع أحد الشرطيين على الرصيف، فلم يصدّق عينيه: كان يحرس، منذ ساعات، شقّة خالية.
من باريس إلى روما في 21 تشرين الأول. اجتمعت في الفاتيكان بالبابا يوحنا بولس الثاني ثم أمين سرّ الدولة الكاردينال أغوسطينو كازارولي، ثم قصدتُ منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) التي ترأسها في ما مضى خالي موريس الجميّل، وبات يرئسها حالياً إدوار صوما. اجتمعتُ بالرئيس الإيطالي ساندرو برتيني ورئيس الوزراء جيوفاني سبادوليني. في 22 تشرين الأول عدتُ الى بيروت.