هذه ليست حالة سوية على الإطلاق، بل هي علة مرضية او ما يعادلها، وقد أنتجها خطاب الكراهية الإستقطابي والذي فعل مفاعيله منذ سنوات، ويتحمل أوزاره الفاعلون في السياسة وجيوشهم في وسائل الإعلام المختلفة التي أخرجت من قواميسها ومعاجمها كل ما يتصل بالسلم الأهلي أو بالهدنة والتهدئة ولياقات الأخلاق وآدابها.
هل أصبح اللبنانيون بلا أدب حتى يشمتوا بالمكسور؟
تكاد الإجابة تذهب إلى “نعم” بفعل شيوع الثقافة الشوهاء في السياسة، إذ بدل أن تكون الأخيرة فعلاً نبيلاً ومستقيماً غايته إدارة المجتمع من خلال المتحد العام الذي إسمه الدولة، غدت السياسة فعلاً للتآمر والتناور الشبيهة بميادين الشطرنج، حيث غاية الفعل قتلُ الملك وإخراجه من مساحة الميدان والوجود.
هل تُرضي هذه المقدمة “أصدقاء” في “التيار الوطني الحر”؟
يخفض “الصديق المخضرم” في “التيار” رأسه نزولاً كعلامة تصديق على ما مرّ وذُكر، إلا أنه يسأل:
ـ ألا ترى أن القوم بقضهم وقضيضهم يتحالفون ويتآلفون ضد “التيار” حتى بدا المشهد قابلاً للتشبيه بين خطيئة مضت وقضت بعزل حزب “الكتائب” عام 1975 والإتجاه الحالي نحو عزل “التيار”؟
ـ قلتُ: لا مناص من الإقرار بأن سياسة عزل حزب “الكتائب” كانت خطيئة الخطايا، ولا مفر من إنكار كل سياسات العزل والنبذ التي يمكن أن تطال فريقاً سياسياً لبنانياً، ولكن ما الجواب الذي يمكن الحصول عليه حين يُسأل “التيار” بأنه في لحظة ما سعى إلى إقصاء “القوات اللبنانية” و”تيار المردة” و”حزب الكتائب” عن المشاركة الوزارية؟ أوليست تلك سياسة عزل؟
حدّق “الصديق المخضرم” بعينيّ طويلاً، ولاح على محياه حزن عميق حاول إخفاءه فلم تسعفه عيناه شبه الدامعتين، استبد السكون بالحوار لبضعة ثوانِ وأكثر، حينها.. كان لا بد من قطع حبال الصمت، وقد قطعها “كاتب معروف” ومحسوب على “التيار” فقال:
ـ كأنك تريد تحميل اعوجاج السياسات اللبنانية لـ”التيار الوطني الحر”، وكأن الآخرين أبناء شرعيون للقديس شربل أو من حواريي السيد المسيح؟
ـ قلتُ لـ”الكاتب المعروف”: أنا لا أذهب إلى الأقصى في التحليل السياسي ولا في اختيار المفردات والتشبيهات والمجازيات كما ذهبتَ وشبّهتَ، ما أردتُه مقاربة قد تصح وقد تخطىء، ما أعرفه في علم السياسة أنه لا يجب الخضوع لإغواءات الذات وإلحاحها بالحصول على كل شيء فينجم عن ذلك خسارة كل شيء، وهذا ما جناه إمرؤ القيس حين حصر خياراته بين إثنين المُلك أو القبر، وأوجز مذهبه السياسي بهذين البيتين الشهيرين من الشعر:
بكى صاحبي لمّا رأى الدرب دونه/ وأيقن إنا لاحقان بقيصرا
فقلتُ له: لا تبكِ عينك إنما/ نحاول مُلكا أو نموت فنُعذرا.
ردّ “الكاتب المعروف” بالقول: هذا شعر على شعر!
ـ قلتُ: ولكن ما حدث لإمرؤ القيس حدث أيضاً لنابوليون بونابرت وأدولف هتلر، حين سعى كل واحد منهما للسيطرة على أوروبا، وربما العالم كله، والنتيجة معروفة ولا ضرورة لسردها.
لم يقتنع “الكاتب المعروف” بما قلته، وطرق باباً آخر للحوار وقال:
ـ كل ما أراده “التيار” في موقفه من جلسة حكومة تصريف الأعمال يوم الإثنين المشؤوم رفع الصوت للتعجيل بعملية انتخاب رئيس للجمهورية، فإطالة أمد الفراغ الرئاسي وانعقاد جلسة وزارية واحدة قد يمهد لجلسات أخرى، ويعني ذلك تطبيع الواقع السياسي مع حالة الفراغ الرئاسي، أي تغييب الرمز المسيحي الأول المفترض أن يكون على رأس المؤسسات الدستورية في لبنان.
ـ قلتُ: أشاطرك الرأي، وهذه هواجس توجب قرع أجراسها والتحذير منها صبحا وظهرا وأصيلا، ولكن أوليس إنتاج “الثلث المعطل” من قبل تيار سياسي ذي لون وطيف محدد يصادر صلاحيات الآخرين ممن هم من ألوان وأطياف محددة؟ وزد على ذلك سؤالاً: هل القطيعة مع جلسات حكومة تصريف الأعمال تعجل بإنتخاب الرئيس؟
في هذه اللحظة أمسك “الصديق المخضرم” أطراف الحوار وسأل: ماذا تقترح؟ أجبته: لا شك انك سمعت وقرأت ما قاله النائب في كتلة “لبنان القوي” أسعد درغام يوم الإثنين في السادس من هذا الشهر، فقال “الصديق المخضرم” إن “نائبنا” دعا “المسيحيين الى الجلوس معا والتناقش للتوصل الى مرشح لرئاسة الجمهورية مقبول من الجميع”.
ـ قلتُ: هذا بالضبط ما قاله وما دعا إليه، وهنا الحلقة المفقودة، ولعل مراجعة عاجلة لغالبية الجلسات والدورات الإنتخابية في الماضي، ستكشف عن توافق مسيحي، وخصوصاً ماروني كان يسبق انتخاب الرئيس، هل تتعارض رؤيتك مع ما أراه وأنت الضليع الخبير في شؤون السياسة اللبنانية وشجونها؟
ـ قال “الصديق المخضرم”: لا أعارضك، فبشارة الخوري حين حلّ رئيساً كان خلفه كتلة مسيحية صلبة هي “الكتلة الدستورية”، وكميل شمعون كان وراءه “الكتلة الوطنية” وقد تنازل له حميد فرنجية، وفؤاد شهاب حاز على أصوات “الكتائب” و”الكتلة الوطنية” حين انتخابه، ولم يفترق الأمر مع شارل حلو، وحاز سليمان فرنجية على دعم “الحلف الثلاثي” ، والياس سركيس ساندته الأحزاب المسيحية الكبرى المتمثلة خلال “حرب السنتين” بـ”الكتائب” و”الوطنيون الأحرار”، وبشير وأمين الجميل الأمر عينه، ورينيه معوض والياس الهراوي ما كانت آلية انتخابهما تدور رحاها لولا غطاء “الكتائب” والبطريركية المارونية، ولم يدخل ميشال سليمان إلى القصر الجمهوري عام 2008 بعد “تسوية الدوحة” إلا على صهوة 118 صوتا نيابيا مقابل 6 أوراق بيضاء وصوت واحد لجان عبيد وآخر لنسيب لحود وثالث للرئيس الشهيد رفيق الحريري، وعنى ذلك ان توافقاً مسيحياً رصف طريق ميشال سليمان نحو قصر بعبدا، ومثله مع العماد عون حين توافقت “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر”، أي الغالبية المسيحية.
توقف “الصديق المخضرم” بعد هذا السرد التاريخي وقال أعترفُ كما يعترف المسيحيون بالكنائس بوجود عقدة انتخابية عند “جماعتنا” ولا أقصد “التيار” بالتحديد، ولكن ألا يتحمل “الحزب” المسؤولية بعدم وقوفه معنا؟
ـ قلتُ: سمعتُ وقائع المؤتمر الصحافي للوزير جبران باسيل يوم الثلاثاء (6 ـ 12 ـ 2022) وأخالفه الرأي بقوله “إن مشكلتنا ليست مع نجيب ميقاتي بل مع مشغليه ومع الصادقين الذين نكثوا بالإتفاق والوعد والضمانة”، صحيح أن جلسة الإثنين التي يصفها صديقنا “الكاتب المعروف” بـ”المشؤومة”، أظهرت فجوة بعلاقة “التيار” بـ”الحزب” أو بعلاقة “الحزب” بـ”التيار”، إنما سياسة حرق المراكب والتمثل بخطبة طارق بن زياد بجنده على مشارف الأندلس والتي جاء فيها “أيها الناس، أين المفر؟ البحرُ من ورائكم، والعدو أمامكم، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام”، إن مثل هذه السياسة تجافي قواعد السياسة القائلة بأن إكثار الأصدقاء وإقصار الخصوم والأعداء هي من سمات الفلاح والنجاح لمن يسعى إلى العُلا سبيلا”.
حين أيقن “الكاتب المعروف” استقرار النقطة على آخر السطر الأخير، بادر إلى الكلام وسأل: كأنك تقصد الوزير جبران باسيل بقولك “يسعى إلى العُلا” ألا يحق له الوصول إلى رئاسة الجمهورية؟ ألا يستحق هذا المنصب؟
ـ قلتُ: يحق له كما يحق لغيره، ولكن ليس من باب التحدي، وللتذكير ليس إلا، إن صفة “التحدي” ليست حديثة الولوج إلى اللغة السياسية اللبنانية، واسمح لي في هذا المجال أن أعود قليلا إلى الوراء:
في 16 آب/أغسطس 1970، كتب قطب الصحافة اللبنانية سعيد فريحة افتتاحية في صحيفة “الأنوار” أعرب فيها عن اشمئزازه من لغة التحدي المستخدمة في الخطاب السياسي بين “الشمعونيين” و”الشهابيين” وذلك قبل انسحاب الرئيس كميل شمعون لمصلحة سليمان فرنجية، فكتب “قد يقول قائل إن نجاح الياس سركيس لا يعتبر تحديا لشعور أحد، في حين ان الأمر بالنسبة للرئيس شمعون يختلف تماما، والجواب أن منع التحدي سهل، شرط أن يقتنع النواب الذين يعنيهم التحدي أكثر من غيرهم، بضرورة الإنسجام مع الأكثرية التي تستطيع أن تمنع الترشيح ـ التحدي”.
وكانت صحيفة “الأنباء” الناطقة بلسان الحزب “التقدمي الإشتراكي” قد علقت على ترشيح شمعون للإنتخابات الرئاسية بمقالين للزعيم الوطني كمال جنبلاط واحد بالعربية وآخر بالفرنسية كما قالت “الأنوار” في التاريخ الوارد آنفا ، إذ “عكست جريدة الأنباء رد الفعل العنيف الذي أحدثه ترشيح الرئيس الأسبق كميل شمعون للرئاسة، وكتبت تحت عنوان عريض في صدر صفحتها الأولى: شعب لبنان يرفض الترشيح ـ التحدي”.
وفي 4 أيار/مايو 1976، نقلت “الأنوار” قبيل الإنتخابات الرئاسية عن مؤسس حزب “الكتائب” الشيخ بيار الجميل قوله “مرشحنا سركيس ولا يشكل تحدياً، والرئيس كميل شمعون وأنا متفقان كل الإتفاق على تأييد الياس سركيس”.
ما كدتُ أسدل الستار على الشواهد التاريخية العاجلة، حتى سارع “الكاتب المعروف” إلى السؤال:
ـ ما المطلوب من الوزير باسيل؟
ـ أجبتُ: لستُ أنا من يُحدّد، ولستُ أنا من يرسم خرائط المصالح، ولكن لي وجهة نظر حيال “خطاب المسامير” ومن أي جهة أتى أو حضر، على الأقل ذاك الخطاب لا ينسجم مع قول السيد المسيح “طوبى لمن يجعل بصره بقلبه وليس بعينيه”، لا شك ان “السيد” يقصد المحبة، وتلك ما يفتقدها اللبنانيون وبصورة أكثر دقة السياسيون، أليس كذلك؟
لم يأتِ جواب من “الكاتب المعروف”، وقد كان صمت الإنتظار قد طال عند “الصديق المخضرم” فنفث بعمق آخر ما بقي من سيجارته وسأل:
ـ هل المطلوب من الوزير باسيل أن يحب من لا يحبه؟
ـ قلتُ: ليس على هذا النحو مرادي ومبتغاي، إنما وقد عرجتَ على الحب والمحبة وهما أمران غريبان عن اهل السياسة كغربة غير المؤمنين عن سفينة نوح، فالمطلوب على ما جاء في سؤالك المبادرة وليس المطالبة.
ـ “الصديق المخضرم”: أفهم من حديثك أن على رئيس “التيار” ألا يطالب بحقه الرئاسي ويتخلى عن هذا الطموح؟
ـ سألتُه: هل الوقت وقته؟
ـ أجاب: لا أدري..
ـ قلتُ: عدم الدراية في هذه الحالة يعني انعدام اليقين، وعلى ذلك يفرض الواقع السياسي التفكير بالمبادرة وإحلالها مكان المطالبة، ربما تكون المبادرة ثقيلة تجاه “القوات اللبنانية” وغير مثمرة كما ينبغي تجاه “الكتائب”، يبقى امام “التيار” سليمان فرنجية والبطريرك بشارة الراعي و..
قاطعني “الكاتب المعروف” فقال: خذلنا فرنجية منذ أول عهد العماد عون ومستهله، فهل ينتظر أحد منا رد الخذلان بالإحسان؟
ـ قلتُ: لا تعتبر ما سأقوله ترويجا لفرنجية، فأنا لستُ من حملة حقائب البكاوات والزعماء، ولكن قصة رواها أستاذ الصحافة اللبنانية غسان تويني تستحق أن تُروى لإرتباطها بالإنتخابات الرئاسية وطريقة إخراجها من عنق الزجاجة، فالرجل يروي أنه توسط لإقناع الرئيس شمعون بالإنسحاب من السباق الإنتخابي عام 1970 وقال له إن آل فرنجية لهم دين عليك، فحميد فرنجية انسحب لك عام 1952، وجاء دورك لتفي الدين وتنسحب لسليمان فرنجية، وهذا ما كان (راجع 180post) وسؤالي هنا: ألم يتراجع سليمان الحفيد عن ترشحه للرئاسة الأولى عام 2016 لمصلحة العماد عون؟
ـ قال “الكاتب المعروف”: ليس الواقع على ما وصفتَ وتحدثتَ، ففرنجية الحفيد انكفأ وأحجم عن الإستمرار في الترشيح بعد إصرار “حزب الله” على رئاسة العماد عون وإثر “تفاهم معراب” مع “القوات اللبنانية” وعقب “التسوية الرئاسية” مع سعد الحريري.
ـ قلتُ: حسناً.. هل “حزب الله” من المتحمسين لإيصال الوزير باسيل إلى رئاسة الجمهورية؟
ـ قال: لا..
ـ سألته: وهل يمكن إنعاش “تفاهم معراب”؟
كرّر “الكاتب المعروف” إجابته وقال: صعب.. والصعب هنا يقارب المستحيل، وأخيراً سألته: هل يمكن إعادة الحياة إلى التسوية مع الرئيس الحريري؟ أجاب أن ذلك أشبه بأضغاث من يحلم بتحريك الزمن برؤوس الأصابع.
بعد هذا الجواب لم يبق عند الصديقين في “التيار” ولا عندي ما يوجب استكمال الحوار، ولكن أحد الصديقين تساءل عما يفعله الرئيس الحريري حين يرى الطريق الرئاسي مسدوداً بالخصومات والصراعات، وعلى وجه السرعة قلتُ لعله يُردّد هذا البيت من الشعر للمتنبي:
أَنامُ مِلءَ جُفوني عن شواردها/ ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصمُ.