“إتفاق القاهرة” لماذا لا يكون بين اللبنانيين أيضاً؟  

في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 1969، وقّع لبنان مع منظمة التحرير الفلسطينية ما يُعرف بـ"اتفاق القاهرة"، ومثُل الجانب اللبناني قائد الجيش العماد إميل البستاني، والجانب الفلسطيني ياسر عرفات، فيما تمثلت مصر بوزيري الخارجية محمود رياض والحربية محمد فوزي.

بحسب بنود “إتفاق القاهرة” التي نشرتها صحيفة “النهار” اللبنانية بعد تسريبها من قبل وزير الخارجية الأسبق فؤاد نفاع (وقيل تقي الدين الصلح) في العشرين من نيسان/ابريل 1970، ما يلي:

ـ 1: “تسهيل المرور للفدائيين وتحديد نقاط مرور واستطلاع في مناطق الحدود”.

ـ 2: “تأمين الطريق إلى منطقة العرقوب”.

ـ 3: “تقوم قيادة الكفاح المسلح بضبط تصرفات كافة أفراد منظماتها وعدم تدخلهم في الشؤون اللبنانية”.

ـ4: “إيجاد انضباط مشترك بين  الجيش اللبناني والكفاح المسلح”.

ـ 5: “دراسة توزيع أماكن التمركز في مناطق الحدود والتي يتم الإتفاق عليها مع الأركان اللبنانية”.

يقول غابي لحود (ذاكرة الإستخبارات ـ غسان شربل) رئيس “المكتب الثاني” وهو الجهاز الأمني اللبناني القوي في عقد الستينيات الماضية:

“استهول الجميع السلاح الذي يعطيه اتفاق القاهرة لإسرائيل لجهة ما ينم عن تبني لبنان رسمياً أمر تسهيل العمل الفدائي، وتساءلوا لماذا ذهبنا إلى القاهرة؟ عوضا عن توظيف مساندة (جمال) عبد الناصر لأخذ تنازلات من الجانب الفلسطيني، إذا بنا نُسلّم نحن (في القاهرة) بما لم نُسلّم به في بيروت”.

وفي شهادة وزير الخارجية الأسبق فؤاد بطرس، بحسب ما جاء في “المذكرات” الآتي:

“بعدما كان مقرراً أن يترأس الوفد اللبناني الرئيس رشيد كرامي، لم يذهب إلى القاهرة سوى قائد الجيش العماد إميل البستاني والأمين العام للخارجية نجيب صدقة والرئد سامي الخطيب، وقبيل توقيع الإتفاق اتصل بي الرئيس ـ شارل حلو ـ وقال لي وهو يعطيني الورقة التي كُتبت عليها بنود الإتفاق: أنا لا استطيع أن أقبل به فما هو رأيك؟ أخذت الورقة وقرأتها بهدوء وتمعن وقلت له: سأجيبك بكلمتين: إما أن لا تقبل به وتندلع المواجهات الآن، وإما أن تقبل به الآن وتندلع الحرب بعد خمس سنوات، عليك أنت تختار ولن أزيد”.

وأما الرئيس شارل حلو الذي تم توقيع “اتفاق القاهرة” في عهده فيقول في مذكراته المعنونة بـ”حياة في ذكريات”:

“الأستاذ ريمون إده الذي رفض المشاركة في الحكومة، كان الوحيد الذي عارض اتفاق القاهرة، وناقضه في ذلك أغلب النواب. ما أعطاه اتفاق القاهرة للفلسطينيين، كان الفلسطينيون قد حصلوا عليه قبل هذا الإتفاق”.

ريمون إده انفرد، كما يقول الرئيس حلو فرفض في البداية “اتفاق القاهرة”، ليوافق عليه بعد حين، كما سيأتي الحديث لاحقاً، ولكن قبل ذلك ماذا عن مواقف الشريكين الآخرين في “الحلف الثلاثي”؟ هنا استعادة لبعض مواقف حزبي “الوطنيين الأحرار” و”الكتائب”:

سُئل الرئيس كميل شمعون في حوار نشرته صحيفة “الأنوار” اللبنانية بتاريخ 17 شباط/فبراير 1976 “هل ستنفذ الخطوط العريضة التي جاءت في الوثيقة ـ الدستورية ـ قبل البدء في تنفيذ اتفاقية القاهرة أم هي مرهونة بتنفيذ هذه الإتفاقية”؟ وكان جواب شمعون كالآتي: “طبعاً مرهونة بتنفيذ هذه الإتفاقية، فعندما نشعر أن الإتفاقية تُطبق نصاً وروحاً، يمكن بعد ذلك البدء بالعمل بوحي الخطوط العريضة التي أذاعها الرئيس (سليمان) فرنجية في وثيقة يوم السبت، فهي تابعة لتنفيذ اتفاقية القاهرة”.

بالعودة إلى “الوثيقة الدستورية” التي كان أعلنها الرئيس سليمان فرنجية في 14 شباط/فبراير 1976، فقد ورد فيها “أن الوضع اليوم يفرض مزيداً من الإلتزام بالإتفاقيات والتقيد بتنفيذها، لا سيما اتفاقية القاهرة”.

إذا كان “اتفاق القاهرة” جرى توقيعه بين لبنان وجهة خارجية وغير لبنانية، فأي عائق أو مانع يحول دون توقيع اتفاق انقاذي بين لبنان وبين جهات لبنانية معينة وجهات لبنانية أخرى تشترك في الهوية الوطنية نفسها وتجمعها مع أبناء الأرض أخوة الرابطة اللبنانية ذاتها؟

وحيال ذلك يجيب الرئيس شارل حلو في حوار أجراه معه جورج غانم لمجلة “الوسط” ونشرته صحيفة “الحياة” في 31 تموز/يوليو 2000 عن سؤال “هناك من يحمّل اتفاق القاهرة الذي وُقّع في عهدك مسؤولية الحروب اللاحقة”؟ فيقول “إذا سلّمنا جدلاً ان اتفاق القاهرة كان السبب، فلماذا اعتمده الرئيس سليمان فرنجية سنة 1973 بعد اشتباكات الجيش والفلسطينيين واضاف اليه اتفاقية ملكارت، ولماذا تمسكت به أحزاب الجبهة اللبنانية المسيحية سنة 1975 و1976 ودخل بنداً في الوثيقة الدستورية في شباط/فبراير 1976، وصار مطلبا لجبهة الإتحاد الوطني التي أعلنت في 11 تموز/يوليو 1976 في منزل ريمون اده”؟.

ويشير الرئيس شمعون في كتابه “أزمة في لبنان” إلى أن “اتفاقي القاهرة وملكارت فرضتهما الظروف على السلطات اللبنانية، وغني عن القول إن المنظمات الفلسطينية لم تلتزم بهما أبداً”.

وفي حوار مع صحيفة “لو ريفي” (le reveil) في 24 تموز/يوليو 1977، قال شمعون “في الحقيقة أن الدول العربية كانت تريد أن يستوعب لبنان كل الهجرة الفلسطينية، ولم يكن عندنا سوى أداة واحدة لوضع حد لتجاوزات المقاومة الفلسطينية، وهي اتفاق القاهرة، الإتفاق يشكل شيئاً من المس بالسيادة اللبنانية، ولكن بعد ما حصل في الأعوام 1967 و1969 من اصطدامات بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية التي كانت تتمتع بدعم جميع الدول العربية، تم وضع اتفاق القاهرة واتُفق عليه، بهذا المعنى ينسجم موقفي مع موقف الرئيس حلو”.

ويقول بشير الجميل في حوار مع مجلة “ماغازين” في 21 آب/أغسطس 1975 “الفلسطينيون أقوياء جداً في مجالي الدعاية والإعلام، نريد منهم أن يحترموا أقوالهم ويطبقوا اتفاق القاهرة، فهذا الإتفاق، إذا طبق كما يجب، فلن يحدث أي انتقاص لسيادة لبنان”.

إقرأ على موقع 180  لي قلقي المضحك.. ولكم قلقكم

وينقل كريم بقرادوني عن شارل حلو قوله “لا أرى أن اتفاق القاهرة يُعتبر كارثة، فأنا أرى فيه إطاراً أمنياً يصلح للبنان وللفلسطينيين، فإتفاق القاهرة يضع حدوداً واضحة لإنفلاش الفلسطينيين ويردهم إلى التعقل واحترام تعهداتهم ويبعدهم عن التدخل في الشؤون اللبنانية”.

وفي كتاب “لعنة وطن” يقول كريم بقرادوني:

“جوهر اتفاقية القاهرة يقوم على مبدأ التعايش بين منطق الدولة ومنطق الثورة على غرار منطق فلسفة الميثاق الوطني غير المكتوب الذي يدعو إلى التعايش بين المسلمين والمسيحيين. انتقد ريمون إده الإتفاقية بشدة، في حين وافق عليها بيار الجميل مرغماً وقال لنا في المكتب السياسي: أنا لا أريد هذه الإتفاقية ولكني أريد تأجيل الحرب”.

ولكن بقرادوني يكشف في الكتاب نفسه عن محاضر اجتماعات بين قيادتي “الكتائب” ممثلة ببيار الجميل و”منظمة التحرير الفلسطينية” ممثلة بياسر عرفات جرت منذ بداية العام 1973 أعقبتها في العام نفسه اجتماعات متلاحقة شارك فيها عن “الكتائب” امين الجميل وجوزيف شادر وجورج سعادة وكريم بقرادوني، وعن “منظمة التحرير” أبو أياد وياسر عبد ربه وصلاح صلاح وعلي إبراهيم وتوفيق الصفدي وأحمد الأزهري، وتوصل المجتمعون إلى صياغة وثيقة من ضمن بنودها “تطبيق ما تم الإتفاق عليه بين الدولة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية”.

بو حبيب: “كان رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل هو الرئيس الفعلي للجمهورية في عهد الرئيس شارل حلو، وهذا يعني ان الرئيس الشرعي لا يتخذ قراراً يتعلق بمنظومة الأمن القومي للبنان من دون نيله غطاء الرئيس الفعلي”

أما الرئيس أمين الجميل فيرى في كتابه “الرهان الكبير” من جهة “أن لبنان حُمل في اتفاق القاهرة على الإعتراف بالوجود الفلسطيني المسلح في البلاد كأمر واقع”، ومن جهة اخرى يقول “جهد الفلسطينيون في تفسير بنود اتفاق القاهرة تفسيراً مفرطاً لا يقوم على أي عرف أو اجتهاد”.

ويختصر رئيس تحرير صحيفة “العمل” الكتائبية الراحل جوزيف أبو خليل في كتابه “قصة الموارنة في الحرب” موقف “الكتائب” بالقول: “يوم توقيع اتفاق القاهرة لم تعترض الكتائب ولم توافق، كانت وجهة نظرها التي عبَّر عنها الشيخ بيار الجميل أكثر من مرة، سواء في اجتماعات مجلس الوزراء، أو في لقاءاته مع أبي عمار وسواه من القادة الفلسطينيين، كانت وجهة النظر هذه، ألا يكون هناك اعتراف رسمي وعلني بالوجود الفلسطيني المسلح، لأن ذلك يعري الدولة اللبنانية تجاه اسرائيل، ويُسقط اتفاق الهدنة معها، ويعرِض لبنان لحرب ليس قادراً عليها، وبدلاً من الإعتراف الرسمي والعلني، ليكن هناك تفاهم ضمني بين السلطات اللبنانية والقيادة الفلسطينية لا يُحرج لبنان دولياً، ولا يحرمه الغطاء الشرعي الذي تؤمنه الإتفاقات والشرائع الدولية”.

تبقى أخيراً شهادة وزير الخارجية اللبنانية الحالي عبد الله بوحبيب، ففي مقالة له في موقع “180post” بتاريخ 22ـ 3 ـ 2020 قال الآتي:

“كان رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل هو الرئيس الفعلي للجمهورية في عهد الرئيس شارل حلو، وهذا يعني ان الرئيس الشرعي لا يتخذ قراراً يتعلق بمنظومة الأمن القومي للبنان من دون نيله غطاء الرئيس الفعلي، وقّع قائد الجيش اللبناني الجنرال إميل البستاني اتفاقاً مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في القاهرة، برعاية الرئيس المصري جمال عبد الناصر، في ٣ تشرين الثاني/نوفمبر 1969، عُرِفَ منذ ذلك الوقت بإتفاق القاهرة، احتار الرئيس شارل حلو، الذي لم يعجبه الاتفاق، ماذا يفعل في تلك اللحظة السياسية المفصلية؟ المعادلة واضحة: إذا رفض شارل حلو الإتفاق بين الجيش والفلسطينيين قد يؤدي ذلك إلى حالة من الفوضى، إذا وافق حلو على الإتفاق، تقوم الدنيا ولا تقعد في الأوساط المسيحية، فما العمل؟ استدعى شارل حلو الشيخ بيار وناقشا مطولا اتفاق القاهرة، وتوصلاً الى قناعة مشتركة مفادها بأن إلغاء الإتفاق أسوأ من القبول به، وقتذاك، وافق الرئيس السابق كميل شمعون على الخيار السيء، أي القبول بالإتفاق”.

بصرف النظر عن مفردات من نوع “الخيار السيء” أو “تلافي الفوضى” أو “الخشية من الصدام بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية”، فـ”إتفاق القاهرة” غدا في لحظة تاريخية نصاً وروحاً وفعلاً وواقعاً، وحيال ذلك أين “بيت القصيد” في كل ما ورد وما سبق قوله؟

“بيت القصيد” يكمن في ضرورة التفكير بالإجابة عن السؤال الآتي: إذا كان “اتفاق القاهرة” جرى توقيعه بين لبنان وجهة خارجية وغير لبنانية، فأي عائق أو مانع يحول دون توقيع اتفاق انقاذي بين لبنان وبين جهات لبنانية معينة وجهات لبنانية أخرى تشترك في الهوية الوطنية نفسها وتجمعها مع أبناء الأرض أخوة الرابطة اللبنانية ذاتها؟

سؤال للتفكير.. والسؤال أول الحكمة كما كان يُردّد فلاسفة الإغريق.

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أكتب عن بلد عظيم.. سلّمناه لـ"الصغار"!