لا شك أيضا ان هذا الرئيس الموسوعي الثقافة والذي تتلمذ على يد أعرق فلاسفة فرنسا، بول ريكور، والضليع بالأدب والموسيقى والسياسة والاقتصاد والفلسفة، والذي ترعرع في عائلة ميسورة ( والداه طبيبان)، وانقذ مصرف روتشيلد حين كان منخرطاً في عالم المصارف، وحقق لشركة نستله أرباحا خيالية عبر عقد بـ ١٢ مليار دولار وقّعه مع بكين، يعرف أن لبنان الذي انهار يُمكن إنقاذه لكن ليس بهذه الطبقة السياسية ولا بهذا النظام المعقّد الذي يعيد انتاج الطبقة نفسها ولكن بأسماء ووجوه مختلفة.
ولا شك ثانيا بأن هذا الرئيس الشاب والانيق والذي كان بارعا في الدراسة وفي المسرح واستطاع وهو في السادسة عشرة من العمر اغراء سيدة كانت في الأربعين (زوجته الحالية السيدة بريجيت والتي تنتمي الى عائلة ثرية)، ادرك مع تظاهرات “السترات الصفر” التي هدّدت عهده وانزلت شعبيته الى الحضيض قبل استعادتها مؤخرا، ان غضب الشارع، لا يُحل بالعنف وبالصفقات السياسية، وانه لا بد من اجتراح حلول.
ولا شك ثالثا، ان ماكرون الذي تجرأ بالنزول الى الشارع اللبناني، قبل لقاءاته الرسمية، انما وجّه رسالة واضحة تفيد بافضلية الشعب والثورة عنده في لبنان الحالي. هو خاطر في زمن الكورونا، بينما ساسة لبنان خائفون من ملاقاة شعبهم. ولم يكن ذهابه الى منطقة الجميزة وتحديدا الى شارع غورو المرتبط اسمه بلبنان الكبير، من قبيل الصدفة.
ولا شك رابعا أن ماكرون يعرف تماما ان أي حل في لبنان بلا اتفاق مع “حزب الله” سيُطاح به، لذلك فان فرنسا تمايزت عن اميركا وعن دول أوروبية عديدة، في عدم وضع الحزب على لائحة الإرهاب، واعتباره دائما جزءا من التركيبة اللبنانية التي لا بد من الحوار معها أيضا، ولذلك كان حريصا على وجود حزب الله في لقاءاته مع الكتل النيابية.
ماكرون يعرف تماما ان أي حل في لبنان بلا اتفاق مع “حزب الله” سيُطاح به، لذلك فان فرنسا تمايزت عن اميركا وعن دول أوروبية عديدة، في عدم وضع الحزب على لائحة الإرهاب، واعتباره دائما جزءا من التركيبة اللبنانية التي لا بد من الحوار معها أيضا، ولذلك كان حريصا على وجود حزب الله في لقاءاته مع الكتل النيابية
وحين سئل في مؤتمره الصحافي عن حزب الله، قال ماكرون انه لا يشاركه وجهة نظره وافكاره ولكن الحزب هو جزء من الشعب اللبناني يجب الحديث معه وانه ليس هو من وضعه في السلطة منذ ١٥ عاما، ونصحه بان يعمل لمصلحة اللبنانيين وسيادة لبنان لا لمصلحة دولة خارجية. مهما قال، فان الأهم هو انه اشرك الحزب في اللقاء وهذا مهم جدا في وقت التصعيد مع إسرائيل، وفيما اميركا تزيد الضغط والعقوبات، لكن الأكيد ان هذه الخطوة لا يمكن ان تتم بلا تنسيق مسبق مع واشنطن والحلفاء الأوروبيين، ولن تكون في جميع الأحوال ضد إسرائيل، فالرئيس الفرنسي صديق أيضا وبقوة للدولة العبرية.
الملاحظ في ما قاله الرئيس ماكرون طيلة النهار مباشرة للمسؤولين والذي كرره في مؤتمره الصحافي، انه رفع اللهجة الى حد المطالبة بتأسيس نظام جديد، وحدد تاريخا للإصلاحات الضرورية والفورية المطلوبة. فهو تحدث عن أسابيع قليلة فقط وقال انه سيعود في الأول من أيلول/سبتمبر. لعلّه أراد حمل رسالة تحذير أخيرة بعد تلك التي حملها وزير خارجيته جان إيف لودريان وقوبلت بسوء جواب الحكومة.
هذا أبرز ما طالب به الرئيس الفرنسي في رسالة التحذير التي تشبه تلك التي نقلها وزير خارجية فرنسا الى نائب الرئيس العراقي طارق عزيز قبيل اجتياح العراق:
- إعادة تأسيس نظام سياسي جديد بغض النظر عن الانقسامات التي لجأ اليها كل طرف وعن طائفية تم التحكم بها، وعن نظام تم القبض عليه ايضا من قبل فساد منظم.
- إعادة بناء شرعة مع الشعب اللبناني في الأسابيع القليلة المقبلة. ان هذا التغيير العميق هو المنتظر. وعلى القيادات والقوى السياسية ان تبرهن قدرتها على الإجابة.
- التسلح بالقوة لإعادة بناء وحدة وطنية لقيادة الإصلاحات الضرورية التي يحتاجها اللبنانيون واللبنانيات.
- البدء بإجراءات الشفافية الضرورية حول النظام المصرفي والمصرف المركزي في اطار دولي والتعاون مع صندوق النقد الدولي.
- حرية التعبير والصحافة والقدرة على الخلق يجب ان تتواصل في لبنان.
- اصلاح الطاقة والكهرباء والجمارك ومكافحة الفساد وإدارة المؤسسات العامة.
- لا شيك (مصرفياً) على بياض لدولة ما عادت تتمتع بثقة شعبها.
- تحقيق دولي شفاف لمعرفة ماذا حصل في مرفأ بيروت وتحديد المسؤوليات.
المضحك المبكي أن ماكرون رد على الناس الذين طالبوه بعودة الإنتداب الفرنسي وكذلك على بعض الصحافيين الذين أوحوا بذلك قائلاً: “لا تطلبوا من فرنسا عدم إحترام سيادتكم”
هذا الإنذار السياسي من رجل يقدّم نفسه صديقا للبنان وسارع الى إنقاذه، يحمل أيضا وعودا وأملا بالمساعدة الفرنسية والدولية، فقد قال ماكرون صراحة:”المال موجود ولا ينتظر سوى الإصلاحات. ان روزنامة باريس، واجتماعات سيدر والإصلاحات الاقتصادية ودعم الاسرة الدولية لا ينتظر سوى هذا ( الإصلاح)”. قال ايضا:”سوف اجاهد لكي ياتي اليكم التضامن الدولي المرتبط بصندوق النقد الدولي وكل الدول الكبرى”.
ولكي لا يُفهم كلامه على انه املاءات، حرص ماكرون على التذكير أكثر من مرة بانه “ليس على الرئيس الفرنسي ان يقول للقيادات اللبنانية ما عليها فعله وانما هي مطالب صديق يأتي حين تكون الأوقات صعبة. انه وقت تحمل المسؤوليات اليوم بالنسبة للبنان وقادته يجاب إعادة بناء الثقة والأمل”.
غمز ماكرون كثيرا من باب الشباب والمجتمع المدني، فاعتبر “ان غضب الشارع يحيي املا عظيما، واريد ان أقول لكل اللبنانيات واللبنانيين اننا سنكون الى جانبهم بعيدا عن هذه المساعدة الطارئة التي نقدمها اليوم”، مفندا المساعدات الضرورية للتعليم والتربية (١٥ مليون يورو للمدارس الفرنكوفونية ومليونان لمدارس الشرق، ومساعدات ومنح من الجامعات الفرنسية للطلاب الراغبين بالدراسة في الخارج ..) وهو ربط ذلك ربطا ذكيا بالحرية والديمقراطية ، فقال:” لا يجب ان ننسى أهمية المعرفة والتعليم، لكي يحبوا الحرية والمطالب المتعلقة بها، وكذلك الثقافة وحرية التعبير”.
لعلها رسالة الإنذار الغربية الأخيرة الى لبنان، ولعل على اللبنانيين التقاطها قبل فوات الأوان. ولعل فرنسا التي أسست لبنان الكبير وورثتنا دستورا، تتقدم الآن وسط الألغام الكثيرة، مقترحة دستورا جديدا ونظاما جديدا بعد ان ادركت ان لبنان السابق انتهى.
المضحك المبكي أن ماكرون رد على الناس الذين طالبوه بعودة الإنتداب الفرنسي وكذلك على بعض الصحافيين الذين أوحوا بذلك قائلاً: “لا تطلبوا من فرنسا عدم إحترام سيادتكم”.
(*) ينشر بالتزامن مع موقع خمس نجوم