الكومودور بخير.. بيروت ليست بخير
Rebels look out from the entrance hall of the Commodore Hotel with rifles and rockets during the "Flag War" opposing Shiites and Druzes. (Photo by Bernard Bisson/Sygma via Getty Images)

لم أتردد لحظة في تحديد فندق الكومودور مكاناً لاقامتي خلال العمل على مشروعي البحثي في بيروت عن خطاب الكراهية في الاعلام في اوقات الازمات. إقامة كادت أن تودي بحياتي، في لحظة الرابع من آب/أغسطس 2020.

لطالما ترددت على مسامعي عظمة الدور التاريخي لفندق الكومودور في قلب منطقة الحمراء في رأس بيروت خلال سنوات الحرب الاهلية اللبنانية، كما خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982 وما تلاه في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي.

تحول الفندق البيروتي العريق إلى مساحة لقاء لصحافيين أجانب ولبنانيين وعرب، وإلى “وزارة اتصالات” مع كل قوى الامر الواقع إبان الأزمات الكبرى، وكان يوفر الكثير من التسهيلات من شبكة إتصالات دولية ومحلية، فضلاً عن شبكة من اللبنانيين الذين كانوا يتطوعون لمرافقة الوفود الصحافية، وبينهم مترجمون وسائقون ومن يتولون الأمور اللوجستية وتأمين التصاريح للعبور عبر خطوط التماس بين غرب العاصمة وشرقها وأيضا نحو الجنوب والشمال والبقاع، وأيضاً إلى سوريا.

في العام 1996 وخلال دورة تدريبية مطولة في بريطانيا محورها صناعة الاخبار في الاعلام المرئي والمسموع، توطدت علاقتي بعدد من الصحافيين العاملين في الـ”بي. بي. سي.”. كانت زيارة بيروت بالنسبة إليهم رحلة في التاريخ الحديث، وأحد أبرز اوجه السرد الميداني ليوميات الحرب الاهلية في العاصمة من وجهة نظر الصحافيين، هو اوتيل الكومودور. فندق شاهد على ذكريات وحكايات ومؤامرات. سياسيون وصحافيون وجواسيس. “قهوة الاخبار”. البار الشهير حيث يتصل ليل الصحافيين بنهارهم وهم يكتبون ويصورون ويشربون ويرقصون ويغنون ويدخنون. “قهوة الأخبار” تجسد حقبة من عمر الأوتيل وجدرانها تمتلىء بصور من زمن صحفي ولّى.

اقفل الكومودور ابوابه في منتصف الثمانينيات بعد موجة خطف الصحافيين والرهائن الاجانب، ولكنه عاد واستعاد روحه بعد انتهاء الحرب الاهلية، كما المدينة التي طبعته.

جذبني الحنين الصحفي الى اوتيل الكومودور. كيف لا ومنذ فترة ليست بالبعيدة تقاعد احد زملائي في التدريس في لندن وقرر العودة الى مسقط رأسه الولايات المتحدة. كان مراسلاً سابقاً لشبكة “سي. بي. سي.” الكندية في بيروت في بداية الثمانينيات، وقرر أن يهديني الـ”تي شيرت” خاصته، بعدما إحتفظ بها عقوداً من الزمن من ايام إقامته في بيروت وكتب عليها “بيروت اوتيل الكومودور عام 1983″. هذه الـ”تي شيرت” صمّمها صاحب الاوتيل آنذاك يوسف نزال للصحافيين الاجانب النزلاء.

كيف اصبح الكومودور حالياً؟ هذا السؤال كان يتردد دوماً على لسان الكثيرين من الصحافيين الاجانب الذين غطّوا حرب بيروت الاهلية والاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982، وبينهم من اصبح زميلاً في تدريس الصحافة في لندن.

نعم، جذبني الحنين إلى الكومودور. مكوثي في هذا الفندق كان ليأخذني في رحلة عبر الزمن الماضي لم يتسن لي أن أعيشها كغيري من زملاء جيلي في مهنة المتاعب. لكن الكومودور في العام 2020 كان مختلفاً. فقد الأوتيل كل الصخب والحيوية اللتين طبعتا يومياته طوال عقود. وجدته فندقاً يحتضر، كالعشرات من أقرانه من فنادق العاصمة ولبنان، تحت وطأة أزمة اقتصادية ومالية ضربت لبنان في الأشهر الأخيرة، وجاءت جائحة كورونا لتزيد من ثقل هذه التأثيرات الاقتصادية. حتى بهو الفندق المعتم نسبياً كان يشي بأن شيئاً سيئاً قد حصل او سيحصل. عتمة تُذكر بعتمة الملجأ إبان سنوات الحرب الاهلية، مع فارق جوهري أنك تقيم في أحد أعرق فنادق بيروت. النزلاء تستطيع تعدادهم إلى درجة أنك تستطيع أن تحفظ وجوههم. الشيء الوحيد الذي احتفظ بسمعته التي عبرت حدود لبنان وانتجت افلاماً وثائقية، ومنها وثائقي للزميل عبدالله البني (قناة الجزيرة)، هو سعة صدر العاملين في الفندق وسعيهم لتأمين ما تطلبه دون تأفف او تردد أو إهمال. مهنية عالية وتحبب كبير يجعلانك تشعر انك بأمان بكل معنى الكلمة.

كنت اخبر اصدقائي في بيروت كيف ان الكومودور فقد وهجه ولم يعد يستطيع ان يحاكي تاريخه، حتى كان الانفجار المشؤوم في مرفأ بيروت. اصبت في وجهي من جراء الزجاج المتناثر بفعل عصف الانفجار، وكنت برفقة صديقاتي في الباحة الخارجية للفندق. في لحظة واحدة، عرفت ماذا يعني ان تحيا حرباً في اوتيل الكومودور. وضعوا لي كرسياً في ممر قريب من الطوابق السفلية للفندق. ممر آمن بالمعايير اللبنانية، لا زجاج فيه وبعيد عن مرمى الرصاص او القذائف. احتشد فيه العاملون والنزلاء للحظات مع دعوة جميع النزلاء للنزول الى الطوابق السفلية، قبل ان يتضح انه انفجار لم يكن سهلاً تحديد مكانه في الدقائق الأولى. لم يرض مسؤول الامن في الفندق ان اذهب الى المستشفى بسيارة خاصة حفاظاً على سلامتي واصر ان ننتظر سيارة الدفاع المدني الآتية، لكن جروحي حتّمت عليّ مخالفة التعليمات.

في لحظات قليلة، عشنا ما عاشه الصحافيون في كومودور الثمانينيات. بعد يومين من الإنفجار، عدت الى كومودوري المختلف. عادت الحياة الى الكومودور. لكأن الانفجار قد أحيا الفندق ودوره. امتلأ المكان بصحافيين من كل اصقاع الارض. فرق اغاثة وانقاذ من ايطاليا والمانيا ودول أوروبية أخرى. حركة كثيفة تشغل البهو وموظفي الإستقبال. المطعم الذي كان مغلقاً أعيد فتحه كما مركز رجال الاعمال. عادت الحياة الى الكومودور. الموظفون الذين كانوا يعملون يومين أسبوعياً في زمن الكورونا، طلبت إدارة الفندق منهم أن يداوموا يومياً لخدمة الاعداد المتزايدة من النزلاء. قبل الإنفجار، كنت النزيلة الوحيدة في الطابق الحادي عشر. بعد الانفجار، اصبح هذا الطابق الذي يطل على بحر بيروت يعج بالنزلاء. إقتضت حياة الكومودور المتجددة مأساة كبيرة بحجم انفجار مرفأ بيروت حتى يقول لنا: “انا هنا عندما تحتاجونني”. كأن عنوان الصحافة الاجنبية في بيروت في زمن الازمات والحروب لم يتبدل.

إقرأ على موقع 180  "رحلة" نيترات الأمونيوم من بافاريا إلى بيروت

فندق الكومودور، وعلى الرغم من بعض زجاجه المحطم، يحيا في الازمات. لعل ما انطبع في ذهني اكثر هو قول الشاب وليد (موظف الاستقبال)، “اعيش الآن ما كان والدي يرويه لي عن الفندق في زمن مضى”.

طُبعت هوية اوتيل الكومودور طوال سنوات الحرب الأهلية بهوية الصحافيين الذين كانوا يتنافسون على إشغال غرفه وبعضم كان يقيم فيه لسنوات والبعض الآخر، كان يختار غرفة محددة.

برغم كل ما أصاب لبنان وعاصمته، يبقى الكومودور عنواناً لبيروت. لشارع الحمراء. للمحلات والمطاعم الشعبية المحيطة به. للسائقين الذين يتحينون اللحظة لسرقة رحلة بالتاكسي. لبائعي الهدايا التذكارية في محيط الفندق. لعربات الخضار. لبائعي القهوة. لرواد المقاهي التي غاب الكثير منها ولكن دائماً كان يولد من يعوّض ولو بهوية جديدة.

فندق الكومودور. فندق الصحافة والصحافيين. عاد ينبض. بيروت ليست بخير. “طمنونا عنكم”.

Print Friendly, PDF & Email
زاهرة حرب

أستاذة في جامعة سيتي، بريطانيا

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  الصراع الصيني الأمريكي.. الشرق الأوسط لمن؟