كثيرون قالوا إنّ ما جرى عصر الرابع من آب/أغسطس في بيروت، سيشكّل محطة تأسيسية. مفصليّة. تغييريّة. إنعطافية بالنسبة إلى واقع لبنان السّياسي. غير أن مشهد الاحتجاجات التي شهدتها عاصمة لبنان، في الأيام الأخيرة ومن ثم إستقالة حكومة حسان دياب، وقبلها إستقالة عدد من الوزراء والنواب، لا ينبئ بتغيير حقيقي، خصوصاً على صعيد أداء الحراك وإدارته وشعاراته وأهدافه وأولوياته.
أقول ذلك من موقع المشاركة لا موقع الضد. هناك جيل لبناني غاضب كفر بكل المنظومة الحاكمة، وأخذ به الوجع مأخذاً حد توقه إلى البناء من جديد. صحيح أن البعض من هؤلاء المحتجين، ولا سيما الفئة الشبابية منهم، يمتلك نضجاً سياسياً حقيقياً للتغيير، لكن الغضب الذي وحّد كل هؤلاء، سيبقى غضباً أو مجرد ظواهر صوتية وربما يرتد في خدمة المنظومة الحاكمة نفسها، ما لم ينتظم كل هؤلاء الغاضبين في ائتلافات واضحة البرامج السياسية والأهداف. ستبقى الفوضى سيدة الموقف، والأخطر أنه لنا في تاريخ لبنان أمثلة حروب طاحنة كانت لها مقدماتها، ولدينا بعض طبقتنا السياسية على أتم الإستعداد لأخذ البلد إلى صراع أهلي من جديد، إذا شعر بالخطر يحدق بإمتيازاته ومكاسبه ولا سيما على السلطة التي يتربع على عرشها.
ليست المشكلة في الانقسام نفسه بين الغاضبين. الانقسام السياسي مهما كانت حدته ليس هو مشكلة بحد ذاته. المشكلة هي في نظام يحتم في بنيته تحويل الانقسام إلى حروب واقتتال، او إلى تسويات كالمورفين، تجمد الاقتتال وتؤجله إلى أجل، ثم يكون الحال بعدها إما حرباً أهلية او جلسات حوار وتسوية او إجازة التدخل المباشر من الخارج.
لذلك، يصبح إختيار الشعارات مهمة إستثنائية. نحن أمام معضلة نظام. وبالتالي، اية دعوة لانتخابات نيابية مبكرة هي عمليا إعادة تدوير للسلطة نفسها، وللنظام نفسه، فالأحزاب السياسية تمتلك بلوكات طائفية واضحة. الدعوة للانتخابات النيابية المبكرة هي فخ حقيقي، يراد به الوصول إلى تسوية جديدة، في إطار النظام نفسه، فنكون أمام تغيير في الشكل، لا يلامس عمق المشكلة بتاتا.
كلما شعر أهل النظام بضعفهم، يلجأون إلى المقويات الطائفية نفسها. وكلما لم تسعٰ “الإنتفاضة إلى تقديم أهدافها العاقلة بشكل منظم عبر انتظام المنتفضين في برنامج له منهجه الواضح، فشلت في كل شيء ونجحت في تقوية النظام وتدعيمه
ما لم يتوافق الزعماء اولا قبل الناس، على ضرورة تغيير بنية النظام القائم، وما لم يدفعهم الى ذلك تحسسهم بالمسؤولية، وما لم يحصل ضغط شعبي وازن واضح الأهداف في هذا الإطار.. ما لم يكن هذا المسعى جهدا مشتركا من أعلى الهرم وأسفله، لن نشهد ربيعا لبنانيا ولا بأي شكل من الأشكال. سنكون صدى للربيع العربي الذي انتهى إلى إعادة تدوير السلطة في بعض البلاد العربية.
بعد إستقالة حكومة حسان دياب، يتضح لنا أن انقسام اللبنانيين حول الرؤى السياسية بات أكبر من أي وقت مضى، وأن الزعماء لم يرتقوا إلى مستوى التحسس بالمسؤولية التي لا بد وأن تدفعهم إلى إحداث تغيير بنيوي في المنظومة. منظومة سياسية اهترأت في موازاة اهتراء البنية الإقتصادية.. هذا الهريان المزدوج فرصة حقيقية لإعادة البناء، برغم صعوبة هذا الفعل التأسيسي.. غير ان الصعوبة بطبيعة الحال لا تلغي الحاجة الضرورية إليه، وضرورة الدفع بهذا الإتجاه.
ثمة غضب وغضب مضاد. انفجار بيروت أسكت اصوات الغضب العاقلة. لا بد من تفهم أصوات الغضب الراغبة في الانتقام اكثر من البناء والتأسيس. هذه ردة فعل لحظوية ومأساوية، لكن لا يجب أن تنسينا حقيقة سلطة بارعة حتى في استثمار هذا الغضب طائفياً ومذهبياً وسياسياً. نعم، كلما شعر أهل النظام بضعفهم، يلجأون إلى المقويات الطائفية نفسها. وكلما لم تسعٰ “الإنتفاضة إلى تقديم أهدافها العاقلة بشكل منظم عبر انتظام المنتفضين في برنامج له منهجه الواضح، فشلت في كل شيء ونجحت في تقوية النظام وتدعيمه وصارت تتقدم صفوفها فئة من الإنتهازيين الذين لا بد من لفظهم، وهذا لا يكون إلا بالتوحد حول برنامج وقيادة جماعية وأهداف مرحلية.
يجب أن ندرك أن الأزمة في لبنان عميقة وبنيوية. لبنان يحتاج إلى تنوير حقيقي وحداثة حقيقية، حتى يخرج من كل الآفات. قد يُخلق هذا التنوير بشكل تراكمي بعد سنوات او عشرات السنوات من المشاكل التي تدفع اللبنانيين الى اليأس ثم التفكير بعد اليأس، ثم محاولة ايجاد حلول، فتضارب هذه الحلول ببعضها البعض.. وصولا إلى لحظة التنوير. وقد يُخلق بقرار من أعلى. قرار يكون له تداعيات تنويرية كبيرة، من أجل أن يستوعب الفكر اللبناني مكاسب العقل الحديث من عقلانية وموضوعية وفعالية تغني عن تحويل الاختلافات الدينية والسياسية، مهما كانت عميقة، الى حروب واقتتال.
على الأغلب، سنعيش “قرونا وسطى” من الخلافات والاقتال حتى نصل إلى لحظة التنوير، على الرغم من أننا اليوم امام فرصة حقيقية لان يجتمع الزعماء ويفرضوه من أعلى، حتى يترسخ شيئا فشيئا في القاعدة الشعبية، وتترسخ معه الكثير من المفاهيم والقيم التي من شأنها بناء مجتمع حقيقي، ومواطن حقيقي، بكل ما تعنيه كلمة المواطن من معنى.