الباعث على هذا القلق الماروني المتأصل هو علاقتهم بلبنان وإعتبار أنفسهم طائفة مؤسسة. يأتي ذلك في وقت تبدّلت أحوالهم من أكثرية غالبة إلى أقلية باتت ما دون ثلث سكان لبنان. صاروا يستمسكون “المناصفة” طوقاً للبقاء. في زمن غلبتهم، رذلوا أية دعوة إلى المساواة مع غيرهم من المكونات الأهلية. هذا الصعود إلى الواجهة وتلبس دور رأس الحربة، ثم الهبوط إلى مرحلة أزمة الوجود والهوية والإغتراب، له مساره الطويل. له أيضاً مسالكه المتعرجة والفضفاضة في علاقة الموارنة بلبنان. في تعريف هذا الوطن المتعثر دوماً وتحديد وجهته. في محاولة إحتكار تاريخه وأسطرته. في إعتباره أرض ميعاد دائمة.
تعددتْ روايات تأسيس لبنان. واحدة ذهبت إلى إعتباره “وطن المسيحيين”، على ما قال البطريرك الماروني انطون عريضة ونقله عنه العلامة رشيد رضا ودوّنه في أحد مقالاته. أما الثانية، فقد حدّدت التباس التأسيس بين من إعتبر لبنان خاصرة سوريا الرخوة وأسسه اتفاق سايكس ـ بيكو ليكون كذلك. في حين أن الرواية الثالثة نسبت التأسيس إلى أسطورة فخر الدين المعني الثاني. هناك رواية رابعة تنسب التأسيس إلى مجموعة من البرجوازيين السوريين في حمص في إطار المصالح التجارية.
لقد عاكس المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي الكثير من روايات التأسيس، مُشدداً على أن تاريخ العائلات والطوائف خضع للتزوير. بل صورة لبنان العامة بشموليتها كانت ميداناً لهذا التزوير. ولقد عمل كثيرون على مبدأ إرنست رينان في “أن صناعة وطن تقوم على تزوير تاريخه الخاص”. يشير الصليبي في هذا السياق إلى أن “فكرة لبنان بدأت في رأس مجموعة من المسيحيين الكاثوليك، بمن فيهم الموارنة، في لبنان وسورية. ومن غرائب الأمور أن آباء لبنان ولدوا في الشام وعاشوا في الشام. لكن كان هناك ما يجمعهم، أي مسيحيّتهم، وأنهم من الأثرياء الذين يطلق عليهم مصطلح “برجوازية”. هؤلاء أقاموا مشاريع تجارية، وخطّطوا لإقامة بلد اسمه لبنان بالحدود المعروفة، وهي حدود أخذوها من خريطة رسمها الفرنسيون سنة 1861. والخريطة كانت خريطة الطوائف”.
تصعب رواية تأسيس لبنان الكبير، من دون الإشارة إلى مرحلتي القائمقاميتين ثم المتصرفية. محطتان أساسيتان بين الإمارة والدولة. يرى آباء المارونية السياسية أن لبنان هو تبلور تاريخي، جغرافي، دستوري تدريجي. ويرفض الكاتب والمؤرخ الراحل سليمان تقي الدين نسبة التأسيس إلى الإمارة الشهابية، إلا من قبيل ربط تلك الإمارة المسيحية، كما يسميها كمال الصليبي، “بالحكم ذي الهيمنة المسيحية”. يقول تقي الدين إن صيغة القائمقاميتين أرضت الكنيسة التي فازت للمرة الاولى بتثبيت مشروعها السياسي في تكتيل المسيحيين حول فكرة الكيان اللبناني المستقل. مسار شابته نزاعات أهلية وتدخل قناصل وصولا إلى نظام المتصرفية الذي كان بمثابة تكريس وتتويج للتحولات التي حصلت في منتصف القرن التاسع عشر وصولا إلى تكريس “مجلس الإدارة” الذي غلب عليه الطابع المسيحي.
لبنان بلد اللاغالب واللامغلوب. مآلاته المستمرة أن لا يفارق سكة التسويات المستمرة. وعندما كانت تنعطب التنازلات وتقف التسويات أمام حائط مسدود، كان البلد ينفجر ليعلن مباشرة مرحلة جديدة من مراحل التسوية
لذلك، تلتقي روايات التأسيس، على تضاربها وتعددها، عند حقيقة أن المكون الماروني كان يملك الأرجحية. أرجحية جعلته يمتلك لاحقاً الدور الأكبر في المفاوضة على حدود لبنان الكبير عام 1920. ونجح في تحقيق معظم مطالبه خلافاً لنزعات الملحقات الضعيفة. في عام 1926 ولد الدستور اللبناني، مسبوقاً في عام 1922 بإنشاء مجلس تمثيلي سيتحول لاحقاً وتدريجياً الى مجلس نيابي.
واللافت للإنتباه أن قوانين الأحوال الشخصية في مرحلة ما بعد تأسيس لبنان الكبير كانت لتؤسس لدولة مدنية فيها الديني واللاديني (قانون ٦٠ ل. ر. للعام 1936)، وهو ما استند إليه طلال الحسيني قبل أعوام لإقامة زواج لدى كاتب العدل، غير أن تطبيقه لاحقاً أسقط هذه الميزة، ضمن صفقة قبول المرجعية الروحية السنية بالدولة مقابل حصر الأحوال الشخصية بالطوائف، خلافاً للدستور.
ومثلما ساهمت الحرب العالمية الأولى في إنضاج ظروف نشوء لبنان الكبير، فإن الحرب العالمية الثانية، نضجت ظروف إستقلال لبنان عن دولة الإنتداب، أي فرنسا التي كانت تخوض تنافساً مع بريطانيا.
أقام المسيحيون بقيادة الموارنة دولة من طراز مختلف عن سائر الدول العربية. لقد خلقوا دولة جمهورية دستورية برلمانية ديمقراطية توافقية وليبرالية، سياسياً واقتصادياً. هذه العناوين الفضفاضة للوليد الجديد “لبنان” تعني أنه لا يستوي إلا بالتوافق. لبنان بلد اللاغالب واللامغلوب. مآلاته المستمرة أن لا يفارق سكة التسويات المستمرة. وعندما كانت تنعطب التنازلات وتقف التسويات أمام حائط مسدود، كان البلد ينفجر ليعلن مباشرة مرحلة جديدة من مراحل التسوية!.
هذا لا يمنع من القول أن الدولة اللبنانية، المارونية المنشأ (البعض يقول المارونية ـ الدرزية المنشأ)، شكّلت واحة للحرية والحداثة. تميزت عن محيط إسلامي وعربي من المحيط إلى الخليج. فقد سعى الموارنة إلى بناء منظومة فكرية سياسية تلائم هذه المعطيات الجديدة. كان ذلك يحصل في خضم صعود تيارات ثقافية، يسارية ويمينية، قومية ولبنانية. لقد طوّعوا مشروعهم لبناء لبنان. وهذا ما سعت إليه نخبة منهم في القرن التاسع عشر، ليكون لبنان بهوية ثنائية مسيحية – إسلامية. ابتدعوا نظرية “العيش المشترك”. ثم ذهبوا أبعد من ذلك على أثر موجة القومية العربية وأحداث 1958 اللبنانية التي كانت تستبطن بالنسبة إلى رئيس الجمهورية كميل شمعون طلباً مُضمراً بالتجديد لولاية رئاسية ثانية، فأنتجوا نظرية “القومية اللبنانية”، وانتهوا إلى القول بدولة – أمة. “فحيث تكون الدولة تكون أمة”. والأمة اللبنانية مزيج من السلالات والثقافات والتلاقح بينها والتاريخ المشترك وإرادة العيش معاً.
وإلى “أسطورة التأسيس” كان لـ”المارونية السياسية” منظرون ومفكرون من قماشة إدوارد حنين؛ فؤاد افرام البستاني، جواد بولس، وشارل مالك. وعلى سبيل المِثال، كتب جواد بولس آلاف الصفحات في التاريخ، ليثبت أن الجغرافيا وحدها على حق، وأنها هي في النهاية وليس التاريخ صانعة المصائر والشعوب. وكان يساند هذه الأقلام، وفقاً لما أورده منح الصلح في كتابه “المارونية السياسية”، صلاح لبكي كاتب الافتتاحيات في “البشير” وأول رئيس لجمعية “أهل القلم” في لبنان. كان يبرز بين حين وآخر الشاعر سعيد عقل الذي صاغ أطروحات جذّابة بالنسبة إلى هذه “المارونية السياسية”.
“الإيديولوجية اللبنانية” هذه مثّلت ألق المارونية السياسية. هي نفسها تمثلت بتبني مؤسسات ثقافية واعلامية من جبران خليل جبران النموذج الأول في المدارس الرسمية. وطبعا تبنته الجمهورية الأولى لأنه كان منتشراً في العالم. وفي الداخل، سطعت أيقونات مثل “الندوة اللبنانية” برئاسة ميشال أسمر و”مجلة شعر” وأقطابها من سوريا ولبنان. هؤلاء كانوا يمجدّون الثقافة الغربية، في مواجهة تمجيد آخرين للثقافة العروبية. وما بين كل هذه المشاهد كانت تبرز أساطير فينيقيا وسعيد عقل والفرادة اللبنانية.
كل ذلك واكبته حركة إصلاحية قوية تمثلت بالتجربة الشهابية التي قامت على تحديث الدولة ومؤسساتها، كما على توسيع مشاركة نخب الملحقات ذات الطابع الإسلامي في هذه المؤسسات لتقوية “الولاء الوطني للبنان”، الذي شابته ثُغَر كشفت عنها “أحداث عام 1958″، على ما يسميها اللبنانيون، بينما هي واقعاً كانت حرباً. لكن “المارونية السياسية” أضحت في ستينيات القرن الماضي نقطة محورية جاذبة لشرائح من مختلف الطوائف.
و”المارونية السياسية ” إذ لم تنجز “الاندماج” الاجتماعي الكامل، فقد أنجزت مستوى متقدماً من القيم والأمثولات المشتركة، وتمكنت من تكريس شيء من التداخل الفعلي على مستوى المجتمع المدني والاقتصاد ومرافق التعليم ومراكز الإستشفاء والخدمات والنقابات والمؤسسات السياسية الرسمية والشعبية (الأحزاب).
(*) الحلقة المقبلة “المارونية السياسية” بين زمنين
(**) الحلقة الأولى، “المارونية السياسية”: الجمهورية الأولى والفردوس المفقود