الدليل هو أن “الوكالة اليهودية” كانت قد أقامت جسور تواصل مع العديد من النخب السورية والعراقية والمصرية والأردنية واللبنانية على حد سواء، بل إن بعض الجسور كانت قد طالت مؤسسي أحزاب ومسؤولين هم في سدة السلطة، وفي أرشيف إلياهو ساسون، وهو يهودي من مواليد دمشق 1902 كان قد عمل في “الوكالة اليهودية” ما بين 1933 و1948، المُسمى “يوميات حارة اليهود في دمشق”، الكثير مما يمكن الإستناد إليه في توصيف تلك الجسور وكم بلغت أطوالها، مع تسجيل استثناء وحيد تمثل في أنطون سعادة، مؤسس “الحزب السوري القومي الإجتماعي” عام 1932، الذي قضى العقدين الأخيرين من حياته وهو يقرع أجراس الإنذار حول ما يحاك لفلسطين، وتداعيات ذلك على المنطقة العربية برمتها، والمؤكد أن سعادة دفع حياته ثمناً لذلك “القرع” الذي لم يمل منه حتى بات ديدنه الذي لا يفارقه.
بعد أن حلّت بريطانيا مسألة “الجنين” الذي سيعطي “الوليد الصهيوني” عبر إنشاء “الوكالة اليهودية”، كان السؤال: كيف يمكن التحكم بإدارة الصراع الذي سينشأ حتما بفعل “الولادة”؟
كانت القراءة البريطانية لثورة عز الدين القسام عام 1936، تؤكد أن “نبض” الهوية والذات ما يزال حياً في الذات الجمعية العربية برغم محاولات تذويب الهوية العربية. هنا يُمكن القول إن بيان وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن الذي أصدره في 29 أيار/مايو 1941 كان كما “السهم” الذي يُشير إلى “الهدف” في هذا السياق، وفي ذلك البيان أعلن إيدن عن “تأييد حكومة بلاده آمال الوحدة العربية”، قبل أن يُعبّر عن استعداد هذه الأخيرة لـ”مساعدة العرب على تحقيق آمالهم تلك”، وما جرى هو أن العرب التقطوا الإشارة ثم سارعوا، بدءاً من العام 1942، لإنضاج الفكرة التي أبصرت النور رسمياً في شهر آذار/مارس 1945، وكنتيجة كانت الرؤية البريطانية تقول بأفضلية أن يكون الصراع، إذا كان لا بد من اندلاعه، عربياً – إسرائيلياً، بدلاً من أن يكون فلسطينياً – إسرائيلياً.
يمكن القول إن “طوفان الأقصى”، الذي أعاد الصراع إلى مربعه الفلسطيني، قد ألغى مفاعيل المعطيات السابقة، ومعها الآثار التي خلفها “تعريب” الصراع على القضية الفلسطينية، مؤسساً بذلك لمنحى جديد في الصراع وهو يختلف في طبيعته عن ذاك الذي كان سائداً منذ نحو سبعة عقود ونصف
من الراجح أن ثمة حسابات مبكرة للبريطانيين كانت تقول بأن “تعريب” الصراع بدلاً من بقائه في مربعه الفلسطيني سيكون أكثر جدوى بالنسبة للمشروع، فعلى الرغم من أن الفعل الأول، أي “التعريب” كان من شأنه أن يمنح الصراع فضاءً رحباً وعمقاً استراتيجياً وازناً، إلا أنه في مقلب آخر، كان يقذف برزمة من المعطيات التي إن وضعت في الميزان في مواجهة الأولى ترجح فيه كفة هذي الأخيرة بسرعة توحي بانعدام التكافؤ بين الكفتين.
تقول المعطيات إن تركيبة الكيانات، التي أسّس لها “مشرط سايكس بيكو”، فيها من التناقضات ما يكفي لجعل جبهاتها الداخلية في حال من الإضطراب الدائم، وهي ستكون أشد اضطراباً عندما تلج، تلك الجبهات، نحو رسم خياراتها تجاه المشروع الصهيوني لاعتبارات تتعلق بمنظومة الأفكار والقيم التي حالت التركيبة سابقة الذكر دون انصهارها في بوتقة واحدة، والشاهد هو أن تلك الكيانات كانت قد شهدت، إبان رسم الخيارات، انقساماً أفقياً وعمودياً طفيفاً يمكن لحظه منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي عبر “الحالة الأردنية”، ثم ما لبث أن راح يتضح أكثر فأكثر عبر المنعطفات والأحداث التي مرت بها المنطقة، حتى غدا اليوم واضحاً بدرجة فاقعة، الأمر الذي يُثبت واقعية التقديرات. وتقول المعطيات أيضاً إن سير تلك الكيانات المحتوم نحو تثبيت أركان “الدولة القطرية” وربطها بالنظام العالمي سوف يؤدي إلى نشوء حالات تناكفية فيما بينها تجعل من تكوين جبهة عربية عريضة في مواجهة المشروع الصهيوني أمراً شبه مستحيل، والشاهد هو أن آلاف الوثائق التي تكشفت إما بمرور الزمن أو عبر حيثية معينة، تثبت أن الكيانات العربية لم تكن، في أي لحظة من اللحظات، تتبنى موقفاً موحداً من أي حدث يخص فلسطين.
في هذا السياق، يُمكن إستحضار مثال صارخ رصده الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه “زيارة جديدة للتاريخ”، ففي العام 1974، وسوق النفط ما يزال مُلتهباً بفعل الحظر الجزئي السعودي، قال ميشال جوبير، وزير الخارجية الفرنسي، لنظيره الأميركي هنري كيسنجر: “هل تظنون أننا لا ندرك أنكم أنتم من يقف وراء ارتفاع أسعار النفط وكذا وراء استمرار الحظر السعودي له؟”، وأن “الفائض من أمواله سوف يذهب إلى جيوبكم أنتم فحسب”، فرد عليه كيسنجر: “لا يهمني ما تعرفون وما لا تعرفون، المهم أن تدركوا أن (مشروع مارشال) انتهى، ساعدناكم عبر الحصول على طاقة رخيصة في نمو اقتصاداتكم، والآن أصبحتم المنافس الأكبر لنا”. إذاً لم يكن قرار حظر النفط السعودي للغايات التي تم تسويقها في تلك المرحلة.
وفي الأثر الذي يمكن لـ”تعريب” الصراع أن يتركه في الفضاء الدولي يمكن القول إن ذلك الفعل قد أتاح لـ”المستثمرين” في المشروع تسويق الأمر على النحو التالي: طالما أن العرب يعيشون على جغرافيا مترامية الأطراف وهي تمتد على 14 مليون كيلومتر مربع، فلماذا يبخلون على “اليهود” بـ 27 ألف كيلو متر مربع منها؟ علماً، يضيف ذلك الخطاب، أن نصف هذه الجغرافيا خالية من السكان، ومن المؤكد أن هذا الخطاب سوف يلقى، وقد لاقى، رواجاً عند مواطن نرويجي، مثلاً، أو هو كندي أو غربي على العموم، خصوصاً بعد أن افتتح بازار “الهولوكوست” في العام 1945 الذي تلاقى في مفاعيله مع التسويق آنف الذكر لينتج الإثنان حالة داعمة ما كان ممكناً أن تنتج فيما لو كان إطار الصراع قد جرى تصديره للعالم على أنه فلسطيني – إسرائيلي.
بشكل ما يمكن القول إن “طوفان الأقصى”، الذي أعاد الصراع إلى مربعه الفلسطيني، قد ألغى مفاعيل المعطيات السابقة، ومعها الآثار التي خلفها “تعريب” الصراع على القضية الفلسطينية، مؤسساً بذلك لمنحى جديد في الصراع وهو يختلف في طبيعته عن ذاك الذي كان سائداً منذ نحو سبعة عقود ونصف.
ألا تجيب هذه السردية السابقة عن السؤال الوارد أعلاه؟.