أزمة الكونسرڤاتوار اللبناني.. يكون أو لا يكون!

الداخلُ؛ هذه الأيام؛ إلى المركز الرئيسي للمعهد الوطني العالي للموسيقى "الكونسرفاتوار"، الكائن في منطقة سن الفيل، لا بد وأنْ يشعر بحركة محمومة ونشاط غير مألوف لم يشهده منذ زمن: اجتماعاتٍ ولقاءات مكثفة تجري على أثر تعيين مدير عام جديد لمجلس الإدارة. وقد رسا هذا التكليف على المؤلفة الموسيقية هبة القوّاس.

تعيينٌ انتظرته هبة القوّاس منذ زمن، يأتي اليوم ولبنان يمرُ بأوضاعٍ هي الأصعب في تاريخه، لتتلقفه بيديّها ككرة نار من دون تردد، مُعتبرة أن المُهمة الموكلة إليها في هذه المرحلة صعبة وشاقة، ولكنها أيضاً مهمة وطنيّة بامتياز.

إثنتا عشرة سنة مرت على رحيل المؤلف الموسيقي وليد غُلمية الذي شغل منصب رئاسة الكونسرڤاتوار لمدة طويلة، امتدت منذ توقف الحرب الأهلية اللبنانية (في أوائل تسعينيات القرن الماضي) حتى لحظة غيابِه عام 2010. والراحل غُلمية كان قد لعب دوراً محورياً في نهضة هذه المؤسسة الموسيقية، بِبُعْديْها التربوي والثقافي، وساهم في إعادة بنائها من جديد بعد أن دُمرت بفعل الحرب. ولا يختلف إثنان على توصيف الدور الذي لعبه غُلمية بأنّه كان دوراً تأسيسياً نقل المعهد الموسيقي من مؤسسة مُحطّمة تعيش على هامش الحياة الثقافية إلى مؤسسة مُتقدمة يتصدر قلب المشهد الموسيقي والثقافي، بالرغم من كل الأخطاء الفادحة التي شابت مسيرة هذا التأسيس.

الشغور الذي ولَّد فراغاً

لكن الشُغور الذي خلّفه الراحل غُلمية تكَشَّف عن أزمة حقيقية في إيجاد البديل الأصيل عنه من داخل الوسط الموسيقي الأكاديمي. وقد رفعت السُلطة السياسية من منسوب هذه الأزمة، إذْ حصرت اختيار البديل بطائفة ومذهب مُحددين. فمِن حيث لا يدري أهل “البيت الموسيقي” رُبط تعيين مُدير أصيل لمؤسستهم بعملية تحاصص الطوائف والمذاهب اللبنانية للمواقع والمناصب في الدولة. ربْطٌ أحْدَثَ ضرراً فادحاً في استكمال ما انتهى إليه غُلمية وإمكانية تصحيح الأخطاء التي اعترت مسيرته.

السلطة السياسية بكافة أحزابها مُجْمِعة على تصفية القطاع العام، من إدارات رسمية ومؤسسات عامة بشُقيْها الخدماتي والتربوي، وإنْ عبَّر خطابها عن عكس ذلك

هذا الإشتراط السياسي – الطائفي لملء شغور إداري في مؤسسة طابعها ثقافي بامتياز أوصل الأزمة إلى إستعصاء تسبب بحالة من انعدام الجاذبية سيطرت على كل ما يخصّ هذه المؤسسة. ثم جاءت جائحة ڤيروس كورونا، ومعها الأزمة الاقتصادية التي ما زالت تضرب في البلاد طولاً وعرضاً، لتسهما في ترسيخ حالة من فراغ تُنذر ببداية اضمحلال المؤسسة شيئاً فشيئاً. ولم يُجدِ نفعاً تعيين ثلاثة مدراء على مدى اثنتي عشرة سنة. الأول كان بالإنابة، والثاني بالتكليف لمرتين. أما الثالث فكان تعيينه مديراً أصيلاً سبباً لإنتقاله من نيويورك، حيث كان يُقيم، إلى بيروت كمحطة أخيرة من حياته مواجهاً فيها بشجاعةٍ ونُبلٍ قدراً تراجيدياً حزيناً أدى إلى وفاته بعد اصابته بڤيروس كورونا.

اليوم، وبعد مرور كل تلك السنوات، وفي ظل كارثة اقتصادية غير مسبوقة يمر بها لبنان، يأتي تعيين القوّاس مديرة بالتكليف لمجلس إدارة هذا المعهد بمثابة جرعة أوكسيجين تحتاجها هذه المؤسسة، وليسجِّل سابقة على المستوى الجندري، وخرقاً مُلفتاً للإنتباه في احتكار الذكور الدائم لموقع المدير العام في هذه المؤسسة الثقافية الرسمية.

هي سابقة حميدة يُعْتدُّ بها في معركة مساواة المرأة بالرَجُل وحقّها في تبوء أعلى مراكز القيادة والمسؤولية، ويُعوَّلُ عليها الكثير لِما لدى القوّاس من مواصفات شخصية وامكانيات فنيّة وإدارية تحتاجها المؤسسة.

والمُلفت للنظر أيضاً في أمر هذا التعيين أنه أتى ليكسر العُرف المُعتمد في الهوية الطائفية لهذا المنصب الإداري، من دون أن يعني ذلك أنّ السُلطة السياسية المُخوّلة قد أجرت تعديلاً جذرياً في سياسة التحاصص الطائفي لمواقع الفئة الأولى في الدولة. ولكن يبدو أنّ زمن الجحيم الذي اُدخلت فيه البلاد والعباد عُنْوَة، والانهيارات المستمرة على كافة المستويات، أوجد ثقوباً وتفسخات في جدار هذا النظام الطائفي. وكأن في هذه الثقوب والتفسخات ما يوحي بالمثل الشعبي القائل: ورُبَّ ضارةٍ نافعة!

تصفية القطاع العام

يأتي تعيين القوّاس في ظل مرحلة فائقة الصعوبة والدقة داخل المؤسسة وخارجها، وعلى وجه الخصوص وضع خزينة الدولة اللبنانية التي تعاني من حالة إفلاس وعدم قدرة على استنهاض إداراتها ومؤسساتها العامة والتعويض على موظفيها إلا ما تيسر لها من إعانات شحيحة ومُتقطِّعة لا تُعيد للرواتب وزنها ولا قوتها الشرائية التي تمتعت بهما في السابق.

ولا يحتاج المرء إلى الكثير من العناء ليفهم أن السلطة السياسية بكافة أحزابها مُجْمِعة على تصفية القطاع العام، من إدارات رسمية ومؤسسات عامة بشُقيْها الخدماتي والتربوي، وإنْ عبَّر خطابها عن عكس ذلك. فالسلطة تمضي قُدما في سياسة تفتيت القطاع التربوي الرسمي لإلحاقه بالقطاع الخاص غير عابئة بما يحصل من احتجاجات وإضرابات مفتوحة، تدير ظهرها تاركة مؤسساتها التربوية  تنهار لتضمحل وتذوب من داخلها بفعل التوقف عن العمل والإنتاج، والجامعة اللبنانية الوطنية مثال واضح على هذا.

على شفير الهاوية

المؤسسات العامة ذات الطابع الإنتاجي الثقافي؛ ومن بينها مؤسسة الكونسرفاتوار الموسيقي؛ تقف متأرجحة على شفير الهاوية كنتيجة مُرّة لإنسداد أفق الأزمة على الصعيد العام. يترافق هذا التأرجح مع إحجام متزايد للجمهور على طلب التعليم الموسيقي وحصر اهتمامهم بالجانب المعيشي الضروري.

إقرأ على موقع 180  "هآرتس" و"لغز الكاتيوشا": هدنة أم "أيام قتالية"؟

ويواجه الموسيقيون اللبنانيون العاملون في المجال التعليمي-التربوي وضعاً معيشياً يكاد يكون الأصعب من بين كافة المؤسسات الثقافية أو المهن الحُرّة. فبالإضافة إلى كون رواتبهم أصبحت؛ تقريباً؛ لا تساوي شيئاً كما هو حال جميع موظفي القطاع العام، إلا أن الصعوبة تكمن في أنّ “السلعة” التي يقايضون بها عيشهم الكريم (تعليماً أو عزفاً) أصبحت سلعة غير مطلوبة، وهُم غير قادرين على فرض ثمنها بالدولار الأميركي أُسوة بباقي المِهن الحرّة.

أزمة الكونسرفاتوار اليوم أبعد بكثير من مطالب لتعويضات مالية مُستحَقّة.. وتطرح مصير هذه المؤسسة العريقة، أي أنْ تكون أو لا تكون

من الواضح أنّه أصبح لِزاماً على العاملين في مؤسسة الكونسرفاتوار الموسيقي الشروع بالتفكير من خارج الصندوق. إلا أن هذا لا يعفي السُلطة الإجرائية من مسؤوليتها الأساسية في دعم هذه المؤسسة بكل ما يلزم للإستمرار في نشر الوعي الثقافي والتعليم الموسيقي.

فالأزمة الاقتصادية العامة في البلاد التي ينوء الجميع تحت عنف ضرباتها المتوالية لا تتلخص فقط بتقصير من هنا أو تقاعس من هناك، بل هي واقعة بالأساس مع منظومة سياسية فاسدة، وأفسدت كل شيء، حتى الملح. أمّا الأزمة التي يرزح تحتها الكونسرفاتوار اليوم، بجزئيها الداخلي الخاص والخارجي العام، فلا تنحصر فقط بكونها مطالب لتعويضات مالية مُستحَقّة. الأزمة أبعد من ذلك بكثير، وتطرح مصير هذه المؤسسة العريقة، أي أنْ تكون أو لا تكون.

التشاؤل.. الخيار الوحيد

التفكير من خارج الصندوق ومد اليد والتعاون بين الجميع لابتكار حلول خلَّاقة هي كلمات مفتاحية تكررها المديرة الجديدة؛ القوّاس؛ في كل اجتماعاتها اليومية التي تعقدها مع الجميع بدءاً من أعضاء الهيئة التعليمية والإدارية، مروراً بعازفي الأوركسترا الفلهارمونية والاوركسترا الشرق-عربية، وانتهاء بكل الفاعليات الثقافية والسياسية. تصارح الجميع بأنها ستُسخِّر كل امكاناتها وخُبراتها لإعادة الحياة لهذا الصرح الثقافي الذي درست فيه يوماً وتخرّجت منه وعملت فيه وله الكثير. تلتقي سفراء دول عربية وأجنبية وممثلين لمؤسسات مالية داعمة لتُقنعهم بضرورة دعم الموسيقى الاكاديمية في لبنان، فتشرح لهم أهمية الموسيقى في ردم الهوة بين الثقافة من جهة والسياسة من جهة اُخرى عبْر مد جسور التلاقي والحوار الثقافي ونبذ العنف.

نشاط القوّاس لا يهدأ ولا يستكين بل يُشعِرك وكأنك في خضم معركة مصيرية وقد فات وقت التحضُّر لها. تتكلم بحماسة عن مشاريع طموحة لتحديث المؤسسة والذهاب بها الى العالمية، لكنها تستدرك قولاً إن الأولوية الآن هي لتزويد فروع المعهد بالطاقة الكهربائية وتأمين الدعم المالي الضروري لتنقُّل افراد الهيئة التعليمية من وإلى هذه الفروع.

صحيح أن كلامها يبثُّ في النفس الحماسة والأمل ويمد التفكير بشيء من الخيال، إلا أنّ الواقع الصعب ما يلبث أن يستعيد حضوره بكل هواجسه القلقة واحتمالاته المُرّة التي لا أحد يملك حلولاً سحرية لها أو حتى أجوبة عليها في المدى المنظور.

يبقى التشاؤلُ؛ بِما هو مقدار مُتعادل من التفاؤل والتشاؤم؛ الخيار الوحيد المُتاح لنا في هذه المرحلة. إنّما هو تشاؤل أفترضه مقروناً بالعمل والتعاون الإيجابي، ولا يخلو من خوف وقلق كبيرين من أن تتحول مُهمة المديرة الجديدة، هبة القوّاس، من مُهمة وطنية شاقّة إلى مُهمة انتحارية.. لا قدَّر الله ذلك!

Print Friendly, PDF & Email
نبيل مروة

موسيقي وكاتب في الشأن الثقافي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الحريري وجعجع: "مَن الأصلي ومَن التايواني"؟