ربما لم يسمع العديدون في البلاد العربية بأحمد بن صالح، وقد تكون قلة قليلة من شباب اليوم في تونس من تحفظ اسمه، فالحرب على الذاكرة محتدمة، ومحو كل ما هو إيجابي ومضيء بات هدفا واضحا للظلاميين وأعداء التقدم والتطور.
فأحمد بن صالح (13 كانون الثاني/يناير 1926- 16 أيلول/سبتمبر 2020)، واحد من صناع الاستقلال في بلد القيروان، إلى جانب الحبيب بورقيبة وفرحات حشاد وصالح بن يوسف. ويعدّ من أبرز المناضلين الذين ساهموا في استقلال تونس. شغل مناصب مدنية وسياسية ونقابية، وأدى أدوارا بارزة هامة في مسيرة الإصلاح الوطني، وكانت مساهمته مرموقة في ترسيخ وبناء أُسس الدولة الوطنيّة المدنية بتونس.
نعته الأحزاب والمنظمات الشعبية والعمالية، وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، إذ سبق للراحل أن تولى منصب الأمانة العامة للاتحاد. فبعد اغتيال الزعيم فرحات حشاد على يد الاستعمار الفرنسي (5 كانون الأول/ديسمبر 1952، عن عمر 38 سنة)، آلت قيادة المنظمة العمالية إلى أحمد بن صالح، بإجماع غير مسبوق من القواعد العمالية. وخلال الفترة القصيرة التي قاد فيها أكبر نقابة في تونس، استطاع بن صالح، بفضل ما يتمتع به من كاريزما وشجاعة في اتخاذ المواقف، أن يترك تأثيره في دعم التوجه المغاربي والالتزام بالقضايا القومية العربية داخل المنظمة العمالية. وعبر مسيرته الحافلة، ظل موضع محبة وتقدير من قبل جماهير الطبقة العاملة التونسية، وحظي بمكانة عالية واحترام كبير لدى النخبة المثقفة، لما تميّز به من مقدرة ومن عُمق نظر.
كما أن بن صالح، ومن موقعه القيادي في الاتحاد العام للشغل، كان صاحب الفضل في تزكية الحبيب بورقيبة في مؤتمر الحزب الحر الدستوري التونسي المنعقد بعد الاستقلال، حيث دعا إلى منح الثقة لبورقيبة ضد خصمه اللدود صالح بن يوسف. ما أوصل بورقيبة إلى احتكار السلطة في تونس، بدكتاتورية لا لبس فيها. تكفي العودة إلى التصريح الشهير للرئيس بورقيبة في بداية ستينيات القرن الماضي، الذي أدلى به إلى الكاتب الصحفي الفرنسي جون لاكوتور ونشر بصحيفة “لوموند” الباريسية، حيث قال بورقيبة ردا على سؤال يتعلق بطبيعة النظام السياسي في تونس: “النظام.. أنا هو النظام”. وتلت ذلك المصادقة على بقاء “زعيم الأمة” في رئاسة الدولة والحزب مدى الحياة.
قال بورقيبة ردا على سؤال يتعلق بطبيعة النظام السياسي في تونس: “النظام.. أنا هو النظام”. وتلت ذلك المصادقة على بقاء “زعيم الأمة” في رئاسة الدولة والحزب مدى الحياة
***
وصف أحمد بن صالح بـ”المُفكّر الفذّ، والفارس المِقْدام، الذي نذر حياتَه لخدمة الوطن، ولإعانة الغير”.
في مناسبة سابقة قبل أعوام، تحدث الشاذلي القليبي (الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية) بمحبة عالية وتقدير خاص عن مميزات وخصال صديقه ورفيقه، بكون صِفات بن صالح “لم تكن متجمّعةً، كلُّها، لدى واحد مِن أترابه وأنداده، ولا حتّى لدى واحد من سائر الزعماء في عصره، باستثناء المجاهد الأكبر” (القصد هنا الحبيب بورقيبة)، مضيفا: “لكن، ممّا يُؤسَفُ له، أنّ رجال الاتّحاد، اليوم – وهُم جميعا على مستويات عالية من اليقظة – لا يَعرفون شيئا عن أحد كِبار زعماء منظّمتهم، وذلك لتغييب اسم بن صالح من لوائح الاتّحاد، منذ أواخر العهد البورقيبي – برغم أنّه كان، في قيادته للاتّحاد، يَجمع بين سعة الشعبيّة، واتّقاد الفكر، وقوّة الجأش، إلى جانب الخبرة والمقدرة – أُسوةً بالزعيم، الخالد الذِّكر، فرحات حشّاد”.
وأشار القليبي إلى أن “شخصيّة أحمد بن صالح في عزّ شبابه، كانت على درجة مُدهشة من الجاذبيّة: بملامح الوجه، وحركات الشَّعر، ونبرات الصوت، وما يُلقيه، عند أوّل اللقاء، من كلمات المُداعبة، بالملاطفة أحيانا، وأحيانًا كثيرة بالسخريّة – مهما كانت منزلة الذي يخاطبٌه ـ فأحمد بن صالح لم يكن، في أيّ لقاء، على حِيطة، ولا التزامٍ بالتقاليد، بل كان دوما مُتحرِّرا من كلّ القيود، ممّا جعل مُخاطِبَه في شبه الذهول، مفتونًا بهذه البراعة المتدّفقة، لكن، أيضا، ممّا جعل الكثيرين منهم يَحقدون عليه”.
تلك الصفات والمميزات هي التي أبهرت بورقيبة وجعلته يقع تحت تأثير شاب طموح يصغره بحوالي ربع قرن من السنوات، لقد ذكّرته حماسة وقوة وأسلوب الشاب أحمد بن صالح الخطابي، بفورة شبابه الأول. ولما كان بورقيبة لا يتوفر على المدارك الاقتصادية الضرورية، فقد أوكل إلى بن صالح هذا القطاع الحيوي، ومنحه الضوء الأخضر لإعداد خطط التنمية.
هكذا حكم بن صالح الاقتصاد في تونس وهو ابن الخامسة والثلاثين من عمره، من عام 1961 إلى غاية 1969. وطيلة هذه الأعوام كانت له اليد العليا على القطاعات الاقتصادية التونسية، بدعم غير مشروط من بورقيبة، اذ كان اقتصاد تونس يعتمد بنسبة عالية على الزراعة (46%).
وقد توسعت مسؤوليات بن صالح الوزارية، من التخطيط والاقتصاد، والمالية والتجارة إلى الصناعة والفلاحة والتربية الوطنية. ودافع بورقيبة بقوة عن “وزيره القوي” المكلف بإعطاء مضمون لعقيدة الرئاسة الجديدة: “الاشتراكية الدستورية” التي كما رسمها بورقيبة في ذهنه: “اشتراكية ترفض الصراع الطبقي وتحفظ الوحدة الوطنية”.
لم تكن “سنوات بن صالح” (1961-1969) سلبية بالنسبة لتونس، فخلالها تم إنشاء قطاع سياحي واعد، ووضعت لبنات التصنيع، وأنجزت أبحاث النفط وري الأراضي. لكن هذه النتائج كلها لم تعوّض قلة المحاصيل التي نجمت بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد.
ووصلت درجة الأحقاد ضده ذروتها يوم كان وزيرا للاقتصاد وشرع بن صالح بكل ما عرف به من حماسة والتزام في تطبيق خطة التسريع بالنهوض الاجتماعي والاقتصادي للبلاد، واقترح برامج تنموية لتونس تنهل من الفكر الاشتراكي، خصوصا وأن بورقيبة سعى إلى تطبيق “اشتراكية تونسية” مختلفة عما كان في الساحة العربية، من اشتراكية البعث والناصرية.
إن النوايا الصافية لأحمد بن صالح، وإرادته في إخراج بلاده من الفقر ظلت أفكارا طوباوية سرعان ما انهزمت وتهاوت أمام براغماتية بورقيبة، برغم نقاوة بن صالح كرجل عقائدي، وكأحد الوزراء القلائل الذين يمتلكون مقومات رجل الدولة، إذ لم يكن يستحق مثل هذه النهاية التراجيدية
صار اسم أحمد بن صالح على كل الألسنة، وأخبار جولاته وخطبه تملأ المشهد الإعلامي، بل وصف بـ”الرجل القويّ في الحُكم”. وصادف أن بورقيبة كان يعاني صحيا، فاتهم بن صالح بالتخطيط لخلافته، بل الانقلاب على رئيس الدولة.
هكذا استطاع حساد بن صالح والحاقدين عليه إقناع الحبيب بورقيبة بأنّ رفيقه ووزيره أحمد بن صالح يسعى بالزج بتونس في سكة الأنظمة الشمولية الشيوعية. فأقدم بورقيبة في البدء على محاولة عزل بن صالح، مغتنما تواجد الأخير في مهمّة رسمية خارج البلاد.
ويعتبر بعض المحللين أن أحمد بن صالح حدد مصيره في الوقت الذي كان يعتقد فيه أنه غير معرض للخطر، وأراد تبرير إدارة المزارع الكبيرة، فزاد غضب الملاك، وصغار الفلاحين المرتبطين بشدة بقطع أراضيهم وأشجار زيتونهم النادرة.
واكتملت الصدف بمرض بورقيبة وارتباكه أمام تصاعد السخط الشعبي، ما أدى بـ”المجاهد الأكبر” إلى الإحباط من خطط بن صالح.
في خطوة غير منتظرة تم توقيف “الابن المدلل لبورقيبة” وإيداعه السجن، ثم محاكمته بتهمة “الخيانة العظمى”، وبتهمة “تضليل رئيس الدولة عن قصد”، وحكم عليه بعشر سنوات نافذة.
بعد ثلاث سنوات من السجن، هرب بن صالح متخفيًا تحت لباس امرأة قروية، في صندوق خلفي لسيارة بسيطة، وعبر الحدود الجزائرية سيرًا على الأقدام، ومنها لجأ إلى أوروبا، حيث عاش تحت الخوف من تعرضه لاغتيال مماثل لذاك الذي طال منافس بورقيبة في الخمسينيات، ففي عام 1961 أرسل بورقيبة رجال مخابراته السرية إلى ألمانيا واغتالوا صالح بن يوسف، في فندق بوسط فرانكفورت.
إن النوايا الصافية لأحمد بن صالح، وإرادته في إخراج بلاده من الفقر ظلت أفكارا طوباوية سرعان ما انهزمت وتهاوت أمام براغماتية بورقيبة، برغم نقاوة بن صالح كرجل عقائدي، وكأحد الوزراء القلائل الذين يمتلكون مقومات رجل الدولة، إذ لم يكن يستحق مثل هذه النهاية التراجيدية.
***
في فرنسا، اعلن بن صالح عن تأسيس حركة الوحدة الشعبية. ولم يعد إلى تونس إلا بعد انقلاب الجنرال زين العابدين بنعلي على بورقيبة، وصدور عفو شمل عددا من السياسيين والمعارضين، استفاد منه بن صالح في أيار/مايو 1988، وتمكن من الحصول على تعويضات متأخرات معاشه نقداً، لكنه ظل تحت المراقبة المخابراتية كما حُظّر عليه ممارسة أي نشاط سياسي، ما اضطره إلى العودة إلى الخارج سنة 1990 بعد رفض الترخيص لحزبه ذي التوجه القومي.
وفي بداية الألفية الجديدة، عاد بن صالح إلى تونس، حيث انشغل بأسرته وبوضعه الصحي المتدهور في مدينة رادس إلى أن نقل على عجل إلى المسشتفى العسكري للعاصمة ليلفظ أنفاسه الأخيرة وتطوى برحيله صفحة من صفحات تونس المكتوبة بمداد التناقضات والصراعات، والتي تلخص مأساوية علاقة ملتبسة بين المثقف والسلطة، وصلة المناضل (المريد) بالزعيم (الشيخ).