الورقة الفرنسية.. الشياطين في التفاصيل وما أكثرها!

ليس صحيحاً أن القوى السياسية الشكل والطائفية المضمون موافقة على الورقة الفرنسية الإصلاحية. لقد ذرّوا الرماد في عيون بعضهم البعض في قصر الصنوبر في الأول من أيلول/سبتمبر بحضور رئيس فرنسا ايمانويل ماكرون، واتفقوا جميعاً على ذر نفس الرماد في عيون ماكرون نفسه بـ"فهلوة" لبنانية معهودة. "فهلوة" يكشف استخدامها البائس المفرط سيطرة التكتيك المناوراتي المرحلي على حساب الاستراتيجيا التأسيسية.

عندما وصلتهم تلك الورقة الإقتصادية الانقاذية، قرأ فيها كل طرف ما يحلو له طالما تعلق الأمر بعناوين عامة لا أجندات تنفيذية تفصيلية فيها. الإعتراض اليتيم على مضمون الورقة كان رفض حزب الله الانتخابات النيابية المبكرة، الى جانب اعتراض على الشكل ” الزجري التوجيهي” للورقة، فرد ماكرون بأنها “مجرد توصيات”، مُتوهماً أنه ينزع فتيلاً متفجراً فتسلك البنود سبيل التنفيذ. وهنا نقطة ضعف المبادرة، التي تجر ذيول الخيبة منذ اجتماع قصر الصنوبر حتى اليوم.

فالبون شاسع جداً بين مفهومي “التوجيه” و”التوصية”. في الأول، بوصلة تحدد اتجاهاً وحيداً للضائعين على قاعدة “نفذ ثم اعترض”، كما يريد سعد الحريري بنسخته الجديدة، وفي الثاني، نصيحة نصوحة لمن يريد الأخذ بها طواعية على قاعدة كفى الله “مؤمني” حزب الله شر القتال.

لكن لماذا أعلن المناورون أنهم مع الورقة سبيلاً وحيداً للخروج من المأزق الإقتصادي والمالي؟ الجواب متعدد الأوجه الحمالة للتأويلات وفقاً لمأزق كل طرف، وليس وفقاً لمأزق لبنان ككل.

أجل، خلت الورقة الفرنسية من المضامين السياسية والأمنية الفاقعة بعد رفض حزب الله بند إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وتأجيل ماكرون وضع سلاح حزب الله في الأوليات. لكن ذلك التعقيم الشكلي لم يقضِ على كل الفيروسات السياسية والميكروبات الطائفية التي هي في صلب أزمات لبنان، بدءًا من صغائر النفايات المتراكمة في الطرقات وصولاً الى كبائر نشوب الحروب الأهلية.

رحل ماكرون من بين ظهرانينا، وعاد الأفرقاء، كل على هواه، الى ممارسة اللعبة الوطنية اللبنانية المفضلة الا هي إخراج أوراق البوكر المخفية في الأكمام بالتدريج والتشويق، وشهدنا كيف بدأ النزول من على الشجرة الفرنسية رويداً رويداَ حتى فشل مصطفى أديب في تشكيل “حكومة مهمة”.

وبمعزل عن النزاع السياسي الخاص بالتمثيل الطائفي في الحكومة وبالتالي في النظام، فان الشق الاقتصادي ليس أقل تفخيخاً بين الأفرقاء المتنازعين.

وفي هذا الشق (الاقتصادي) ما يسترعي الانتباه على قاعدة توصيف المواقف وتشخيص النزعات لا على أساس تحميل المسؤوليات وتوزيع الاتهامات. والبداية كانت عندما قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في اطلالته التي خصصت للرد على “شتائم” ماكرون للطبقة السياسية عموما و”الثنائي الشيعي” خصوصاً، ان الحزب ليس موافقاً على فرض ضرائب جديدة، وينتظر ما ستؤول إليه جولات المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ليبني على الشيء مقتضاه. فالحزب لا يوافق على الشروط التي يقبلها سواه بلا مناقشة. فجاء الرد من رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، في المقابلة التى أجراها معه الزميل مارسيل غانم، ليتهم من يتنصل من الورقة الفرنسية، وخصص لذلك وفداً يزور المرجعيات للوقوف عن كثب على مواقفها من الورقة العتيدة، وقد كان سؤال رئيسة الوفد بهية الحريري لرئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد يتيماً: هل ما زلتم تؤيدون المبادرة الفرنسية، وكان جواب الأخير هو الجواب نفسه الذي أعطاه إلى ماكرون، وهو الموافقة على نسبة 90% من الورقة مع قابلية لتمدد النسبة القابلة للأخذ والرد من 10% إلى 20% وربما أكثر!

أما رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وفي سياق إنتقاداته، الثلاثاء الماضي، لكل من سعد الحريري وسمير جعجع ووليد جنبلاط مع سهام اصابت “الثنائي الشيعي”، فقد هجم بشكل غير مباشر على ما يمثل الحريري من فكر اقتصادي ومالي، وألمح الى مسؤولية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عما آلت اليه الأمور المالية والمصرفية، وأن سعد الحريري يحمي الحاكم ويرغب في “استمرار نفس السياسات المدمرة”. واللافت للإنتباه ان باسيل، الذي وضع ذكرى 13 تشرين العونية تحت شعار اقتصادي (رئاسي ضمناً) هذه السنة، خصص 99 في المائة من خطابه المكهرب للسياسة النكدية والغلو السياسوي وليس للاقتصاد!

رحل ماكرون من بين ظهرانينا، وعاد الأفرقاء، كل على هواه، الى ممارسة اللعبة الوطنية اللبنانية المفضلة الا هي إخراج أوراق البوكر المخفية في الأكمام بالتدريج والتشويق، وشهدنا كيف بدأ النزول من على الشجرة الفرنسية رويداً رويداَ حتى فشل مصطفى أديب في تشكيل “حكومة مهمة”

إذاً، لا اتفاق على التفاصيل، ولو أن الجميع يدعي الحرص على عناوين الورقة الفرنسية حتى لا يتحمل مسؤولية الفشل، ظناً منه أنها آخر فرصة ممكنة قبل الإنهيار الكبير، وبعده كل واحد يقلّع شوكه بيده.

وفي الورقة الفرنسية 11 نقطة خلافية (على الأقل) يمكن إيجازها كالآتي:

أولاً، ماذا عن تعيينات الهيئات الناظمة في قطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني وهيئة مكافحة الفساد؟

عندما نتحدث عن “تعيينات” في لبنان نتوجس سلفاً من المحاصصة الطائفية والمذهبية والحزبية المتربصة بكل شيء تقريباً في الإدارة العامة، من الحجّاب والحرس البلدي الى السفراء والوزراء مروراً برؤساء الاقسام والمديرين والقضاة وكبارالضباط. ولنتذكر تعطيل تعيين حراس للأحراج لنعرف عمق المأزق في هذا المجال المفخخ بكل رغبات تقاسم الجبنة حتى لو كانت “معفنة”.

ثانياً، أرادت الورقة الفرنسية التمهيد لما يطلبه صندوق النقد، عندما أتت على ذكر اطلاق دراسة حول الإدارة العامة من قبل مؤسسة دولية مستقلة مثل البنك الدولي أو منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. والمؤسستان المذكورتان معروفتان بعدائهما لمفهوم “الدولة الراعية بالمطلق”، خصوصاً لجهة التوظيف الكثيف والعشوائي والزبائني في القطاع العام. والمقصود في نهاية المطاف طرح انهاء خدمات فوائض موظفين لم يعد باستطاعة المالية العامة تحمل رواتبهم وامتيازاتهم. فمن من الاحزاب في لبنان يجرؤ حالياً على قبول تسريح عشرات آلاف الموظفين في هذه الظروف المعيشية الصعبة التي قد يستمر أوار نارها اللاهبة تقشفاً وفقراً لمدة خمس سنوات في أقل تقدير زمني؟

ثالثاً، اذا كانت الورقة الفرنسية غامضة قليلاً بشأن مسؤولية مصرف لبنان والقطاع المصرفي، فان الرئيس الفرنسي اوضح علناً ان هناك من بنى هرماً احتيالياً (ponzi scheme)  أودى بمدخرات اللبنانيين وأفلس الدولة، ولا بد من تدقيق جنائي لتحديد المسؤوليات بوضوح. ويعني ذلك تحديداً إحتمال محاكمة رياض سلامة، وآخرين ربما، وإلا ما هو المقصود من كلمة “جنائي”؟ وهنا ينقلب السحر على السحرة حماة سلامة. فهل يحمونه لأنه عبقري بريء، أم لأنه شريك كامل المواصفات في السراء والضراء مع دهاقنة السياسة في الهدر والنهب منذ العام 1993 حتى يومنا هذا؟

إقرأ على موقع 180  لبنان: التدقيق الجنائي ينطلق.. وفرنسا تُدقّق بإحتياطي الذهب

رابعاً، ورد في الورقة ضرورة التطبيق الفوري للاصلاحات الجمركية وفرض بوابات رقابة على مرفأي بيروت وطرابلس، ونقاط العبور الأخرى المشرعة للتهريب. وفي هذه النقطة، على سبيل المثال لا الحصر، نجد من يريد تصفية حساب مع حزب الله تحديداً، بادعاء أن الحزب يسيطر على المطار مذكرين بواقعة 7  أيار/مايو 2008 عند طرح تغيير مدير أمن المطار العميد وفيق شقير آنذاك، ويحملون الحزب أيضا مسؤولية معابر التهريب الى سوريا، إذ برأيهم يعلم بها لا بل يسهل مفاوزها ويمهد فلواتها، فضلاً عن مرفأ بيروت الذي أصاب حزب الله من تفجيره شظايا اتهامات خطيرة مستمرة كحقيقة مطلقة في أذهان ما تبقى من قوى 14 آذار.

خامساً، في الورقة تعجيل اطلاق عمل المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص، أي اطلاق ورشة بيع بعض المرافق العامة. وهذا ما تعترض عليه بعض القوى اليسارية الهوى حتى لو كانت طائفية الهوية. فإن كان سعد الحريري راغباً في بيع شركات الاتصالات مثلاً،  ستواجهه قوى لتعطيل جموحه الليبرالي او التخفيف من منسوبه. ثم أن الخصخصة حالياً، برأي معارضيها، تعني انتقال ملكية مرافق عامة مدرة للدخل الى أيدي اوليغارشية غنية محتكرة معروفة بالأسماء وعناوين الإقامة، وذلك على حساب كل اللبنانيين الذين سيتكبدون دفع رسوم أعلى لقاء خدمات تلك المرافق.

لدى ساسة  لبنان قدرة فائقة على تقطيع الوقت بأنصاف او أرباع  او أعشار حلول بانتظار تطورات فصول لعبة شطرنج المنطقة والعالم، لمعرفة من يستطيع تجيير مستجدات تساعده في محاولة تغيير النظام لمصلحته

سادساً، ثمة اتفاق ضمني بين معظم القوى السياسية على تأجيل فرض “الكابيتال كونترول”، وإلا كيف يمكن تفسير عرقلة سير ذلك المشروع في البرلمان، وهو المفترض اقراره منذ اليوم الاول لاندلاع الأزمة المالية قبل سنة تقريباً وفق نصائح صندوق النقد اولاً والفرنسيين لاحقاً؟ وهل صحيح ان رفض الإقرار متعلق بحفظ هوية النظام الاقتصادي الليبرالي وصون حرية تحويل الرساميل التي يمتاز بها لبنان منذ تأسيسه، أم خوفاً على حسابات الأغنياء السياسيين ومن لف لفهم من الطغمة المالية المتحالفة معهم؟ وهل تكون وظيفة هذا القانون إذا أُعيد الإعتبار له فقط تفادي رفع قضايا قانونية ضد المصارف في الخارج؟

سابعاً، ينسحب تأجيل “الكابيتال كونترول” أيضاً على ضرورة هيكلة القطاع المصرفي. فأصحاب البنوك، وبدعم مشروط من مصرف لبنان وسياسيين (متمولين) كثر، يرفضون تحمل أية خسائر بحجة أنهم اقرضوا الدولة وأودعوا في مصرف لبنان، وما على الإثنين إلا تحمل الخسائر وتأسيس صندوق سيادي توضع فيه شركات ومؤسسات عامة وعقارات املاك الدولة. وهنا خلاف سياسي سينشب لا محالة ويتردد صداه لأجيال قادمة لأن المطلوب، برأي معارضي وضع يد المصارف على ذلك الصندوق وايراداته، هو التفريط بما تبقى لمصلحة فئة الأكثر ايداعاً من الأثرياء والمليونيرية (بالعملات الصعبة). في مقابل هؤلاء هناك من يرغب بتحويل جزء من الودائع الكبيرة الى أسهم في المصارف المفلسة المطلوب رسملتها على جناح السرعة، وهذا ما يقاتل ضده اصحاب المصارف وحماتهم من السياسيين سواء المالكين لبنوك او مستفيدين منها، لأسباب متعددة.

ثامناً، في الورقة الفرنسية، كما في الشروط المبدئية التي وضعها صندوق النقد، ضرورة رفع تعرفة الكهرباء تدريجياً، وينطبق ذلك على قطاعات أخرى مثل الاتصالات وغيرها. وفات الفرنسيين وخبراء الصندوق ان في لبنان مشكلة تقنية ولوجستية وسياسية طائفية مناطقية، وربما أمنية وأخلاقية، تحول دون تحسين مستوى الجباية! والكهرباء هي المثال الفاضح، إذ تقدر نسبة الخسائر الناجمة عن السرقة والتلاعب بالعدادات وبالفواتير وعدم الجباية  بأكثر من 40 في المائة من الانتاج. فما عجزنا عنه لعقود كيف سنعالجه في شهور او سنوات قليلة؟ وأي جباية سنجبي من فقراء يزداد عددهم يوماً بعد يوم؟ زدْ على ذلك خارطة الطريق الفرنسية للكهرباء من معامل غاز وإستبعاد للبواخر ولمعمل سلعاتا وتثبيت الشراكة بين القطاعين العام والخاص إلخ..

تاسعاً، أتت الورقة الفرنسية على وجوب وضع خطة حكومية مطورة استنادا الى خطة “لازار” التي تعذر تنفيذها في ظل حكومة فريق أو لون واحد قال إنه يريدها بقوة، ولكنها بقيت حبراً على ورق، فكيف هو الحال اذا تشكلت حكومة حريرية صافية أو مطعمة سياسياً بألوان قزح الطوائف؟

عاشراً، تبنت الورقة الفرنسية قانون إستقلالية القضاء اللبناني، وهذه نقطة جوهرية تشكل حجر الزاوية في أية خطة إصلاحية، ولكنها تسحب من أيدي السياسيين ورقة التعيينات والمناقلات القضائية، بإعطاء دور مستقل للهيئات القضائية (القضاة ينتخبون هيئاتهم)، وبالتالي، يصبح السؤال هل هناك جهة سياسية لبنانية يمكن أن تقبل بكف يدها وما هي إنعكاسات ذلك على الملفات القضائية وتحديداً الفساد والهدر مستقبلاً؟

حادي عشر، تبقى الاشارة الى هوية الاقتصاد الوطني بين الريع والانتاج. وهنا طامة كبرى في الانقسام والتخبيص السياسي والاقتصادي المستمرين من الاستقلال الى اليوم. وهذا الفصل وحده كفيل بزيادة الانشقاقات أفقيا وعامودياً على كل المستويات.

ما سبق لا يعني ان لا تسويات جزئية في الأفق، فلدى ساسة  لبنان قدرة فائقة على تقطيع الوقت بأنصاف او أرباع  او أعشار حلول بانتظار تطورات فصول لعبة شطرنج المنطقة والعالم، لمعرفة من يستطيع تجيير مستجدات تساعده في محاولة تغيير النظام لمصلحته كما حصل في 1920 و1943 و1958 و1975 و1990 و2008 حتى لو إقتضى الأمر حرباً.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ما هو رصيد إنتفاضة لبنان.. وإلى أين؟ (2/1)