يقول رونين بيرغمان ان رئيس “الموساد” “مائير أميت” انشأ لجان تحقيق لتحديد الخطأ الذي حصل خلال عملية “إيلي كوهين” في دمشق، وكان الشخص الابرز في تلك اللجان جميعها هو “مايكل هراري” او “مايك” وعندما انتهت تلك اللجان من تحقيقاتها، قرر “مائير أميت” تعيين “هراري” نائبا لرئيس وحدة “قيصرية”. ومن موقعه هذا الذي احتله لمدة تقارب الخمسة عشر عاما، شكّل “هراري” الروح النابضة للوحدة والقائد الفعلي لها، وكانت فترة ولايته الأكثر اضطرابا في تاريخ هذه الوحدة وكان الاسم السري له “القيصر” الذي تحول الى اكثر الشخصيات تأثيراً في عمليات “الموساد” في شتى أنحاء العالم.
وفي نبذة عن حياة “القيصر”، يقول بيرغمان انه من مواليد تل ابيب عام 1927. رسمت حادثتان صورة حياته المستقبلية، الاولى، في العام 1936 (كان في التاسعة من عمره) “عندما شاهدت بأم عيني اعمال العنف التي نفذها فلسطينيون ضد اليهود والبريطانيين والتي سميت لاحقا بالثورة الفلسطينية”، ويضيف “لقد رأيت كيف احرق المتظاهرون الفلسطينيون الية عسكرية بريطانية وفي داخلها رقيب بريطاني احترق حتى تفحم وهو خلف المقود ورأيت كيف كانوا يتقاتلون مع اليهود فسارعت الى التقاط عصا غليظة لانضم الى اليهود في المعركة”. اما الحادثة الثانية، فقد حصلت في العام 1942 “عندما كنت فتى يافعا وشاهدت ايضا كيف ان الشرطة السرية البريطانية اطلقت النار على الناشط في حركة “ليهي” الصهيونية السرية المتطرفة “ابراهام ستيرن” وكيف اخذوا جثته وخبأوها في خزانة في احدى الشقق حيث رأيتها بعيني”.
يقول بيرغمان انه في العام 1943 كذب “هراري” في تحديد عمره من اجل الانضمام الى صفوف حركة “بالماخ” التي كانت بمثابة الجيش السري لـ”التسوية اليهودية في فلسطين”. لقد كان العمل سريا جدا ما اضفى المزيد من التشويق لديه. وقد نفذ خلال عمله في هذه المنظمة الكثير من عمليات التخريب التي طاولت السكك الحديدية والجسور وهجمات ضد مخافر الشرطة البريطانية بالاضافة الى جمع المعلومات، ويضيف بيرغمان ان “هراري” اعتقل عدة مرات خلال عمله هذا من قبل الشرطة السرية البريطانية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، علمت قيادة “الهاغاناه” ان “هراري” يجيد عدة لغات فارسلته الى اوروبا للمساعدة في عمليات ترحيل اللاجئين اليهود الى “اسرائيل”، فكان له دور كبير في الاستحصال على السفن وحل التعقيدات اللوجستية لتنفيذ عمليات تهريب النازحين غير الشرعيين الى دول اوروبا المدمرة بالحرب ومنها الى زوارق ومن ثم تهريبهم الى فلسطين، ما اكسبه معرفة جيدة في تغطية النشاطات غير الشرعية في الخارج واستخدام هذه التقنيات في عمله في “الموساد” لاحقا.
منذ تولى “هراري” عملية اعادة بناء وحدة “قيصرية”، تم إرتكاب بعض الأخطاء لكن على مدى تاريخ مهمته في قيادة الوحدة، لم يعتقل ويعدم الا عميل واحد هو “ايلي كوهين” في سوريا
ويضيف بيرغمان، أنه بعد اعلان دولة “اسرائيل” قام رئيس “الموساد” حينها “ايسر هاريل” بتجنيد “هراري” في صفوف جهاز الـ”شين بيت” (الامن الداخلي) ومن ثم نقله الى “الموساد” حيت ترقى في المواقع بسرعة قياسية قبل ان يعينه “مائير أميت” رئيسا للتحقيق في اخفاقات وحدة “قيصرية”. هنا، يقول الكاتب إن “هراري” إكتشف في تحقيقاته ان الوحدة كانت في حالية مزرية جدا وفيها خليط غريب عجيب من فريق عمل مؤلف من وحدة “ميرفاتز 188” للاغتيال ووحدة “العصافير” للعمليات في “الشين بيت” بالاضافة الى اخرين وكلهم يشكلون فرقاً تعمل بلا اهداف محددة. ما جعل “هراري” يصل الى استنتاج بان هناك ضرورة لاعادة بناء وحدة “قيصرية” من الصفر مع تحديد اهدافها ومهامها والعناصر العاملة فيها.
بعد اشهر عديدة من العمل، قدم “هراري” إلى رئاسة “الموساد” اقتراحه الملموس حول هذه الوحدة. وينقل بيرغمان عنه قوله في هذا الصدد “بحسب رؤيتي للعالم فان اي بلد يريد ان يعيش لا بد له من امتلاك وحدة قيصرية الخاصة به التي تشكل جسما مؤلفا من جنود النخبة لتصبح الحجر الاساس في تنفيذ عمليات خارج حدود البلاد لا يستطيع تنفيذها اي جهاز اخر. انها باختصار الاداة النادرة التي بامكان قيادتنا استخدامها للعمل ضد اعداء بلادنا”.
ويضيف بيرغمان ان “هراري” حدد الاهداف الرئيسية لوحدة “قيصرية” بتنفيذ عمليات القتل المتعمد والاغتيال بالاضافة لعمليات التخريب وجمع المعلومات الاستخبارية عن الدول المعادية المستهدفة وتنفيذ عمليات خاصة كالخطف والتهريب عبر الحدود. ويقول الكاتب، أنه خلال التحقيقات وجد “هراري” انه كان في الوحدة العديد من عناصر المجموعات السرية المتطرفة التي عملت ضد البريطانيين، “عناصر صلبة جدا ولديها خبرة واسعة في عمليات القتال والعمليات السرية ولديها الجرأة للضغط على الزناد عند الحاجة بلا تردد ولكنها كانت ضعيفة جدا في رسم خطة خروج من مسرح العمليات”، وهذا ما جعله يأمر بأنه خلال التخطيط لاية عملية “يجب ايلاء الخروج من مسرح العملية الاهمية نفسها التي يتم ايلاءها لهدف العملية، وان لم يكن بالامكان تحقيق هذا الخروج بسلام يجب الامتناع عن تنفيذ العملية”.
كما انشأ “هراري” ما اسماها “لجنة الاهداف” التي كانت مهمتها “القيام بدراسات معمقة لتقرر من يجب ان يكون على لائحة القتل المتعمد والاغتيال وقرر انه يجب ان لا تنفذ هذه العمليات ابدا عن قرب بالسكاكين او السلاح الابيض”.
وفي تحديده لمسرح عمليات الوحدة، ينقل بيرغمان عنه قوله ان “هناك البلد القاعدة، والمقصود اي بلد تقيم اسرائيل معه علاقات دبلوماسية كاملة مثل فرنسا او ايطاليا وتكون نتيجة انكشاف العميل ان يسجن لمدة طويلة، وهناك البلد الهدف مثل سوريا او مصر وتكون نتيجة انكشاف العميل ان يتعرض لتحقيقات مضنية ولتعذيب مرعب قبل ان يعدم، ويكون ذلك بمثابة كارثة وطنية، لذلك كان الاصرار على الانضباط الحديدي وعن نسبة خطأ لا تتجاوز الصفر في اية عملية نخطط لها”.
بعد انكشاف العميل “ايلي كوهين” في سوريا وانكشاف استخدام “اسرائيل” لليهود من اصول عربية لعمليات التجسس، قرر “هراري” الإعتماد على اشخاص يحملون جينات غربية، وتحديدا من اصول اوروبية
ومنذ تولى “هراري” عملية اعادة بناء وحدة “قيصرية”، تم إرتكاب بعض الأخطاء لكن على مدى تاريخ مهمته في قيادة الوحدة، لم يعتقل ويعدم الا عميل واحد هو “ايلي كوهين” في سوريا.
وفي الانتقال من العمل التنظيمي لوحدة “قيصرية” الى العمل على تجنيد العملاء، يقول بيرغمان ان كل داتا المعلومات عن المواطنين “الاسرائيليين” وضعت بتصرف “الموساد” والتي كان هناك خبراء من وحدة “قيصرية” يبحثون فيها عن نوع محدد من المستهدفين للتجنيد، ولكن بالنسبة لـ”هراري” فان المكان الطبيعي لهذا النوع من البحث كان يجب ان يبدأ من الذين يخدمون او سبق ان خدموا في الوحدات القتالية لـ “الجيش الاسرائيلي”، وبعد انكشاف العميل “ايلي كوهين” في سوريا وانكشاف استخدام “اسرائيل” لليهود من اصول عربية لعمليات التجسس، قرر “هراري” الإعتماد على اشخاص يحملون جينات غربية، وتحديدا من اصول اوروبية اذ كان بامكان أي عميل بهذه المواصفات ان يدخل الى اي بلد عربي بصفة سائح او رجل اعمال. كما كان من بين أفضل المرشحين للتجنيد ابناء موظفين “اسرائيليين” في السلك الدبلوماسي قضوا سنوات طويلة في الخارج بسبب عمل اهلهم، كما كان من ضمن المرشحين المفضلين لهذا العمل اليهود الذين عاشوا فترة لا باس بها في بلاد نشأتهم وفي حالات نادرة جندت وحدة “قيصرية” يهودا لا زالوا يعيشون في بلاد النشأة، وهنا ينقل بيرغمان عن كبير المدربين الاستخباريين “موتي كفير” شرحه “ان كل المرشحين للتجنيد كانوا يخضعون بطبيعة الحال للبحث في تاريخ حياتهم من قبل جهاز شين بيت ولكن من ضمن تعقيدات هذا التجنيد هو انه ما لم يكن المرشح منخرطا كثيرا في المجتمع الاسرائيلي وما لم يكن (هو او هي) منخرطا في صفوف الجيش الاسرائيلي وما لم يكن قد انشأ شبكة اصدقاء لوقت طويل في هذا المجتمع وما لم يكن له اقارب وعلاقات عائلية في البلاد كان من الصعب جدا ان نضمن ولاءه لكل من اسرائيل والموساد هذا بالاضافة الى احتمال ان يكون عميلا لدولة اخرى”.
ويضيف بيرغمان، عندما يتم الانتهاء من كل الابحاث الضرورية عن حياة المرشح للتجنيد، كان يتلقى اتصالا من اشخاص يعرفون عن انفسهم بانهم “موظفون حكوميون” ويقترحون عليه لقاء على فنجان قهوة في مقهى ما حيث يشرحون له بصورة عامة طبيعة العمل، وكان مرشحون آخرون يتلقون رسائل مشفرة من مكتب رئيس الوزراء أو من وزارة الدفاع وعادة ما كانت الرسالة تقول “إننا نعرض عليك الفرصة لتشارك في عملية تتضمن نشاطات متعددة وفريدة من نوعها سوف تضعك في مواجهة تحديات مثيرة وتعطيك الفرصة للتعامل معها باستخدام كل قدراتك لتحقيق ذاتك”. بالاضافة الى هذه الطريقة باستدراج المرشحين، استخدم جهاز “الموساد” الاعلانات المبوبة في الصحف، ومنها ما كان يقول الآتي: “مؤسسة حكومية تبحث عن توظيف مرشحين لعمل فيه الكثير من التحديات”، على أن يتم إخضاعهم لاحقا إلى فحوص وإختبارات نفسية وبرامج تدريبية متنوعة.
وينقل الكاتب رونين بيرغمان عن “هراري” قوله انه اطلق برنامجا طموحا للتجنيد “فلقد سمعت ان المخابرات السوفياتية (كي جي بي) كانت تقوم بتجنيد العملاء من الايتام الذين لم يكن لديهم اية ارتباطات عاطفية فهم بلا اب او ام ومن اعمار 13 او 14 عاما واخضعتهم إلى برنامج تدريبي حتى يكونوا عملاء سريين. اعتقد انها فكرة عظيمة جدا”. لذلك، طلب “هراري” من علماء النفس التابعين لوحدة “قيصرية” تبني ايتام من عمر الاربعة عشر عاما ووضعهم تحت جناح الوحدة وتحت رعايتها من دون ان يعرفوا من يتكفل بهم، على أن يخضع اليتيم المجند لرقابة دائمة من عالم نفسي بالاضافة الى مدربين اثنين ويقدم له التعليم الممتاز وصفوفا تغني ثقافته العامة في الفن والثقافة بالاضافة الى دروس في الرياضة واعطائه وقتاً للراحة مع امتيازات “كنا نقول لهم اننا نريدهم ان يخدموا امتهم عندما يكبروا”.
واذا كانت عملية تربية هذا النوع من العملاء مضت بسلاسة خلال مراحل التعليم وصولا الى تحويل المتدرب الى جندي ومن ثم الى ضابط موهوب ومثقف ولديه القدرة على العمل السري، فضلا عن مراعاة المساواة الجندرية، فان البرنامج برمته فشل لاحقا بسبب انه غير معد لبلد مثل “اسرائيل”. لماذا؟ يجيب “هراري” ان هذا الشكل من تدريب العملاء “يمكن ان ينجح في بلد توتاليتاري مثل روسيا ولكن ليس في اسرائيل، فاليهودي ليس لديه مثل هذه العزيمة وسرعان ما يريد صديقة وعملاً مدنياً وراتباً جيداً”.
بعد نجاح المرشح في العبور الى مرحلة البدء بالتدريب فانه يخضع لبرنامج عملاني، يقول بيرغمان، ويضيف ان معظم متدربي وحدة “قيصرية” لا يزورون مقر قيادة “الموساد” ابدا خلال فترة تدريبهم ولا اتصالات بينهم وبين متدربين اخرين، ولا يصلهم الا النذر القليل من المعلومات حتى اذا ما وقع احدهم في الاسر وخضع للتعذيب فان ما يملكه من المعلومات لافشائها ليس بالكثير. وتكون عادة قاعدة تدريب هؤلاء في شقق خاصة تابعة لجهاز “الموساد” في تل ابيب كي لا يلتقوا ابدا بالعاملين كل يوم في مقر الجهاز.
ويكمل بيرغمان أنه يتم استضافة المتدربين في حقل تدريبي خاص بالجاسوسية حيث يخضعون للتدريب على تقنية ارسال الرسائل بالمورس (بقي هذا الجهاز معتمداً حتى تطور تكنولوجيا الاتصالات)، وعلى فن المراقبة وطريقة التخلص من المراقبة بالاضافة الى انواع شتى من الاسلحة والقتال اليدوي كما يدرسون تاريخ وجغرافية العالم العربي والسياسات فيه. وتشحذ مهارات المتدربين في عمليات تمرينية تجري كلها على الاراضي “الاسرائيلية” وتتضمن عادة دس جهاز تنصت في هاتف احد الممرات في مصرف ما، جلب وثائق سرية، اقتحام منازل او مراكز عمل، وكل ذلك للتأكد من امتلاك العميل للمهارة.