تردّدت أميركا وفرنسا.. فقررت إسرائيل ضرب النووي العراقي (67)

في الحلقة السابقة من كتابه "انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية"، أضاء الكاتب رونين بيرغمان على كيفية قيام عملاء الاستخبارات "الاسرائيلية" بتفجير اجهزة الطرد المركزي التي كانت قد صُنعت لمصلحة مفاعل "اوزيراك" النووي العراقي في معمل ضخم في الريفييرا الفرنسية.

يقول رونين بيرغمان إنه في العام 1973 “وضع الديكتاتور صدام حسين (لم يكن قد اصبح رئيساً للعراق حينذاك) كل البرنامج النووي العراقي تحت سلطته المباشرة، بحسب ما يقول المؤرخ لحياة صدام حسين اماتزيا بارام. إستثمر صدام في مشروعه هذا موازنة تقدر ببلايين الدولارات، أي موازنة غير محدودة برقم، وذلك بهدف تطوير مفاعل نووي قد يتطور مع الوقت ليصبح قادرا على انتاج ترسانة ذرية. الديكتاتور المعروف عنه قصفه لشعبه وعزمه الاكيد على التحول الى قوة نووية كان منبوذاً من الامم المتحضرة، وقام برش كمية كبيرة من الاموال لتنفيذ مخططه، ولكن الجغرافيا السياسية امر معقد للغاية، فالعديد من القوى الغربية ومن ضمنها الولايات المتحدة الاميركية وبصورة ملحوظة فرنسا، كانوا يودون فرض وجودهم في الشرق الاوسط. كان لفرنسا و”اسرائيل” تاريخ طويل من التعقيدات التي وصلت الى ذروتها في السبعينيات الماضية، فقد كانت العلاقة بينهما تقع على حافة العدائية وعدم الثقة منذ ان انقلب الرئيس شارل ديغول ضد الامة اليهودية في الستينيات الماضية، وبالنسبة للفرنسيين فان احتمال تحول العراق الى خطر وجودي للامة “الاسرائيلية” بحده الاقصى بدا أمراً بالامكان التعامل معه. لذلك، أبرم الرئيس فاليري جيسكار ديستان ورئيس وزرائه جاك شيراك مع العراق عدداً من الإتفاقيات في النصف الاول من السبعينيات، بينها إتفاق يقضي ببيع العراق مفاعلين نووين، احدهما صغير جدا بقوة مئة كيلواط حدد بفئة “ايزيس” والثاني اكبر من الاول بقوة اربعين ميغاواط وهو مفاعل “اوزيريس” والذي كان بالامكان تطويره ليصبح بقوة سبعين ميغاواط. وقام العراقيون بدمج اسم المفاعل مع اسم بلدهم فاطلقوا عليه اسم اوزيراك”.

ويتابع بيرغمان، “على الرغم من ان العراق حدّد نواياه باستخدام المفاعل لاهداف الابحاث، كان الفرنسيون يعرفون ان مفاعلاً بهذا الحجم سيكون من شبه المؤكد ان ينتهي الى استخدامه لانتاج الوقود اللازم لانتاج سلاح نووي. وكانت قضبان المفاعل تحمل 12 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصب بنسبة 93 في المئة – وهو ما يكفي لانتاج قنبلة ذرية – لذلك اذا حافظ الفرنسيون على وعدهم باستبدال قضبان الوقود المستخدم سيكون بامكان العراقيين ببساطة ان يحولوا البعض منها الى مواد تستخدم في انتاج سلاح نووي. وقد اعترف العراقيون بشكل واضح بذلك عندما قال صدام حسين في مقابلة اجريت معه في الثامن من سبتمبر/أيلول 1975 (لم يحدد الكاتب الوسيلة الاعلامية التي نشرت فيها المقابلة) عشية توجهه الى باريس لتوقيع المزيد من الاتفاقيات “ان البحث عن التكنولوجيا التي تحمل امكانية الاستخدام لاهداف عسكرية هو ردة فعل على التسلح النووي الاسرائيلي. ان الاتفاقية الفرنسية العربية هي الخطوة العربية الاولى نحو امتلاك سلاح نووي حتى وان كان هدفنا المعلن لبناء المفاعل ليس تصنيع قنبلة ذرية”.

الوصول الى هذا الهدف “كان يتطلب سنوات وخبرات محددة لبناء قنبلة ذرية، وكان الفرنسيون يعتقدون ان اي تهديد مشروع سيتم التعامل معه فقط عند بروزه. لقد دفع العراقيون بسخاء فقاموا بتحويل سبعة بلايين فرنك فرنسي (ما يقارب الملياري دولار) الى فرنسا كما حصل الفرنسيون على عقود سخية باسعار مخفضة للنفط الذي يستوردونه من العراق. وتم ادخال عدد من الشركات الفرنسية في هذا المشروع الكبير وانشئت ادارة مشتركة (فرنسية ـ عراقية) لادارة الامور في كل من باريس وبغداد، وليس بعيدا عن مكان اقامة المشروع تم بناء مربعات سكنية لالفي مهندس وتقني فرنسي”، يروي بيرغمان.

عاد دايان من زيارة الى باريس مرتعبا لعدم الاكتراث الفرنسي لمطالبه فطلب من الاميركيين الضغط على الفرنسيين لوقف المشروع النووي العراقي لكنه لم يلقَ اذانا صاغية. فاستنتجت اسرائيل ان الطريقة الدبلوماسية قد فشلت

بطبيعة الحال ـ يضيف بيرغمان ـ “لم يكن بامكان “اسرائيل” الوقوف مكتوفة الايدي حيال هذا الامر، فأنشأت فريق عمل مشترك من جهازي “الموساد” و”امان” ووزارة الخارجية اعطته اسم “الحقبة الجديدة” كان هدفه، بحسب ما يقول ناهوم ادموني نائب رئيس “الموساد” حينذاك ورئيس هذا الفريق “القيام بجهد مركز وخاص لتصفير نوايا العراق في الحصول على سلاح نووي”. وتحت ستار رجال اعمال اوروبيين او ضباط اوروبيين في حلف الناتو، عمل عملاء من وحدة “المفصل” في “الموساد” على محاولة الوصول الى عراقيين يعملون في فرنسا ويحتمل ان يتعاونوا كمخبرين، ومن بين هؤلاء عالم عراقي كان ابنه يعاني من مرض السرطان ولا يتلقى العلاج الجيد في العراق، وقد وافق على اعطاء المعلومات مقابل معاملة طبية جيدة لابنه وكان يعتقد ان ياهودا جيل، ارفع الضباط “الاسرائيليين” في عمليات تجنيد العملاء، هو نائب المدير العام لشركة اوروبية معنية بالسلامة النووية. ولكن ذلك كان حالة نجاح وحيدة، فقد كان صدام حسين يرعب كل الذين كانوا على علاقة بالمشروع للبقاء صامتين عبر شريط فيديو نشره ويظهر فيه وزراء في حكومته يعدمون مسؤولين آخرين. وينقل بيرغمان عن خضير حمزة، احد مدراء البرنامج النووي قوله “كان شريطاً مرعباً، فقد كان من خلال هذا الشريط يبعث برسالة تفيد بأنه ان لم يكن سعيدا من عملك لاي سبب فانك بحكم الميت”.

إقرأ على موقع 180  "ملف الجماجم".. حكايات قتل وفساد مرعبة في إسرائيل (53)

وبرغم ذلك، توفرت مصادر أخرى لـ”الاسرائيليين”، بينها علماء فرنسيون ومساعدون ومدراء في مستوى وظيفي متوسط كان يُدفع للبعض منهم بسخاء وبعضهم الآخر كانوا يهودا وافقوا على التعاون لاسباب ايديولوجية، ومن خلال واحد من هذه المصادر استطاع “الموساد” الحصول على “كتاب المشروع”، وهو عبارة عن وثيقة تفصيلية من بضعة مئات من الصفحات كتبها علماء فرنسيون باللغتين الفرنسية والانكليزية وتتضمن كل الاتفاقيات التي ابرمت مع العراق. وينقل رونين بيرغمان عن العقيد الدكتور رافائيل اوفيك عالم الفيزياء النووية في جامعة بن غوريون الذي كان جهاز “امان” قد جنده للعمل في صفوفه “لقد علمنا من خلال هذا الكتاب الكثير، ولا سيما المعلومات حول المكان الذي يقام عليه المشروع حيث كان المفاعل يبنى وعلى مقربة منه مختبرات في مركز الابحاث النووية في التويثا”. واقامت الوحدة 8200 للتنصت في جهاز “امان” قوة مهمات خاصة سرية للغاية تحت اسم “ابوكاليبس” قامت بزرع اجهزة تنصت على الهواتف والتلكس في المكاتب العراقية في باريس. وبحزمة من المعلومات الاستخبارية التي قدمتها، طالبت “اسرائيل” المجتمع الدولي بوقف المشروع العراقي، ولكن القادة الاجانب الغاضبين والمنتقدين لـ”اسرائيل” وبعض الخصوم الداخليين لمناحيم بيغن (رئيس الوزراء حينها) اتهموا “اسرائيل” بالتهويل، واصروا على ان المشروع العراقي لا يمكن ان يتسبب بالاذى لـ”اسرائيل” وواصل الفرنسيون القول ان المشروع كان باكمله برنامج ابحاث مشروع وانهم يستخدمون الية كافية لضمان الامان فيه وللتأكد ان العراق لن يكون قادرا على تطويره لانتاج قنابل ذرية. وقد عاد وزير الخارجية موشيه دايان من زيارة الى باريس مرتعبا لعدم الاكتراث الفرنسي لمطالبه فطلب من الاميركيين الضغط على الفرنسيين لوقف المشروع العراقي لكنه لم يلقَ اذانا صاغية. فاستنتجت اسرائيل ان الطريقة الدبلوماسية قد فشلت، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1978، أعطت الحكومة الامنية المصغرة رئيس الوزراء الاذن بـ”العمل الضروري” لوقف البرنامج النووي العراقي واعطت “الموساد” الضوء الاخضر للعمل وانتهت الحكومة الامنية المصغرة الى قرار يقضي بضرورة “قتل مشروع اوزيريس”.

وبعد هذا القرار بوقت قصير جاء تفجير مستودع الشحن في منطقة الريفييرا الفرنسية، وقد تسبب التفجير في تلك الليلة باضرار كبيرة جدا للمكونات التي جرى تفجيرها واعتبر “الاسرائيليون” انهم بهذه العملية قد ارجعوا طموحات صدام حسين النووية على الاقل سنتين الى الوراء وهي المدة التي يحتاجها الفرنسيون لبناء مكونات جديدة بدلا من تلك التي تم تفجيرها. ولكن الديكتاتور العراقي لم يكن ليسمح بمثل هذا التأخير فاعطى أوامره للقيمين على المشروع بمواصلة العمل، وفق الجدول المحدد فيما طالب وزير الدفاع العراقي الفرنسيين باصلاح الاجزاء المدمرة وان يسلموها وفق الوقت المحدد مسبقاً. غير ان الفرنسيين اوضحوا ان عملية الاصلاح لن تحافظ على القوة نفسها للمكونات التي تم تفجيرها وبالتالي لا بد من استبدالها، وهذا الامر يتطلب بضعة سنوات ولكن لم يجرؤ احد على اخبار صدام حسين بالامر.

يختم بيرغمان “برغم ذلك، فان العراق كان لا يزال قادرا على الحصول على سلاح نووي خلال سنوات قليلة، فقرر مسؤولو “الموساد” أنه حان الوقت لاستخدام اساليب وتكتيكات اكثر عدائية. اي لا بد من البدء بقتل العلماء النووين”!

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لودريان في بيروت.. مهمة أبعد من إسم رئيس الجمهورية!