عندما دخل جو بايدن إلى البيت لأبيض، وجد مكانا يعرفه جيداً بأدق تفاصيله، وهو الذي كان يقيم في دائرة الضوء في السياسة الأميركية لأكثر من أربعة عقود، مثلما أقام فيه طوال ولايتي باراك أوباما.
على مدى أكثر من 32 عاماً، لم يفز بايدن بأية انتخابات أولية. في العام 1987 تحطمت آماله قبل أشهر من بدء التصويت حين اتُهم بسرقة خطاب ألقاه نيل كينوك، زعيم حزب العمال البريطاني. في عام 2008، استقال بعد فوزه بنسبة 0.9 في المئة فقط من أصوات المؤتمر الحزبي للديموقراطيين في ولاية أيوا. في تلك المرحلة، تكوّن إنطباع أن مسيرته الرئاسية قد انتهت ولم يتخيل أحد في تلك اللحظة أن باراك أوباما سيختاره نائباً له، ومن ثم يصبح رئيساً للولايات المتحدة.
بالنظر إلى هذا التاريخ الطويل، غير الموفق دائماً، في الانتخابات الأميركية، يمكن الافتراض أن الأميركيين يعرفون بايدن جيداً، ليس من بوابة السيرة الذاتية فحسب، وإنما من بوابة شخصيته وأفكاره السياسية، وثمة ميل فطري لدى المحللين الأميركيين باعتماد توصيفات جاهزة حين يتطرقون إلى نهجه: “الوسطي”، “المعتدل”، “البراغماتي”.. إلخ.
الحملة الانتخابية لجو بايدن بدت مختلفة عن الحملات الانتخابية للمرشحين الديموقراطيين. على سبيل المثال، جسّدت هيلاري كلينتون شكلاً من أشكال الليبرالية التكنوقراطية القائمة على البيانات الاقتصادية والسوق الحرة والهيمنة العسكرية الأميركية في الخارج. في المقابل، إفتقرت حملة بايدن إلى مثل هذه الأمور، فكل ما كان يقدمه المرشح الديموقراطي وعود باستعادة وحدة الولايات المتحدة، التي تقوضت في سنوات ولاية دونالد ترامب، والتي جعلت الانتخابات الأخيرة الأكثر اثارة للمخاوف من احتمال تطوّرها إلى فوضى دستورية وسياسية وقضائية، إلى أن وقعت الواقعة في السادس من كانون الثاني/يناير 2021، تاريخ إقتحام الكابيتول.
بهذا المعنى، لا يمكن الحديث عن “البايدنية” إلا في سياق وضعها على الطرف النقيض من “الترامبية”، أي ان بايدن يمثل كلمة السر التي تجمع كل المشاعر المناهضة لترامب في خضم أزمة الشرعية، وموجات الاضطرابات الاجتماعية والعرقية والثقافية، والانهيار الاقتصادي الوشيك، والفيروس التاجي (كوفيدـ19).
“البايدنية” تمثل مساراً وسطاً بين قومية دونالد ترامب اليمينية المتطرفة وبين الاشتراكية الديمقراطية لبيرني ساندرز
لهذا السبب، يستحيل على المرء تصنيف “البايدنية” إلا من بوابة “الترامبية”، فالمذهب السياسي لجو بايدن يكاد يقتصر على ثلاث مكونات لا يغيب عنها دونالد ترامب، ويلخصها باتريك وايمان بثلاثة مكونات رئيسية مترابطة:
أولاً، ترامب يمثل انحرافاً في المسار الطبيعي للتاريخ الأميركي.
ثانياً، ابعاد دونالد ترامب عن البيت الأبيض من شأنه أن يحل أزمة الولايات المتحدة جذرياً من خلال إعادة الحكم إلى زعيم مسؤول.
ثالثاً، ليست هناك حاجة إلى تغييرات كبيرة في الهياكل السياسية الحالية أو حتى إجراء تغييرات عميقة في المجتمع.
وبالتالي، يمكن اعتبار “البايدنية” أيديولوجية تركز على الحفاظ على الوضع الراهن.
بذلك، فإنّ “البايدنية” تمثل مساراً وسطاً بين قومية دونالد ترامب اليمينية المتطرفة وبين الاشتراكية الديمقراطية لبيرني ساندرز.
بحسب مجلة “فورين بوليسي” فإنّ “البايدنية” تقترب بذلك من فكرة “الطريق الثالث” التي تبناها زعيم حزب العمال البريطاني طوني بلير في تسعينيات القرن الماضي، أو الفكرة التي تبناها خط معين من المحافظين الأوروبيين القاريين، حين سعى لتمييز نفسه عن اليمين الفاشي من جهة، واليسار الثوري من جهة أخرى، خلال فترة ما بين الحربين الكونيتين وسنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية: التقاليد السياسية للديمقراطية المسيحية.
هذه هي عائلة الأحزاب السياسية التي وصلت إلى السلطة في معظم البلدان الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية تحت قيادة شخصيات مثل كونراد أديناور وألتشيدي دي غاسبيري وأنجيلا ميركل.
منذ بداية حياته السياسية، طور بايدن صورة لنفسه على أنه “باني الجسور”، وبالنسبة إليه، تماماً كما هي الحال مع الديموقراطية المسيحية، فإن أعمال التسوية والمصالحة ليست مجرد أدوات سياسية تكتيكية، بل ترتقي إلى مرتبة المبادئ الأخلاقية
إنطلاقا من محاولة فكرية في القرن التاسع عشر للتوفيق بين العقيدة الاجتماعية الكاثوليكية والديموقراطية الحديثة، يمكن وصف الأيديولوجية الديمقراطية المسيحية من حيث ثلاثة مبادئ أساسية: مفهوم أخلاقي لـ”النظام الطبيعي” كمجتمع متناغم ومتكامل عضوياً، مفهوم علاجي لدولة الرفاه كوسيلة لحماية الوحدة الاجتماعية والاستقرار من خطر الراديكالية؛ وتصور للممارسة الديموقراطية كعملية مستمرة للتسوية والمصالحة بين المصالح الاجتماعية المتضاربة.
تجد كل من هذه الميزات الثلاث صدى قوياً في موقف بايدن السياسي وخطابه، وهذا ما جعل معركته الانتخابية بحسب مؤيديه “معركة من أجل روح أميركا”، في إشارة إلى فكرة التهديد الروحي والوجودي الذي يمثله دونالد ترامب، والذي يقدم بايدن نفسه فيه كحصن أخير لحماية أميركا وقِيمها.
تشير “فورين بوليسي” إلى أن هذا المفهوم الخاص بـ”روح أميركا” تبدى في خطاب بايدن الإنتخابي عبر إشاراته المتكررة إلى مفاهيم “الكرامة” و”الشرف” و”اللياقة” و”العمل الجاد”.
تشير كل هذه المصطلحات إلى رؤية مثالية للمجتمع الأميركي كنظام متناغم ومتكامل عضويا، وهو نظام يقوم على أساس التعاون المتبادل ومجموعة مشتركة من القيم الأخلاقية مستمدة من الماضي، تتكرر ضمن سردية يرددها بايدن باستمرار: “ليست هذه هي الطريقة التي علمنا بها آباؤنا”.
هذا هو البعد الذي تتبناه “البايدنية” في معالجة” الانقسامات التي تعصف بالمجتمع الأميركي، والذي يتماهى مع تركيز الديموقراطية المسيحية الأوروبية التاريخي على قيم “الوحدة الوطنية” و”استعادة” النظام.
على هذا الأساس، تبدو السمة المميزة لأسلوب بايدن السياسي هي التزامه بالمصالحة الاجتماعية من خلال التسوية السياسية. منذ بداية حياته السياسية، طور بايدن صورة لنفسه على أنه “باني الجسور”، وبالنسبة إليه، تماماً كما هي الحال مع الديموقراطية المسيحية، فإن أعمال التسوية والمصالحة ليست مجرد أدوات سياسية تكتيكية، بل ترتقي إلى مرتبة المبادئ الأخلاقية.
مع ذلك، ثمة جوانب من برنامج بايدن لا تتداخل مع التجربة التاريخية للديموقراطية المسيحية الأوروبية، فعلى الرغم من أن بايدن كاثوليكي متدين (يبدو أنه كان يرتدي مسبحة تحت جعبته منذ وفاة ابنه في العام 2015)، إلا أنه لا يزال راسخاً ضمن التقاليد الأميركية للعلمانية التي تفرض “جداراً فاصلاً” صارمًا بين السياسة والدين.
على النقيض من ذلك، فإن الديموقراطية المسيحية في أوروبا متجذرة جزئيًا في محاولة لترجمة مبادئ العقيدة الاجتماعية الكاثوليكية مباشرة إلى برنامج سياسي ديموقراطي. وبهذا المعنى، فإن بايدن هو نسخة أميركية مميزة من هذا الخيط الأوروبي من المحافظة السياسية.
قد ترتسم معالم هوية “بايدنية” في الخارج. ذلك مرتبط بتوجهات بايدن في الخارج. هنا تكفي إشارة ولو سريعة إلى تحسس معظم ديكتاتوريات المنطقة من فوزه.
على الأرجح، ستكون ولاية بايدن ترميمية، وهنا يمكن اعتبار “البايدنية” مذهباً نقيضاً لـ”الترامبية”، ما يجعلها مجرد حركة تصحيحية تستوحي تجربة أوروبية بنكهة أميركية لمواجهة “انحرافات” الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة.
(*) هذه المقالة نشرت في موقع 180 بوست في 22 كانون الثاني/ يناير 2021