نعوم تشومسكي، اللغوي والناشط والكاتب السياسي الأميركي، هو أحد أشهر منتقدي السياسة الخارجية الأميركية وأكثرهم قسوة. انتقاداته للإدارات الرئاسية من نيكسون إلى أوباما، وخطورة آرائه – مثل مقارنة 11 أيلول/سبتمبر بقصف بيل كلينتون لمصنع في الخرطوم، على سبيل المثال – جعلت منه هدفا لموجات من الغضب الشديد، فضلا عن أنه بطل لليسار العالمي.. كتبت لاريسا ماك فاركوهار في لمحة عنه في مجلة «نيويوركر» في عام 2003: «يرفض تشومسكي دائمًا الحديث عن الدوافع في السياسة، ومثل عديد من منظري الإنسانية العالمية، غالبا ما يبدو تشومسكي متعجبا، بل نافرا، من أفكار الناس في الواقع وتركيبتهم النفسية”.
عندما اتصلت بنعوم تشومسكي، البالغ من العمر 91 عاما، الشهر الماضي لإجراء مقابلة متفق عليها منذ مدة طويلة، كنت أقصد مناقشة مسيرته المهنية وحياته، وكتابه الأخير «أزمة المناخ والصفقة الخضراء العالمية الجديدة” الذي كتبه مع روبرت بولين وسي جي بوليكرونيو، لكنه قضى معظم الجلسة التي استمرت لمدة ساعة في إدانة إدارة ترامب بحماسة أدهشتني قليلا.
كان تشومسكي على الدوام براغماتيا للغاية في تحليله السياسي، مبتعدا عن بعض اليساريين الآخرين في إيمانه بضرورة التصويت للديموقراطيين ضد الجمهوريين. ولكن بالإضافة إلى دعمه جو بايدن هذا العام، أخبرني أن دونالد ترامب «أسوأ مجرم في تاريخ البشرية» وأعرب عن مخاوف جدية بشأن مستقبل الديموقراطية الأميركية، مع أنه أقر بأنه «لم تكن هناك أمور كثيرة مثيرة في هذا الشأن”.
ربما لا يكون الاهتمام نفسه، ولكن بالعاطفة نفسها التي يبدو أنه يضفيها على كل موضوع، انتقد أيضا «التشهير عبر الإنترنت» وشرح سبب توقيعه على رسالة مجلة «هاربرز» الأخيرة حول حرية التعبير. ومع ذلك، أشار تشومسكي إلى أن أكثر ما يحب التفكير فيه هو الفلسفة والعلوم واللغة. وقال: «دعني أقول لك الحقيقة، بينما أجري مقابلات وأتحدث عن الأشياء، فإن جزءا من عقلي يعمل على حل المشكلات الفنية، والتي هي أكثر إثارة للاهتمام”.
شوتينر: على مدى السنوات الأربع الماضية، هل كنا نعيش حقبة غريبة وجديدة من التاريخ الأميركي؟ أم نشهد استمرارا للتاريخ الأميركي يتماشى إلى حد كبير مع ما كان عليه دائما؟
تشومسكي: بالطبع هي البلاد نفسها. لم نمر بثورة كبرى، لكن السنوات الأربع الماضية (ولاية ترامب) كانت بعيدة كل البعد عن تاريخ الديموقراطيات الغربية بالكلية. والآن أصبح الأمر غريبا للغاية تقريبا. وفي الـ350 عاما من الديموقراطية البرلمانية، لم يكن هناك شيء مثل ما نراه الآن في واشنطن.
ومن نافلة القول أن أتحدث إليك عنها، فأنت تقرأ الصحف نفسها التي أقرأها. الرئيس الذي يقول إنه إذا لم تعجبه نتيجة الانتخابات، فلن يترك منصبه ببساطة، ويؤخذ ذلك على محمل الجد، على سبيل المثال، وصل الأمر بضابطين عسكريين متقاعدين رفيعي المستوى ويحظيان باحترام كبير – أحدهما معروف جدا وهو المقدم جون ناجل – إلى حد كتابة رسالة مفتوحة إلى الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، ليذكّره بواجباته الدستورية بإرسال الجيش الأميركي للإطاحة بالرئيس من منصبه إذا رفض مغادرة المنصب.
تشومسكي: جرى تطهير السلطة التنفيذية بالكامل تقريبا من أي أصوات مستقلة منتقدة ولم يبق سوى المتملّقين. إذا لم يكونوا مخلصين بما فيه الكفاية للحاكم بأمره، فاطردهم واجلب آخرين
وهناك مقال طويل، ربما قرأته، بقلم بارتون جيلمان، يستعرض فيه الاستراتيجيات التي تفكر فيها قيادة الجمهوريين لمحاولة تقويض الانتخابات. كان هناك كثير من العبث من قبل. ومع ذلك هذا ليس غير مألوف بالنسبة لنا. وفي الواقع، حدثت إحدى الحالات التي تتبادر إلى الذهن وذات صلة نوعا ما بما يحدث في الوقت الحالي في عام 1960. كان لدى ريتشارد نيكسون سبب وجيه للاعتقاد بأنه فاز في الانتخابات. ولكن نيكسون، الذي لم يكن الشخص الأكثر بهجة في تاريخ السياسة الرئاسية، قرر أن يقدم رفاهية البلاد على طموحه الشخصي. وهذا ليس ما نراه الآن، وهذا مجرد مؤشر واحد على تغيير مهم للغاية. جرى تطهير السلطة التنفيذية بالكامل تقريبا من أي أصوات مستقلة منتقدة ولم يبق سوى المتملّقين. إذا لم يكونوا مخلصين بما فيه الكفاية للحاكم بأمره، فاطردهم واجلب آخرين. ومن الأمثلة اللافتة للنظر في الآونة الأخيرة، طرد المفتشين العامين عندما بدأوا في البحث في المستنقع المذهل الذي أنشأه ترامب في واشنطن. وهذا النوع من الأمور مستمر.
شوتينر: كيف تنظرون إلى إدارة ترامب من منظور دور أميركا في العالم وهل هذا الدور جديد أم لا؟
تشومسكي: حسنا، هناك بعض الأشياء الجديدة التي لا يجرى مناقشتها كثيرا. لا أعرف ما إذا كان ترامب السبب في ذلك، لكن الناس من حوله يسعون في الأساس إلى إنشاء تحالف دولي من الدول شديدة الرجعية، والتي يمكن أن يسيطر عليها البيت الأبيض، والذي تحول بالطبع كثيرا إلى اليمين، ليمزق كل اتفاقية دولية ويدمر كل شيء في الأفق.
وفي نصف الكرة الغربي، ستكون هناك شخصية بارزة هي جاير بولسونارو في البرازيل استنساخا إلى حد ما من ترامب، وكذلك في الشرق الأوسط، مع ديكتاتوريات الخليج وهي أكثر الدول رجعية في العالم، وفي مصر في ظل عبد الفتاح السيسي الذي يمثل ربما أسوأ ديكتاتورية في تاريخ مصر. لقد تحركت إسرائيل لتقترب جدّا من اليمين. ولا علاقة لما يسمى باتفاقيات السلام الحالية المزعومة باتفاقيات السلام. إنها قاعدة طبيعية للغاية في الشرق الأوسط بسبب الرجعية الدولية التي يديرها ترامب.
وفي الشرق، هناك مرشح رئيس في الهند نارندرا مودي لأن يكون استنساخا آخر من ترامب؛ إذ يحطم الديموقراطية العلمانية الهندية ويحاول فرض ثيوقراطية هندوسية قومية ويسحق كشمير. إن ما يفعله جزء واضح من توجهات ترامب. وفي أوروبا، المرشح الرئيس هو فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر. وماتيو سالفيني ليس في السلطة بعد، لكن إيطاليا ستأتي خلف المجر مباشرة. وهناك شخصيات لطيفة أخرى حول العالم، ولكن هذا أساسا هو جوهر الأمر.
الآن، هذا التخلص من جميع الاتفاقيات الدولية من جانب واحد، واللامبالاة التامة بشأن مواقف الآخرين وأولوياتهم. وقد كشف عن ذلك بغطرسة نموذجية لإدارة ترامب في إعلان بومبيو (وزير الخارجية) إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران. لماذا؟ لأنه يقول ذلك. أتت الولايات المتحدة بالعقوبات إلى مجلس الأمن ولم تستطع الحصول على أي دعم تقريبا. لذلك، فإننا نعيد فرض عقوبات الأمم المتحدة من طرف واحد. هذا هو الأب الروحي يتحدث ولا يهم ما يعتقده أي شخص آخر. وينطبق الشيء نفسه على كل اتفاقية دولية. لقد انهار نظام الحد من التسلح، مع وجود خطر كبير علينا وعلى أي شخص آخر.
شوتينر: لقد ذكرت مجموعة من الطغاة الذين تتقرب إليهم الولايات المتحدة – ولا تحترم معاهدات الحد من الأسلحة – ولكن هذه أشياء كتبت عنها في الماضي. أنا مهتم بقولك إنك تعتقد أن إدارة ترامب تمثل قطيعة مع الماضي. كيف تعتقد أنها مختلفة بطريقة ما؟
تشومسكي: حسنا، وجود نظام للحد من التسلح يختلف عن عدم وجوده. هذا انفصال، وهو انفصال عن واحدة من أهم قضيتين في تاريخ البشرية. إننا نعيش منذ 75 عاما في ظل الدمار النووي المحتمل. ونظام الحد من التسلح الذي بني ببطء على مر السنين – اقتراح أيزنهاور للسماء المفتوحة ومعاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى التي أبرمها (رونالد) ريغان و(ميخائيل) غورباتشوف وغيرها من المعاهدات – خفّف من حدة هذه المخاطر. ومزّق ترامب كل معاهدة منها إلى أشلاء. والشيء الوحيد المتبقي هو معاهدة ستارت الجديدة. ويجب أن يصادق عليها بحلول شباط/فبراير المقبل. وإذا فاز ترامب في الانتخابات أو رفض ترك منصبه، فستختفي المعاهدة بحلول شباط/فبراير.
تشومسكي: هل سمعت عن أي شخص في تاريخ البشرية كرّس جهوده لتقويض احتمالات بقاء الحياة البشرية على الأرض؟ في الواقع بعض تصرفات إدارة ترامب محيرة للعقل
إن التهديد الرئيس الآخر لبقاء الإنسان يتمثل في الكارثة البيئية، وهنا يغرد ترامب وحده خارج السرب بعيدا عن العالم بأسره. إن معظم البلدان تفعل شيئا على الأقل حيال ذلك – ليس بالقدر اللازم – ولكن بعضها مهم إلى حد ما، والبعض الآخر أقل أهمية. ولكن الولايات المتحدة انسحبت من اتفاقية باريس وترفض القيام بأي من الإجراءات التي قد تساعد البلدان الفقيرة في التعامل مع المشكلة وتتسابق نحو تعظيم استخدام الوقود الأحفوري؛ وفي الوقت نفسه فتحت للتو آخر محمية طبيعية رئيسية في الولايات المتحدة لأعمال الحفر والتنقيب. على ترامب أن يتأكد من أننا إذا عظّمنا استخدام الوقود الأحفوري، فإننا بذلك نمضي إلى الهاوية بأسرع ما يمكن وأننا نتخلص من النظم والقوانين التي لا تحد من الآثار الخطيرة فحسب، ولكنها تحمي الأميركيين كذلك. إنه يتخلص شيئا فشيئا من كل ما قد يحمي الأميركيين أو يحافظ على إمكانية التغلب على التهديد الخطير لكارثة بيئية. ولا يوجد نظير لذلك في التاريخ. إن هذا لا يعد مخالفة للتقاليد الأميركية. هل سمعت عن أي شخص في تاريخ البشرية كرّس جهوده لتقويض احتمالات بقاء الحياة البشرية على الأرض؟ في الواقع بعض تصرفات إدارة ترامب محيرة للعقل.
شوتينر: للإجابة عن سؤالك الأخير، حتى لو كان خطابيا، يبدو أن الحزب الجمهوري الذي أتى بترامب كان لديه وجهات نظر متشابهة جدا حول علوم تغير المناخ، حتى لو أخذها ترامب في اتجاه أكثر عدمية.
تشومسكي: ما هي الشخصية الرائدة في تاريخ البشرية التي كرّست السياسة لتعظيم استخدام الوقود الأحفوري وتقليص النظم والقوانين التي تخفف من الكارثة؟ اذكر لي واحدا.
شوتينر: ربما بولسونارو، لكن نعم، فهمت ما تقصد.
تشومسكي: بولسونارو استنساخ من ترامب، ويسير على خطاه. نعم، هو يفعل ذلك على نحو خطير، لكنه حتى لم يذهب بعيدا مثلما ذهب ترامب.
شوتينر : لقد ألّفت كثيرا من الكتب حول السياسة الخارجية الأميركية، وأحد الموضوعات هو أن السياسة الخارجية الأميركية غالبا ما تكون مدفوعة بالمصالح الاقتصادية للنخب. أعتقد أن هذا لم يزل صحيحا، ومن الواضح أن ترامب ينتمي إلى النخبة الاقتصادية. ولكن مع ترامب يبدو أن رغبته الشخصية في المال هي التي تقود السياسة الخارجية الأميركية الآن. أتساءل عما إذا كان هذا قد جعلك تفكر على نحو مختلف حول كيفية تنفيذ السياسة الخارجية الأميركية؟
تشومسكي: لا على الإطلاق. في هذا الصدد، إنه استمرار، لكن عليك أن تميز. كان فرانكلين ديلانو روزفلت أفضل رئيس لدينا، في رأيي، وكان ملتزما بتعظيم القوة الأميركية ودور المصالح الاقتصادية الأميركية في العالم، وما إلى ذلك. أدولف هتلر، في الوقت نفسه، كان ملتزما بذلك في ألمانيا النازية، لكن هذا لا يقودنا إلى استنتاج مفاده أنهما شيء واحد.
شوتينر: ظننت أن هذا ما كنت أقوله. يبدو أن ترامب يهتم بمصالحه الخاصة وبقائه، وأنت تحدثت عن السياسة الخارجية الأميركية التي كانت مدفوعة في السابق بمصالح نخبة اقتصادية حاكمة. أعتقد أنه ربما يكون هذا تمييزا دون اختلاف؛ لأن النخب الاقتصادية هي التي تدعم ترامب وتسمح له بالقيام بذلك، إلى حد ما.
تشومسكي: إنهم لا يدعمونه فحسب، بل يخدمهم بخنوع. ومن الصعب أن تجد رئيسا أميركيا متفانيا أكثر منه لإثراء فاحشي الثراء وقطاع الشركات وتمكينهم، وهذا بالطبع هو سبب سعادتهم بالتغاضي عن تصرفاته الغريبة.
على سبيل المثال، أحد الإنجازات التشريعية الحقيقية هو الاحتيال الضريبي، والذي كان مجرد هبة للأثرياء وقطاع الشركات وعندما تقلّص النظم، فإنك تضع المزيد من الأموال في جيوب الأغنياء وتؤذي الطبقة العاملة والفقراء وكل الآخرين؛ هذا تطرف. وعندما ترفض استكمال أعضاء “المجلس الوطني لعلاقات العمل” (NLRB) حتى يتمكن أصحاب العمل من الإفلات من أي شيء يريدونه، فأنت تخدم الأغنياء. إنه خادم مخلص للسلطة الخاصة، والثروة الخاصة، وقطاع الشركات، ولهذا السبب سمحوا له بالإفلات دون عقوبة عن هذا النوع من التصرفات الغريبة التي تراها.
إنه أمر مدهش عندما ترى العظماء والأقوياء يجتمعون سويا. إلق نظرة على مؤتمر دافوس الأخير في كانون الثاني/يناير، كان هناك ثلاثة متحدثين رئيسيين. الأول بالطبع كان ترامب، إنهم لا يحبونه على الإطلاق لأنهم يحبون إبراز صورة للإنسانية والسلوك الحضاري واللياقة، و«ضعوا ثقتكم فينا»، وهذا النوع من الأشياء. ولكن عندما تحدث، صفقوا له بشدة. لم يستطيعوا تحمل أي شيء كان يقوله. ها هو هذا المتفاخر هناك يثرثر حول مدى روعته الشخصية. ربما كانوا ينكمشون في مقاعدهم، لكنهم صفقوا له بحرارة لأن هناك سطرا واحدا قاله يفهمونه، وهو أمر ذو مغزى: سأضع كثيرا من المال في جيوبكم، لذلك من الأفضل أن تتسامحوا معي. هذه هي الطريقة التي تنظر إليه بها النخب القوية هنا. نعم، لا يمكننا الوقوف معه، إنه مخلوق مثير للاشمئزاز، لكنه يعرف من أين يؤكل الكتف.
تشومسكي: كانت أهداف ستالين تتمحور حول الحفاظ على سلطته وفرض الهيمنة على شعبه، ولم يرد قتل الناس عمدا، لكنه فعل ذلك باعتباره وسيلة لتحقيق أهدافه
شوتينر: ما تقوله يبدو أكثر تشابها مع خطاب يسار الوسط السائد حول ترامب والتهديد الفريد الذي يمثله على الديموقراطية الأميركية أكثر من تشابهه مع بعض الخطابات اليسارية حول ترامب. أشعر بالفضول حول ما إذا كنت قد أدركت ذلك في تحليلك الخاص وما إذا كنت تعتقد أن هذا مثير للاهتمام أو الضحك.
تشومسكي: حسنا، لم ألاحظ ذلك. على سبيل المثال، لقد مررنا للتو باثنين من الروائع التي تحدث كل أربع سنوات، وهي المؤتمرات الحزبية. وقد جرى تغطيتها على نطاق واسع، ولكن هل سمعت فيها عبارة عن خطر الحرب النووية؟ لم أسمع أنا. وهذا هو التهديد الوحيد الذي يواجهه العالم، ولم يخضع للمناقشة. سمعت بعض التعليقات ربما حول أن ترامب لا يقوم بأشياء لطيفة بشأن المناخ. ولكن هل سمعت شيئا عن كونه أسوأ مجرم في تاريخ البشرية؟
شوتينر: هل تقول إنه أسوأ مجرم في تاريخ البشرية؟ هل لهذا الأمر دلالة ما؟
تشومسكي: نعم هو كذلك. أليس هذا صحيحا؟
شوتينر: حسنا، لكن ماذا عن هتلر وستالين وماو تسي تونغ؟
تشومسكي: صحيح أن ستالين كان وحشا كاسرا. لكن هل حاول ستالين أن يدمّر الحياة البشرية المنظمة على الأرض؟
شوتينر: حسنا، لكنه كان يسعى لإزهاق كثير من الأرواح البشرية.
تشومسكي: نعم كان يحاول ذلك، ولكنه لم يسع لتدمير الحياة البشرية المنظمة على كوكب الأرض، ولم يسع أدولف هتلر وراء ذلك أيضا، برغم أنه كان وحشا جامحا، لكنه لم يكرّس جهوده بوعي تام من أجل تدمير إمكانية الحياة البشرية على كوكب الأرض.
لنلقي نظرة على بعض مواقفهم المعلنة، ربما تتذكر التحليل الذي نشرته “الإدارة الوطنية للسلامة على الطرق السريعة” قبل عامين، وخلصوا فيه إلى أنه إذا أكملنا على مسارنا الحالي، فإن درجات الحرارة ستصل على الأرجح، بحلول نهاية القرن، إلى أربع درجات مئوية وسبع درجات فهرنهايت، أي فوق مستويات ما قبل الصناعة. وهذه كارثة مطلقة، وسيخبرك عن ذلك أي عالم مناخ، وتوصلوا إلى استنتاج مفاده أنه لا ينبغي علينا وضع قيود على انبعاثات السيارات والشاحنات، وأن نحد من القيود، فهل بإمكانك أن تجد لهذا مثيلا في تاريخ البشرية؟
حسنا، أعتقد أنني أتذكر أمرا واحدا يشبه ذلك، إنه إعلان مؤتمر وانسيي الصادر في عام 1942، والذي وضع فيه الحزب النازي اللمسات الأخيرة لمخططات إبادة اليهود وقتل عشرات الملايين من طائفة السلاف الإثنية، وهذا أمر مروّع جدا، لكنه هل يصل لدرجة السوء التي يصل إليها هذا الموقف المعلن الذي ذكرته للتو؟
شوتينر: لا أختلف معك بشأن سوء إدارة ترامب للأوضاع، لكني لست متأكدا من إذا ما كان يستهدف تدمير الكوكب بقدر ما يحرص على مشاهدة «فوكس نيوز» وإصراره على تبني سياسات رهيبة نابعة من الكسل والعدمية، والشعور بالزهو بسبب أنه محاط بالمحتالين والمناصرين للعدمية.
تشومسكي: لا أتحدث هنا عن سمات ترامب البشرية، فأنا لا أهتم بها كثيرا، لكنني أتحدث عن سياساته الواضحة للعيان. إذ لن تجد إنسانا لا يمكنه أن يدرك أن تعظيم استخدام الوقود الأحفوري وإزالة القيود عليه سيؤدي إلى كارثة، وتزعم الوثيقة التي ذكرتها أننا نمضي بخطى سريعة نحو كارثة محققة.
تشومسكي: أوضح جيمس ماديسون (رابع رئيس للولايات المتحدة) أن أحد أهم أهداف الحكومة هو حماية الأثرياء الأقلية من عامة الشعب الأغلبية، وأن الدستور وضع ليحول دون ما يسمى باستبداد الأغلبية أي الديموقراطية؛ أي أن دور الحكومة هو حماية الأقلية ويقصد بهم هنا الأثرياء
شوتينر: إن الأمر الوحيد الذي تعرّضت بسببه للانتقاد في السابق هو عدم مراقبتك لمقاصد الناس وأهدافهم، خاصة على صعيد السياسة الخارجية. وأنت تقول إنك لا تهتم كثيرا بالاطلاع على النوايا، لكن يبدو هنا أننا انزلقنا في التشكيك في النوايا عند مقارنة ترامب بستالين أو هتلر، واللذين كانت أهدافهما لقتل الناس واضحة.
تشومسكي: عذرا، أنا لا أوافقك الرأي.
شوتينر: لماذا؟
تشومسكي: كانت أهداف ستالين تتمحور حول الحفاظ على سلطته وفرض الهيمنة على شعبه، ولم يرد قتل الناس عمدا، لكنه فعل ذلك باعتباره وسيلة لتحقيق أهدافه. وخذ مثالا على ذلك، عندما يصدر هنري كيسنجر توجيها لسلاح الجو الأميركي خلال القصف الأميركي الشديد على كمبوديا، قائلا: «كل ما يطير يضرب كل ما يتحرك»، فهل كان عازما على ارتكاب إبادة جماعية؟ هل أكترث أنا لذلك؟ لا أنا أهتم فحسب بأن هذا ما قاله.
شوتينر: بالعودة إلى نقطة سابقة، غالبا ما يصف اليسار الأميركي الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه أحد إرهاصات التراجع الأميركي أو أنه دليلٌ على المسلك الأميركي الفاسد، وقالوا إن التهديد الحقيقي للديموقراطية الأميركية هو كل هذه الأمور التي كانت تعرف على نحو صحيح عن الأميركيين منذ مدة طويلة. كما أن يسار الوسط الأميركي غالبا ما يصف ترامب بأنه شخص استثنائي خبيث، ويهدد الديموقراطية التي كان يمارسها بعض رموز اليسار الأميركي على نحو أفضل. ويبدو أنك ستنزل على رأي الطرف الأخير في هذا الجدل، والذي أعتقد أنه نظرا لوضعك في اليسار الأميركي سيكون مثيرا للاهتمام.
تشومسكي: عذرا، أعتقد أن الديموقراطية الأميركية ليست استثنائية أو مثيرة للاهتمام. فهل ترغب في الحديث عن هذا حقا؟ دعنا نعود إلى الآباء المؤسّسين الذين كانوا منوطين بالانتقاص من الديموقراطية، إذ أبرز كتاب مايكل كلارما “إنقلاب المؤسسين” أحد أهم الأعمال الأكاديمية التي تناولت المؤتمر الدستوري (الاجتماع الذي عقد من أجل وضع دستور أمريكا الجديد)، انقلاب الآباء المؤسسين على الديموقراطية، وبينما أراد عامة الشعب مزيدا من الديموقراطية، لم ترق فكرة الديموقراطية للمؤسسين وأرادوا تقييدها. كان تصورهم عن الأمر يشبه قليلا أو كثيرا ما رآه جون جاي (أحد الآباء المؤسسين وأبرز واضعي دستور ولاية نيويورك) والذي كان يقول: «على الذين يملكون البلاد أن يحكموها». فيما أوضح جيمس ماديسون (رابع رئيس للولايات المتحدة) أن أحد أهم أهداف الحكومة هو حماية الأثرياء الأقلية من عامة الشعب الأغلبية، وأن الدستور وضع ليحول دون ما يسمى باستبداد الأغلبية أي الديموقراطية؛ أي أن دور الحكومة هو حماية الأقلية ويقصد بهم هنا الأثرياء.
واستخدمت شتى أنواع الوسائل من أجل حماية الأثرياء الأقلية. وعلى مر العصور، دارت رحى المعارك والمواجهات من أجل تحقيق ذلك. لكن الديموقراطية الناجحة جزئيا شهدت انخفاضا هائلا منذ عام 1980 ومع بداية انحدار الليبرالية الجديدة. وهذا انعكاس بديهي للسياسات التي تبنتها الدولة، فهل تتذكر خطاب تنصيب رونالد ريغان رئيسا للبلاد: “إن الحكومة هي المعضلة”، ما المقصود بذلك؟ المقصود أن قراراتها تتخذ في مكان ما، فإن لم تكن هذه القرارات تتخذ داخل الحكومة، والتي تخضع لتأثير جزئي من الشعب على الأقل، فإن سياساتها تضعها مؤسسات في القطاع الخاص غير خاضعة للمساءلة.
وإذا دققت النظر أكثر، ستجد أن 0.1 % من الشعب الأميركي لا يملكون حاليا سوى 20 % من ثروة الولايات المتحدة. وهذا الأمر له تداعيات كبيرة على النظام السياسي لأسباب واضحة وضوح الشمس. فمثلا هؤلاء الذين انتخبوا ليصبحوا أعضاء في الكونجرس الأميركي، يتعين عليهم إجراء مكالمة هاتفية والتواصل مع المانحين للتحقق من حصولهم على التمويل اللازم في حملتهم الانتخابية القادمة، وهذا النوع من الديموقراطية هي التي كانت لدينا قبل مجيء ترامب، وتمكن هو من تحطيمها تحطيما وازداد الطين بلة.
شوتينر: إذا نحينا خطاب هاربر جانبا، أعتقد أن أهداف الأشخاص مهمة ويجب أن نضعها في الحسبان. وإذا قال أحد موظفي التعداد والإحصاء إن هناك كثيرا من اليهود يعملون في هوليوود، مشيرا إلى ذلك باعتباره حقيقة، فإن الأمر يختلف إذا ما صرح به ترامب في تجمع حاشد. ونحن جميعا ندرك أن لكل شخص مقصد مختلف، وعلينا أن نتعامل مع كل شخص تعاملا مختلفا بناء على المتحدث ذاته. وقد يعود هذا الأمر إلى عدم اكتراثك كثيرا بمقاصد الآخرين.
تشومسكي: صحيح، كل شخص يقرأ الأمور قراءة مختلفة عن الآخر. لكن ما أتحدث عنه هو كيفية القراءة. وبلا شك، قد يكون للموقّعين المختلفين على وثيقة ما أهداف شتى، وأستطيع أن أدرك ذلك من قائمة أسماء الموقّعين. ولكن ما أفكر فيه واضح تماما، وكنت أقول ذلك للنشطاء منذ عقود، لا تلتقطوا تلك التقنيات التي تستخدم بانتظام من الاتجاه السائد في القمع، ولا تتبنوا هذا النهج لأنفسكم، لذا لم يشر إلى ثقافة الإلغاء في البيان، لكن كثيرا من الناس قرأوا ذلك فيه.
تشومسكي: مارتن لوثر كينغ كان عندما يفقد الدعم الليبرالي تماما، ينظّم حملة للفقراء من الشعب الأميركي، دون تمييز بين أبيض وأسود، والمكافحين والعمال. وهذه هي حملتنا التي ينبغي علينا تنظيمها، وأن نمزج بين كل هذه المخاوف لأنها تكمل بعضها البعض
حسنا، دعنا نفترض أنه يتطرق إلى ثقافة الإلغاء، والتي باتت ثقافة سائدة في شتى المجالات. ويمكنني، مستندا إلى تجربتي الخاصة، أن أضرب لك كثيرا من النماذج للأشياء التي ألغيت، مثل وقف نشر الكتب، ومنع ظهور مذيع ما في الإذاعة الوطنية لأن شخصا ما لا يعجبه، وهناك أعداد لا نهاية لها من هذه الأمثلة. وهو سلوك تقترفه المؤسسات الأميركية باستمرار طيلة الوقت. وعندما يحاول اليسار الأميركي تقليد هذا أو الاقتداء به، فإنهم يرتكبون خطأ فادحا، من منطلق المبدأ، أو من الناحية التكتيكية، وهي أفعال تعد بمثابة هدايا مجانية نقدمها لليمين المتطرف، وهم يدورون في فلكها لأنهم يحبون ذلك. وفي حقيقة الأمر، يبني ترامب حملته الانتخابية الخاصة استنادا إلى هذه الأمور. ولذلك، على اليسار، الذي أنا مكترث لأمره ومهتم بنشطائه، أن ينتبهوا للتداعيات الأساسية والتكتيكية، لأنها مهمة. انتبهوا لهذه التداعيات، ولا تتبنوا السلوك القمعي السائد في الاتجاه العام، وهذا ما كنت أقصده حرفيا.
شوتينر: أعتقد أن أحد الأمور التي اعترض عليها الناس كانت الرسالة القائلة إن حرية التعبير في الولايات المتحدة أصبحت مكبّلة بمزيد من القيود. وبحسب وجهة نظرك كان هذا يحدث دائما، وكان جزءا من الاتجاه العام السائد، ويؤمن البعض بالحكمة القائلة إن الأمر يزداد سوءا. فيما يشير كاتبوا الرسالة إلى نقطة محددة بشأن اليسار الأميركي وثقافة الإلغاء أو الإقصاء.
تشومسكي: حسنا، إن ما تقوله صحيح. الأمر يزداد سوءا، لكن هذا لا يعني أنه كان جيدا في السابق، لذا علينا إضافة جزء صغير، وهو أن ما يرتكبه التوجه العام من ممارسات غير صحيح دائما.
شوتينر: هناك أيضا ثمة قدر أكبر من التحرر عبر استخدام وسائل معينة، إذ بمقدور الأشخاص من مختلف الأعراق والهويات الجنسانية التعبير حاليا عن آرائهم علانية وعلى نحو أكثر وضوحا، وذلك باستخدام وسائل شتى.
تشومسكي: كل هذا جيد وإيجابي ورائع، وهذا ما كنت أهدف إلى تحقيقه. وكنت جزءا من ذلك وأقدم الدعم له طيلة حياتي، لكن من الخطأ أن تتجاوز ذلك لمحاولة إخراس الآخرين.
شوتينر: هل تعتقد أن هناك أي توتر أو خلافات داخل اليسار الأميركي بشأن مناشدات تحقيق العدالة القائمة على العرق والمساواة بين الجنسين وغير ذلك، بالإضافة إلى كثير من المطالبات القائمة على الحقوق الفئوية؟
تشومسكي: يدرك الجميع تماما أن 400 عام من ممارسات القمع الوحشية والعدوانية خلّفت إرثا مريرا بين طوائف الشعب، وهذا الأمر لا بد أن يكون أكبر مصدر قلق للولايات المتحدة. وبطبيعة الحال، أتحدث عن مصير الأميركيين من أصول أفريقية. كما أنه من المفهوم تماما لنا أن التهميش وسوء المعاملة وقمع حقوق المرأة لا بد أن يكون مصدر قلق كبير للولايات المتحدة.
ومن المهم أيضا أن نضع في الحسبان أن الولايات المتحدة لديها تاريخ استثنائي من العنف والوحشية ضد العمالة، وتاريخ ممتد من قمعها. وازداد الأمر سوءا منذ أن حلّت مبادئ الليبرالية الجديدة. وأدرك كلٌ من ريغان و(مارغريت) تاتشر، أو من يقف وراءهما، أنه إذا كنا سنسلّم الأثرياء والقطاع الخاص كل شيء، فلا بد أن نسلب الناس قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، وتتركز قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، في المقام الأول، في أيدي النقابات العمالية. لذا كانت إجراءاتهم الأولى باستخدام البطش ضد الحركة العمالية وتقويضها تقويضا شديدا. وهذا ليس سوى قدر ضئيل من تاريخ طويل من الوحشية. لذلك علينا أيضا وضع ذلك في الاعتبار.
وأنا على يقين أنك تتذكر ما كان يحاول مارتن لوثر كينغ في نهاية حياته فعله عندما يفقد الدعم الليبرالي تماما، كان ينظّم حملة للفقراء من الشعب الأميركي، دون تمييز بين أبيض وأسود، والمكافحين والعمال. وهذه هي حملتنا التي ينبغي علينا تنظيمها، وأن نمزج بين كل هذه المخاوف لأنها تكمل بعضها البعض، ولا بد أن نعالجها جميعا.
وبمقدورك أن تفهم لماذا يعد بعض الشعب الأميركي، بالنسبة لبعض الأشخاص، أكثر أهمية من البعض الآخر، لكن الأمر له صلة بالقدرة على حشدهم جميعا مع بعضهم البعض، لأنهم كلهم في الأساس على الجانب نفسه. إذ إن الأزمات المهولة التي يواجهها الإنسان هي أسوأ بكثير من أية أزمة مرت بالبشرية عبر تاريخها، وهذه الأزمات تهدد بقاء البشرية: إذ لا يتعلق الأمر مع هذه الأزمات بلون البشرة – سواء أسود أو أبيض – وغير ذلك، لكن هذه الأزمات خطيرة على العالم بأسره. ويتسع نطاق هذه الأزمات على النطاق العالمي الدولي، وبالعودة إلى إدارة ترامب، فإن هذه الإدارة تحطم كل أشكال التعاون الدولي. وتهاجم بضراوة شتى أنواع الهياكل المؤسسية التي ستكون ضرورية وحاسمة من أجل التغلب على الأزمات الجسيمة والمحدقة بالبشرية.
(*) المصدر: The New Yorker