رواية “أولمبيا” لبيرغمان: فخخنا منصة عرفات ولم نفجرها
384415 10: (FILE PHOTO) Israeli Defense Minister Ariel Sharon points to a map of Lebanon as he talks to the press about the objectives of the military operation "Peace For Galilee" June 11, 1982 in the Defense Ministry in Tel Aviv, Israel. Twenty eight survivors of the 1982 Shatilla and Sabra massacre that took place in the Lebanese capital of Beirut presented a crimes against humanity case against Sharon to an investigating judge on June 18, 2001 in Brussels, Belgium. The survivors argued that the Israeli military and Ariel Sharon, who lead the invasion into Lebanon and whose troops surrounded the Palestinian refugee camps as Christian militias killed the people inside, are responsible for the alleged human rights violations that took place there. (Photo by Ya'akov Sa'ar/GPO via Getty Images)

Avatar18015/11/2020
نشرت "يديعوت أحرونوت" الرواية الكاملة التي كتبها الصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان لعملية "أولمبيا" التي كانت تهدف في الأول من كانون الثاني/يناير 1982 إلى تفجير قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسها ياسر عرفات في أثناء إحتفال يقام في ملعب بيروت البلدي في الطريق الجديدة في بيروت. ماذا تضمنت الرواية؟

في الأول من كانون الثاني/يناير 1982 كان يفترض بعرفات أن يموت. هو لم يكن الوحيد. عمليا، في ذاك اليوم في بيروت، الى هذا الحد أو ذاك كانت كل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مرشحة لان تصعد الى السماء. كان هذا في مهرجان واسع أعدته منظمة التحرير في  المدينة الرياضية الكبرى التي اتخذت لاحقا اسم كميل شمعون (الصحيح هو في الملعب البلدي في الطريق الجديدة). كان عرفات يجلس هناك في منصة الشرف والى جانبه معظم كبار رجالات المنظمة. وكانت هناك أجواء من استعراض القوة: آلاف من رجال منظمة التحرير ومؤيدوهم كانوا يصفقون بحماسة حين ينهض عرفات ويؤدي التحية بيمينه ويرفع شارة النصر بيساره. والى جانبه نائبه في العمليات، ابو جهاد (خليل الوزير)، بالبزة العسكرية جالس في صمت وتجهم. شيء واحد فقط لم يكن عرفات يعرفه في تلك اللحظة: أنه تحت مقاعده ومقاعد رجاله، زرع رُسل اسرائيل كيلوغرامات عديدة من المواد المتفجرة.

إلى جانب منصة المدينة الرياضية، كان يفترض أن تقف ثلاث مركبات متفجرة اخرى. وكانت الخطة ان تبدأ العبوات التي تحت المقاعد بالانفجار، وبعدها بدقيقة، وفي ظل الفزع الذي ينشأ وتدافع الناجين الفزعين الى الخارج، يتم تشغيل السيارات المفخخة باجهزة التحكم عن بعد، لتتفجر احدى العمليات الكبرى الدامية. وكان من المتوقع لشدة الانفجار والدمار ان تكون “ذات حجوم غير مسبوقة حتى بمقاييس لبنانية”، كما صاغ ذلك مسؤول كبير جدا في قيادة المنطقة الشمالية في ذاك الوقت. وكان الاسم السري للعملية “اولمبيا”.

توجد روايتان لهذا الاسم: العميد افرايم سنيه الذي كان مشاركا في التخطيط قال هذا الاسبوع لـ “7  ايام” (الملحق الأسبوعي لصحيفة يديعوت) انه وضع الاسم لان الانفجار كان مخططا ليكون في الملعب الاولمبي. آخرون يقولون ان العملية ولدت عندما  كان مخططوها يجلسون على طاولة جانبية في المطعم التل ابيبي الاسطوري  “اولمبيا”، الذي كان في تلك السنوات بمثابة برلمان قيادة الدولة.

مهما يكن من أمر فقد كانت في اسرائيل  قلة فقط تعرف عن هذه الخطة، معظمهم اولئك الذين جلسوا حول الطاولة في مطعم “اولمبيا” وخططوا لها. ومثل قسم غير قليل في اعمال اسرائيل في لبنان في تلك الايام المشاغبة، فان عملية التفجير في الملعب لم تجتز  كل مستويات المصادقات العادية، بل خطط لها في الظلام.

اما القلائل الذين عرفوا فانقسموا الى قسمين: بعضهم أمل في أنه كنتيجة للانفجار ستتلقى منظمة التحرير ضربة يجعل من الصعب عليها الانتعاش منها وهكذا  تمنع حرب  كبرى؛ وبعض آخر امل حتى بان ترد منظمة التحرير بوابل هائل من الكاتيوشا (من جنوب لبنان) نحو بلدات الشمال (الجليل الأعلى)، فتوفر للجيش الاسرائيلي الذريعة  لان يجتاح لبنان أخيرا. وكان كل شيء جاهزا ولم تكن هناك حاجة الا لاصدار الامر، بالضغط على الزر وكل تاريخ الشرق الاوسط كان سيتغير.

ولكن هذا لم يحصل. قبل بضع ساعات، دُعي مخططو العملية الى رئيس الوزراء (مناحيم) بيغن الذي في خطوة دراماتيكية وبينما كان على سرير الشفاء في المستشفى قرر الغاء كل شيء. والباقي معروف: بعد نصف سنة من ذلك، بدأت حرب لبنان الاولى التي لم تنته الا بعد 18 سنة وبثمن باهظ  من الخسائر.

​عدد غير قليل من الاشخاص الذين يتحدثون هنا، وبينهم رئيس الموساد الاسبق مئير داغان واللواء افيغدور يانوش بن غال، لم يعودوا على قيد الحياة. روايتهم عن الاحداث العاصفة في تلك الفترة قدموها قبل وفاتهم. وعلى اي حال، كانت معظم التفاصيل عن تلك الفترة العاصفة في لبنان والتي لا يعرف عنها الا قلة، كانت محظورة النشر. وهذا الاسبوع، لاول مرة، سمحت الرقابة العسكرية  برواية القصة شبه الكاملة عن “اولمبيا” والكشف عن احدى عمليات التصفية  المتطرفة التي خطط لها الجيش الاسرائيلي. مسألة واحدة فقط بقيت مفتوحة: كيف كانت ستكون حياتنا اليوم لو كانت كل قيادة منظمة التحرير قد شطبت ببساطة تماما في  تلك الظهيرة الشتوية في الملعب في بيروت؟

***

​زرعت بذور عملية “اولمبيا” في مأساة وقعت قبل نحو ثلاث سنوات من ذلك النهار. ففي 22 نيسان/أبريل 1979 تسللت خلية مخربين من منظمة التحرير الى نهاريا ودخلت بيت عائلة هيرن. القصة  عن  المخرب سمير القنطار ابن  الـ 16 عاما ونصف،  الذي حطم رأس الرضيعة عينات على صخرة، بعد ان قتل اباها داني؛ وعن الام سمدار التي كانت اسكتت ابنتها الثانية ياعيل، ولكن من شدة الصدمة والخوف خنقتها فماتت.

​وصل اللواء يانوش بن غال قائد المنطقة الشمالية الى الساحة بعد القبض على المخربين. رأى جثث  الضحايا وسمدار التي تصرخ رعبا بعد أن فهمت بانها فقدت كل اعزائها في الحياة، قال لي بن غال بعد عدة سنوات من ذلك “لا يمكنك ان تتخيل حجم هذه الفظاعة”.

​اشتد الغضب في اسرائيل. بعد الجنازة، أمر رئيس الاركان رفائيل ايتان (رافي) بن غال ببساطة “قتل الجميع”. وكانت الرسالة واضحة: كل رجال منظمة التحرير في  لبنان، دمهم في رقابهم.

​من أجل هذه المهمة، عرف بن غال بالضبط من يحتاج: مئير داغان، “خبير العمليات السرية” كما وصفه، والذي انتصر على الارهاب الفلسطيني في غزة في بداية ذاك العقد. حصل داغان على رتبة عقيد  وقاد وحدة جديدة تدعى “ادل” (منطقة جنوب لبنان) تشرف على منظومة  استخبارات وعمليات سرية. بعد التعيين اجتاز بن غال وداغان الحدود، وصعدا الى احدى قمم الجبال في جنوب لبنان. ومن هناك، وهما يشرفان على الجنوب، نحو اسرائيل، قال بن غال لداغان: “من  الان  فصاعدا أنت القيصر هنا. افعل ما تشاء”. سأل بن غال ما الهدف. فاجاب: “خلق  ردع. الايضاح لهم أننا لسنا دفاعيين فقط بل هجوميين. واننا نبادر الى القتال”.

​​أقام داغان قيادته السرية في داخل مرجعيون، في جنوب لبنان وكانت في حينه تحت سيطرة جيش لبنان الجنوبي. وكان دافيد اغمون، رئيس قيادة المنطقة الشمالية، واحد القلائل الذين عرفوا عن العمليات السرية لداغان. وقال ان “الهدف كان احداث الفوضى بين الفلسطينيين والسوريين في لبنان. اعطاءهم الاحساس بانهم يتعرضون كل الوقت للهجوم وادخال احساس بانعدام الامان لديهم”.

​يقول بن غال ان “رافول (إيتان) وأنا كنا نقر العمليات بالغمز. كنت اقول له يا رافول (إيتان) يجب القيام  بعملية. فيقول نعم ولكنه لا يصدر شيئا خطيا في ذلك. هذا بيني وبينك. لا اريد ان يُعرف هذا. لم نعمل وفقا للبيروقراطية العسكرية. فهذه العمليات عملناها ولم  نعملها”. كانت القوة التي استخدمها داغان بحاجة بالطبع للسلاح والمتفجرات بالاساس. وكان بن غال في ذلك الوقت يسكن في كيبوتس في الشمال يعمل في انتاج المعلبات. “يانوش (بن غال) قال انه يريد استخدام بعض الماكينات في الليل”، يروي أحد سكرتيريي الكيبوتس في تلك الفترة. “مسألة أمن دولة. وبالطبع اعطيناه المفاتيح وكل الاسناد. فهو قائد المنطقة. هو الملك بالنسبة لنا. ما لم يعرفوه في الكيبوتس هو أنه في تلك الليالي، زرعت في تلك المعلبات مواد متفجرة.

يقول بن غال: “كنا نصل الى هناك في الليل، مئير وانا وباقي الجماعة وكنا نعبىء المعلبات الصغيرة هذه ونربط المتفجرات”. هذه  المعلبات المفخخة دخلت بسرعة شديدة الى الاستخدام. “قسم كبير من الاهداف”، يقول افرايم سنيه، الذي كان في حينه ضابطا كبيرا في قيادة المنطقة الشمالية “كانت تستهدف معاونين للفلسطينيين فجرت منازلهم”.

-لماذا في واقع الامر؟

-​“كي يعرف الجميع بان من يعمل مع منظمة التحرير يتلقى الضربات”.

***

​في كل هذه العمليات، ابقيت شعبة الاستخبارات “أمان” خارج الصورة. ولكن في غضون وقت قصير اشتم رئيس شعبة الاستخبارات في حينه، اللواء يهوشع ساغي بان شيئا ما يحصل في لبنان، وسعى لان يفحص الامر. يسترجع ساغي الذاكرة فيقول: “لكن بن غال حاول حتى منعي من الدخول الى قيادة المنطقة الشمالية او زيارة المنطقة”.

​“كان صراع دائم مع قيادة المنطقة”، يقول عاموس جلبوع، الذي كان في حينه عميدا واحد كبار رجالات شعبة الاستخبارات. “فقد تجاوزونا، وعملوا من خلف ظهرنا. وكان يانوش يكذب علينا كل الوقت. لم نصدق اي تقرير لهم. والخطورة كانت في كل الموضوع هي في أن كل شيء نفذ بإذن من رئيس الاركان الذي كان يبقي هذا النشاط سرياً ويخفيه عن هيئة الاركان. لقد كانت هذه احدى الفترات الاكثر فوضى والاكثر  بشاعة في  تاريخ الدولة”.

​ساغي لم يتنازل. فقد استخدم “عيت” وهي وحدة أمن الميدان في شعبة الاستخبارات، كي  يتابع ما يحصل في جنوب لبنان في مشروع داغان. “ولكن ضابط الاتصال في قيادتي أمسك بهم يرتبطون بمركزية الاتصال عندي والقيت بهم الى السجن”، روى بن غال وضحك، كي لا  تنجح شعبة الاستخبارات في أن يعرفوا ما يفعله داغان، واقيم خط هاتف منفصل وآمن بين مكتب بن غال وبين قيادة داغان في لبنان. يتذكر افرايم سنيه بان داغان اشار الى جهاز الهاتف وشرح له بابتسامة: “هذا كي لا يتمكن يهوشع ساغي من التنصت ويكون  بوسع شعبة الاستخبارات ان يقفزوا لي. ولكن شعبة الاستخبارات ليسوا إمعات. ذات يوم اكتشف بن غال بان ساغي توجه الى بيغن وعلى لسانه شكوى عن عمل اشكالي نفذته القوة في لبنان. واستنتج بن غال من ذلك بان شعبة الاستخبارات اقتحمت ايضا الهاتف الخاص بينه وبين داغان، ومن الان فصاعدا، سيتم تخطيط العمليات فقط في لقاءات وجها لوجه. مرة في الاسبوع كان رافول (إيتان) يقول من بيته في تل عدسيم الى القيادة في الناصرة وهناك يتفق مع بن غال في شؤون حرب الظلال في لبنان.

​هل انتهى هنا كل شيء؟ تماما لا. الجنون بدأ فقط: شعبة الاستخبارات، التي حققت مع مخربين فلسطينيين وقعوا في الاسر، انتزعت منهم  ايضا معلومات عن عمليات داغان في جنوب لبنان. وعندما فهمت بان إيتان، بن غال وداغان هم في ذات الجبهة، قررت الشعبة الصعود الى المستوى السياسي، وتوجهت الى نائب وزير الدفاع مردخاي تسيبوري. روى ساغي لتسيبوري بانه تجري في جنوب لبنان عمليات عصابات منفلتة من دون اذون. وواصلت الحرب بين شعبة الاستخبارات وداغان بالاشتعال. وعندها جاءت الذروة: احد التقارير التي تلقاها تسيبوري كان عن عملية ضد رجال فتح قتل اثناءها نساء واطفال ايضا.

-​يا يانوش، على هذه العملية تلقيت إذنا؟

-​بن غال: “رافول (إيتان) لم يرفع هذا الى الاعلى (لوزير الدفاع)، لاننا خفنا اننا لن نحصل على الاذن لمثل هذا الامر”.

-​وماذا حصل هناك؟

​-“بضع سيارات اشتعلت وتفجرت. ان اقول لك انه كانت هناك نجوم  كبيرة؟! لا لم تكن. ولكن قتل بضعة نشطاء (لمنظمة التحرير الفلسطينية)”.

-​“اعتقدت ان هذا أمر رهيب”، قال تسيبوري. وطلب من بيغن أن يطرد بن غال من الجيش الاسرائيلي.

​استدعي بن غال على عجل الى مكتب وزير الدفاع في الكريا في تل أبيب. بيغن، تسيبوري، رافول (إيتان) وساغي انتظروه هناك. “انت تقوم بعمليات في لبنان بدون إذن. وفي هذه العمليات يقتل نساء واطفال”،  قال له تسيبوري.

​اجاب بن غال: “غير صحيح. قتل هناك 4 او 5 مخربين. من يسافر في لبنان في الساعة الثانية ليلا في مرسيدس؟ مخربون فقط”.

​احتج تسيبوري بشدة: يجب تنحية قائد المنطقة الشمالية، الذي ينفذ امورا دون إذن من هيئة الاركان. انا نائب وزير الدفاع ولم اعرف شيئا. انت، يا سيد بيغن، وزير الدفاع ورئيس الوزراء ولم تعرف شيئا”.

​روى بن غال بانه اشار الى رافول (إيتان) كي ينهض ويقول ان كل شيء كان بعلمه وبإذنه، ولكن رئيس الاركان، الذي فهم بانه يمكن أن يتورط هو نفسه، “لعب بساعته فقط، ادارها من جهة الى اخرى”، كما وصف بن غال.

​استوعب بيغن بحواسه الحادة بان ما يجري لديه في هذه اللحظة في مكتبه هي حرب جنرالات قد تنتهي بلجنة تحقيق، فقرر اطفاء اللهيب. فتوجه لبن غال: “يا قائد المنطقة الشمالية. أريد أن اسألك كضابط، واعطيني كلمة شرف  منك. هل تلقيت من أحد ما فوقك إذنا بالعملية؟”

​“نعم سيدي رئيس الوزراء، تلقيت إذنا”، اجاب بن غال.

​بيغن: “انا اصدق قائد المنطقة الشمالية. ضابط في الجيش الاسرائيلي لن يعطي كلمة شرف منه ويكذب. الموضوع منتهٍ”.

​الموضوع لم يكن حقا منتهٍ ولكن في شعبة الاستخبارات فهموا بان بيغن يفضل نهج “لا اعرف، لا اسمع، لا ارى”، فقرروا ترك حرب الظلال لداغان لحالها في هذه الاثناء. حاليا. ويقول العميد عاموس غلبوع انه “كانت لهم الكثير من الاعمال التي اعتبرت صغيرة، تكتيكية وبالتالي قررنا ترك الامر. قلنا لعله من الافضل الا نعرف. شيء بصيغة “فليلعب الاولاد قبلنا”.

إقرأ على موقع 180  مؤتمر الأستانة

وافق  بن غال على أن  الشكل  الذي تتصرف فيه قيادة داغان في مرجعيون كانت تذكر بقدر اكبر “بالحركة السرية وليس بالجيش المنظم”. ولكنه يشدد على أن “كان هذا مريحا لي لان الاعمال كانت في منطقة الظلام واحيانا لا حاجة لك لان تعرف. فهذا  خليط معقد من السياسة والجيش. توجد امور لا حاجة لك بان تكون فيها دودة مثل تسيبوري، يريد أن يعرف ويتقصى الحقيقة حتى نهايتها. دع الامور تتدفق من تلقاء ذاتها واعرف كيف تعطي الاسناد لداغان حتى لو فشلت الامور. صحيح، داغان كان انسانا متوحشا. ولكن من الافضل  لك أن يكون لديك حصان فتي ومشاغب يقفز عن الحواجز بل ويحطم الساق احيانا من ان يكون لديك بغل كي يقوم بخطوتين يتعين عليك أن تضربه بالسوط”.

***

في آب/أغسطس 1981، عين بيغن ارييل شارون وزيرا للدفاع. احدى الخطوات الاولى لشارون كانت توجيه تعليمات للجيش الاسرائيلي للتخطيط لعملية كبيرة في لبنان.  كم كبيرة، كم عميقة؟ لم  يكن لدى أحد حقا اي وضوح في حينه. ولكن كانت مشكلة لشارون: قبل  بضعة اشهر من تسلمه منصبه تحقق بوساطة اميركية نشطة اتفاق هدنة بين الاسرائيليين ومنظمة التحرير. شارون ورافول (إيتان) عارضا الاتفاق: فقد اعتقدا بان ممنظمة التحرير في واقع الامر حصلت على وقت لتتعاظم قوتها ويمكنها في هذه الاثناء أن تواصل العمل ضد اسرائيل في الخارج وفي المناطق. واسرائيل مقيدة.

فما الذي تبقى لشارون إذن؟ بالطبع، القوة السرية لداغان في جنوب لبنان. فقد أمر داغان بان يسرع ويصعب نشاطاته. وروى افرايم سنيه: “كان هدف المرحلة الثانية في هذه الاعمال  زرع فوضى في مناطق الفلسطينيين في صور، في صيدا وفي بيروت تكون سببا حقيقيا وملموسا لاجتياح اسرائيلي”.

من أجل التأكد من ان كل شيء يجري كما يريد شارون، بعث الى داغان بمسؤول الموساد الكبير السابق، رافي ايتان. ولاحقا يجمل ايتان تلك السنوات المضطربة بمذكرة قصيرة: “من منتصف  العام 1980  وحتى نشوب حرب سلامة الجليل في 1982 نفذنا عشرات العمليات ضد الفلسطينيين، اساسها كان ادخال مواد متفجرة الى المعسكرات،  المنشآت وسيارات الفلسطينيين في جنوب لبنان. وكل العمليات تمت بإذن رئيس الاركان، وزير الدفاع عايزر وايزمن، وبعده ارييل شارون الذي خلفه في  المنصب. عايزر ورافول (إيتان)، على حد سواء، اشارا علي في حينه الا ابلغ عن العمليات في لبنان: قبلت حكمهما، ولم ابلغ رئيس  الوزراء، ولم اطلب منه الاذونات. وابقيت واجب التبليغ للجيش الاسرائيلي ولوزير الدفاع. من اواخر 1980  وحتى أيار/مايو – حزيران/يونيو 1981 لم يعرف رئيس الوزراء وحكومته شيئا عن طبيعة الاعمال التي تمت بتوجيهنا”.

في نهاية الامر، شعر ايتان بانه ملزم بان “يبيض” هذه الاعمال مع رئيس الوزراء، واتخذ تكتيكا المعيا: اقنع بيغن بوجوب إنشاء قوة جديدة في لبنان:  فأذِن بيغن. ولم يعرف فقط بان هذه القوة باتت نشطة هناك منذ زمن بعيد. وكتب ايتان يقول: “عندها فقط، في صيف 1981، بلغت بيغن عن  العمليات التي سبق أن نفذناها، والتي كانت حتى ذلك الوقت غير معروفة وغير مأذون بها”.

أمل  شارون بان تستدرج سلسلة العمليات الجديدة هذه عرفات لمهاجمة اسرائيل التي سترد باجتياح لبنان. ويقول  سنيه “انت لا تتخيل كم كان شارون يائسا لخرق وقف النار”.

ياسر عرفات الشكاك بالفعل لم يشترِ القصة. اتهم الموساد الاسرائيلي بانه يقف خلف التفجيرات الغامضة. عرفات اخطأ. الموساد بالذات عارض بشدة اعمال بن غال وداغان. احد رجال الميدان في الموساد في تلك الفترة والذي سيصبح لاحقا مسؤولا كبيرا في الجهاز قال: “باسناد من شارون جرت امور رهيبة. انا لست نباتيا وايدت جزءا من عمليات الاغتيال التي نفذتها اسرائيل، ولكن هنا كان الحديث يدور عن قتل جماعي لغرض القتل، زرع الفوضى والفزع حتى في اوساط المدنيين”.

​من المهم التشديد على أن داغان وبن غال نفيا بشدة بان يكونا وجها في أية مرة عملياتهما ضد المدنيين. “الأهداف كانت دوما عسكرية”، يقول بن غال. اما داغان فاضاف: “استخدمنا العملاء،  أي  اللبنانيين”، لانهم متوفرون والسبيل الأفضل لضرب الهدف. انا مستعد لان اذرف دموعا كثيرة على قبر لبناني قتل بتكليف منا. المهم الا يقتل أي جندي من الجيش او مقاتل من الموساد”. ولكن رجل موساد آخر كان في لبنان في تلك الفترة يقول انه “حتى لو وضعنا شؤون الموساد جانبا، فان المصلحة الإسرائيلية تضررت بشكل شديد. وقفت على مبنى عال في اطراف بيروت ورأيت من بعيد احدى العبوات تتفجر وتخرب شارعا كاملا. لقد علمنا اللبنانيين كم ناجع استخدام العبوات الناسفة شديدة الانفجار. كل ما رأيناه بعد ذلك  لدى حزب الله ينبع مما رأوه يحصل  بعد اعمالنا. كل  تلك  الفترة  كانت خللا  جديا كبيرا”.

***

​برغم كثافة التفجيرات واشتباه عرفات بان إسرائيل هي التي تقف خلفها، حرصت منظمة التحرير على عدم خرق اتفاق وقف النار مباشرة. واعتقد شارون انه يوجد سبيل لانهاء الهدنة. المس المباشر بعرفات نفسه وبمقربيه. وعندها بدأت تحاك خطة تصفية عرفات. عملية اولمبيا ولدت.

​الصيغة الأولى لعملية التصفية لم تكن في الملعب بل في سينما. ففي كانون الأول/ديسمبر 1981 كان عرفات سيجري حفلة عشاء لكبار رجالات منظمة التحرير في دار سينما في غرب بيروت. وكانت الخطة تقضي بتفجير مركبات متفجرة بجانب جدران السينما، فينهار المبنى على نزلائه. ولكن العملية اسقطت لاعتبارات تنفيذية مختلفة.؟ وعندها بدأت التخطيطات لعملية “اولمبيا”: التصفية المركزة لقيادة منظمة التحرير في ستاد بيروت. وأشارت المعلومات الاستخبارية الى مهرجان كبير لقيادة منظمة التحرير في الأول من كانون الثاني/يناير  1982، اليوم الذي تحتفل فيه المنظمة بالذكرى الثامنة عشرة  لأول عملية  لها. كانت هذه هي الفرصة التي انتظرها شارون.

​في بطاقة نقلها رافي ايتان لافرايم سنيه في احدى الجلسات قبل العملية “اذا نجحت هذه (اولمبيا) فستقع المسؤولية علينا مباشرة”. ولم يكتب ذلك خوفا بل على أمل ان “من لا يموت من قادة منظمة التحرير في تفجير الملعب سيعرفون على الفور ما ينبغي عمله، أي ان يهاجموا إسرائيل، ان يخرقوا الهدنة وان يوفروا لشارون الذريعة لاجتياح لبنان” يقول  سنيه.

كان تسفيكا بندوري في حينه رئيس وحدة تصفية الإرهاب في الشاباك – المخابرات ونائب رئيس القسم العربي في الجهاز: “ذات يوم جاء الي رافي ايتان وقال يا تسفيكا توجد خطة. داغان يخطط لتدمير الملعب الرياضي على رأس عرفات وقيادته. فقلت له يا رافي أنتم جننتم. يأتي الى هناك نساء وأطفال أيضا. فهل تريدون ان تقتلوهم  كلهم  أيضا؟”. ولكن ايتان ادعى بانه حسب معلوماته لن يكون هناك نساء وأطفال. حتى اليوم ليس واضحا تماما كم عرف وفهم بيغن معنى اولمبيا. واي سيناريوهات عرضت عليه. شيء واحد كان مؤكدا: العملية تقدمة بسرعة.

في  ليل 20 كانون الأول/ديسمبر 1981، قبل عشرة أيام من الاحتفال، اقتحم ثلاثة عملاء شيعة الملعب. واسترقوا الخطى الى منصة الشخصيات الهامة. وخبأوا تحت المقاعد عبوات شديدة الانفجار ارتبطت فيما بينها وتضمنت أيضا جهاز تشغيل عن بعد. وفي هذه الاثناء، في إسرائيل، اعدت السيارات المفخخة ووضعت جاهزة للدخول الى لبنان. كانت هناك شاحنة محملة بطن ونصف من المواد المتفجرة، وسيارتا مرسيدس كل واحدة منهما كان فيها 250 كلغ من المتفجرات. وجهزت السيارتان بأجهزة تشغيل عن بعد.

وبشكل من الاشكال، سمع رئيس شعبة الاستخبارت ساغي وهو الحذر والمعتدل كما كان دوما، عن الخطة فغضب. هذه المرة لم تعد هذه عملية صغيرة وهامشة. سارع ساغي ليبلغ مردخاي تسيبوري الذي اصبح في حينه وزير الاتصالات واصبح احد المنتقدين الأشد لشارون في الليكود. وأضاف رئيس شعبة الاستخبارات لتقريره تحذيرا: يحتمل أن يكون على منصة الشرف عدة دبلوماسيين أجانب. وحذر من أنه اذا أصيبوا فان العالم لن يسكت. فقرر تسيبوري أن يرفع هذه المعلومة الساخنة الى قائده السابق في “الارغون” مناحيم بيغن. قال تسيبوري “مسألة الدبلوماسيين كانت خطيرة بحد ذاتها. ولكن الاخطر بكثير هو انهم ينفذون عمليات كهذه دون إذن الحكومة”.

في المساء قبل الانفجار، امر بيغن شارون بان يأتي اليه فورا. طلب شارون أن يأتي رافول (إيتان) وداغان أيضا الى الجلسة الدراماتيكية. ويستعيد داغان الذكرى فيقول “فجأة اسمع ان شارون يأمرنا بان نأتي الى رئيس الوزراء كي نعرض عليه الخطة ونتلقى الاذن النهائي بالعمل. ويعلن رافول (إيتان) بانه حفاظا على السرية، سيأتي الى قيادة المنطقة الشمالية كي يأخذني بنفسه الى بيغن في الطيارة.

​في ذلك النهار أيضا صادر ايتان لنفسه طائرة “سسنا” لسلاح الجو وطار بها مع داغان الى القدس. وكان الجو ماطرا جدا. وروى داغان مبتسما: “منذ  زمن لم اخف مثلما خفت في تلك الرحلة الجوية إياها الى القدس اذا كان ممكنا ان نسمي هذه رحلة جوية”. ولكنهما وصلا بسلام، ونقلا بالسيارة الى بيت بيغن في القدس حيث  كان بانتظارهما شارون، ساغي، ايتان ووزير الاتصالات تسيبوري. “من نظرات الجميع فهمت باننا في مشكلة جدية مع الاذن للعملية”، يتذكر داغان. كان بيغن مريضا ويستلقي في سريره. واجتمعنا جميعا بصمت حوله في الغرفة.

​طلب بيغن تفاصيل. شرح داغان بان الشيعة هم الذين ادخلوا المواد المتفجرة. “لا احتمال في أن ينجو عرفات. أيادينا غير متسخة. الشيعة هم الذين فعلوا ذلك، أمور داخلية بينهم. نحن لسنا في القصة”.

​ومن خلف نظاراته السميكة نظر بيغن الى داغان وسأله بنبرة تأكيد: “يقولون لي بانه يحتمل أن يتواجد هناك دبلوماسيون على المنصة”.

يقول داغان: “فهمت على الفور ما حصل. فهمت بان أحدا ما اطلع بيغن  على النقطة الأكثر حساسية. كي يلغي العملية. اعتقدت أنا انه يجب ان تنفذ لانها السبيل الوحيد لان نوفر علينا جميعنا، وليس فقط إسرائيل، ضحايا ودم وجهد ومقدرات كثيرة”.

-“هذا حقا غير صحيح يا رئيس الوزراء”، حاول داغان النفي، “فاحتمالات ان يكون هناك دبلوماسيون طفيفة جدا”.

توجه بيغن الى اللواء يهوشع ساغي وقال له: “يا رئيس الشعبة ماذا تقول؟”.

فقال ساغي انه يتوقع أن يكون هناك دبلوماسيون. “اذا حصل لهم شيء  فسندخل في ازمة خطيرة جدا مع العالم”.

ويقول ساغي لاحقا: “مهمتي ليست عسكرية بل وسياسية أيضا. قلت لبيغن انه لا يمكن قتل ملعب كامل. لا يهم اننا لن نتحمل المسؤولية فالكل سيعرف من خلف هذا العمل”.

حاول داغان، ايتان وشارون اقناع بيغن بان هذه فرصة ذهبية لن تتكرر ولكن بيغن تعاطى بجدية مع خطر الصدام مع دول اجنبية. وحسب ايتان قال بيغن: “اعتقد أنه يجب قتل ياسر عرفات ولكن بدون قتل أبرياء”.

وبعد ذلك قرر الغاء “اولمبيا”.

بعد بضع ساعات، جلس ياسر عرفات ورجاله على منصة الشرف في الملعب دون أن يخمنوا انه في محيطهم وتحت مقاعدهم توجد عبوات ناسفة لا يوجد إذن لتشغيلها.

في محادثاتي معه، قبل وفاته بقليل، كان داغان مقتنعا بان إلغاء “أولمبيا” كان خطأ مطلقا. قال: “في النهاية تبين أنني كنت محقا ولم يكن هناك أي سفير، ولا حتى نساء وأطفال. ولكن رئيس الوزراء يقول ان نلغي فنلغي. كانت قصة معقدة جدا ان نخرج من هناك المواد المتفجرة بعد ذلك”.

في نظر بعض المشاركين في هذه العملية، ان الإلغاء أجل نصف سنة نشوب حرب لبنان. فشارون، بزعم بعضهم بحث عن سبب ما لاجتياح لبنان وضرب الإرهاب الفلسطيني. ووجد الذريعة في شهر حزيران: كرد على محاولة اغتيال سفير اسرائيل في بريطانيا شلومو ارغوف، قصفت إسرائيل بيروت، فرد الفلسطينيون بالكاتيوشا – فدخل الجيش الإسرائيلي الى لبنان.

هل كان يمكن لعملية “اولمبيا” ان تغير كل هذا؟ حتى يوم وفاته، آمن داغان بان نعم. فقد قال: “لو اذنوا لنا واخرجت قيادة منظمة التحرير من اللعبة في ذاك اليوم، لوفرت علينا جميعنا حرب لبنان بعد نصف سنة من ذلك. وعدد آخر من المشاكل التي لا تحصى أيضا”.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  Monsieur NON أو ألبير مخيبر (9)