إنطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في مطلع العام 1988 اثر عمليات القتل المتعمد التي نفذتها أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” بحق خمسة اسرى فلسطينيين فروا من احد سجون الجيش في قطاع غزة واثر قيام سائق دبابة “إسرائيلية” بسحق سيارات تقل عمالاً فلسطينيين. ويقول الكاتب “الإسرائيلي” رونين بيرغمان ان القيادات الاستخبارية والعسكرية، كما الحكومة “الإسرائيلية”، صُدموا بحجم الغضب الشعبي الفلسطيني وطريقة التعبير عنه، فكان الرد، كما يقول بيرغمان، باستخدام الأداة التي تجيدها “إسرائيل” في مثل هذه الظروف، أي القتل المتعمد والاغتيال.
أعطى وزير الدفاع حينها اسحق رابين الامر لقيادات الجيش بان تقدم كل ما يلزم من مساعدة لاغتيال القائد الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) في مقر اقامته في تونس مستفيداً من تصريح للأخير إلى إذاعة “مونت كارلو” الفرنسية اعلن فيه انه هو من اعطى الامر بانطلاق الانتفاضة، وهذا ما ينفيه بيرغمان بشدة.
ويضيف الكاتب انه في الوقت الذي كانت اعمال الانتفاضة تتواصل وتتصاعد في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، كانت أجهزة الاستخبارات تعمل على خطين: الأول؛ الاعداد لعملية قتل أبو جهاد. الثاني؛ احباط أي محاولة تقوم بها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لحشد الدعم العالمي للانتفاضة الفلسطينية.
يزعم بيرغمان ان الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ونائبه أبو جهاد حاولا ركوب موجة الانتفاضة التي كانت تُسيّرها قيادات شابة لا علاقة لها بمنظمة التحرير الفلسطينية، لذلك وفي اطار جهود هذين القائدين لحشد الدعم الدولي، خرجا بفكرة عبقرية لتحقيق هذا الهدف، وهي اطلاق عملية “باخرة العودة” التي تتلخص بان يجتمع على الباخرة حوالي 135 من الفلسطينيين المبعدين من الأراضي المحتلة عام 1948 ويبحروا الى ميناء حيفا مع حشد من مراسلي الصحافة العالمية الذين سيوافقون على المشاركة في الرحلة ومعهم كل ما امكن من معدات التصوير لمواكبة رحلة الباخرة الى النهاية الدراماتيكية المتوقعة لها، وذلك في محاولة لتقليد رحلة الباخرة “ايكسودوس” التي نقلت بصورة غير شرعية المهاجرين اليهود الى فلسطين ابان الانتداب البريطاني عام 1947.
يتابع بيرغمان ان حركة فتح حاولت الإبقاء على خطة الباخرة سرية حتى اللحظة الأخيرة لكنها فشلت في ذلك، فقد تمكن جهاز “الموساد” من الحصول على معلومات عن الموعد الدقيق المحدد لانطلاق الرحلة من ميناء “بيرايوس” اليوناني، فقام عملاء الجهاز بتهديد أصحاب الباخرة انهم إذا سمحوا بتأجيرها للفلسطينيين، فإن السلطات “الإسرائيلية” ستمنع أياً من البواخر التي يملكونها من ان تطأ المياه “الإسرائيلية”، فقام هؤلاء بإلغاء الرحلة. لكن قيادة منظمة التحرير لجأت الى استئجار سفينة مبنية في اليابان وتعمل في قبرص وتحمل اسم “سول فراين” بمبلغ 600 ألف دولار، فعقدت الحكومة “الإسرائيلية” المصغرة اجتماعا طارئا اقرت خلاله عملية مشتركة بين الجيش و”الموساد” لاعتراض الباخرة حتى قبل انطلاقها من ميناء ليماسول القبرصي. وهنا ينقل بيرغمان عن أحد الوزراء المشاركين في الاجتماع من دون ان يسميه قوله “كان الامل هو من أن إفشال خطة الباخرة وقتل المشاركين فيها سيولد شعوراً من اليأس لدى القيادة الفلسطينية ويؤدي إلى تراجع الإهتمام الإعلامي الدولي بأعمال الانتفاضة، ما يوجه ضربة قوية للأهداف التي من اجلها تستمر الانتفاضة”.
غطس عناصر من الكوماندوس البحري “الإسرائيلي” تحت الباخرة “سول فراين” وألصقوا على بدنها لغما بحريا صغيرا أدى انفجاره الى فتح كوة كبيرة في أحد جوانبها ما أدى الى غرقها، وهكذا فان رحلة “باخرة العودة” التي اريد لها ان تكون “ايكسودوس” الفلسطينية انتهت قبل ان تبدأ
وهكذا في صبيحة 15 فبراير/شباط عام 1988 وبينما كان ثلاثة من نشطاء منظمة التحرير الفلسطينية ممن أرسلهم أبو جهاد الى قبرص لتنظيم رحلة “باخرة العودة” يهمون بركوب سيارتهم ليس بعيدا عن الفندق الذي كانوا يقيمون فيه، كان “روفر” رئيس وحدة “الحربة” للاغتيال في “الموساد” وزميل له اسمه “ايلي” يجلسان في سيارة أخرى يراقبان منها النشطاء الثلاثة لساعات طويلة ملؤها التوتر وقد كادا خلالها ان ينكشفا أمام الشرطة القبرصية ولكن ما ان ركب الفلسطينيون الثلاثة سيارتهم واداروا محركها حتى ضغط “ايلي” على زر جهاز التحكم عن بعد مفجراً عبوة أخرى من العبوات التي اعتاد ان يزرعها لقتل نشطاء فلسطينيين.. فقتل الثلاثة على الفور. وبعد ذلك بثماني عشرة ساعة، غطس عناصر من الكوماندوس البحري “الإسرائيلي” تحت الباخرة “سول فراين” وألصقوا على بدنها لغما بحريا صغيرا أدى انفجاره الى فتح كوة كبيرة في أحد جوانبها ما أدى الى غرقها، وهكذا فان رحلة “باخرة العودة” التي اريد لها ان تكون “ايكسودوس” الفلسطينية انتهت قبل ان تبدأ.
يتابع بيرغمان، في 14 مارس/اذار من العام نفسه، بعد شهر كامل على افشال رحلة “باخرة العودة”، اجتمعت الحكومة الإسرائيلية المصغرة برئاسة اسحق شامير مرة ثانية لمناقشة كيفية اغتيال أبو جهاد على الرغم من كل الموافقات المسبقة التي أعطاها أسلاف شامير من ليفي اشكول الى جولدا مائير واسحق رابين، فهذه الموافقة لا تعود صالحة مع مرور الوقت حتى وان كانت صادرة عن رئيس الحكومة الحالي الذي كان هو نفسه من اعطى موافقة في السابق لان الظروف السياسية الراهنة قد تكون غير الظروف السياسية السابقة، لذلك عشية التنفيذ كانت أجهزة الاستخبارات تحتاج مجددا الى الضوء الأخضر اذ ربما يكون رئيس الحكومة قد غير رأيه.
خلال جلسة الحكومة المصغرة، “لو كان الامر عائدا لرئيس الحكومة اسحق شامير وحده لما كان تردد بإعطاء الامر بتنفيذ عملية الاغتيال”، بحسب ما ينقل بيرغمان عن “نيفو” المساعد العسكري لرئيس الحكومة، ولكن بما ان شامير كان يعرف بان أبو جهاد لم يكن هدفا عاديا وان ردود الأفعال على قتله لن تكون عادية أيضاً، فقد قرر ان لا يتخذ قرار الاغتيال بصورة منفردة، وإستدعى الحكومة الأمنية المصغرة للإنعقاد للموافقة على القرار. في الحكومة المصغرة كان هناك عشرة وزراء، خمسة لحزب الليكود اليميني الذي يقوده شامير وخمسة لحزب العمل اليساري الذي يقوده شيمون بيريز (وزير الخارجية حينها في الحكومة الإئتلافية). وقد اعلن بيريز في الاجتماع انه يرفض عملية اغتيال أبو جهاد قائلا “بحسب معلوماتي فان أبو جهاد كان معتدلا وليس من الحكمة قتله”، اما وزراء حزب العمل الأربعة وبينهم اسحق رابين الذي سبق له ان وافق في مراحل سابقة على قتل أبو جهاد فقد اعربوا عن مخاوفهم من الإدانة الدولية الواسعة لإسرائيل رداً على قتل أبو جهاد كما اعربوا عن قلقهم على الجنود الذين سينفذون العملية كونها تتم على ارض بعيدة جدا عن “إسرائيل” (أي في تونس) لذلك فقد قرروا ان ينضموا الى بيريز برفض الموافقة على العملية، ولكن شامير ووزراء الليكود الأربعة الاخرين صوتوا لمصلحة تنفيذ العملية. ونظراً للتساوي في الأصوات فان العملية لم تحصل على الموافقة أي انها لن تحصل.
لكن لم تنته القصة هنا فقد تولى وزير المالية حينها موشيه نيسيم من حزب الليكود محاولة اقناع رابين بتغيير رايه، فطلب منه ان يلاقيه خارج غرفة الاجتماعات، وقال له “انظر ماذا تفعل الانتفاضة بنا؟ المزاج العام يائس. الجيش الإسرائيلي كان في الماضي ينفذ اعمالا هائلة بفكر خلاق، ولكن ذلك لم يحصل منذ زمن بعيد، علينا ان نجدد إحساس العالم بنا والاهم ان نجدد إحساس مواطنينا ان الجيش الإسرائيلي لا يزال الجيش نفسه الذي قام بأعمال رائعة في السنوات الماضية، يجب ان ننفذ المهمة من اجل المعنويات الوطنية”.
يتابع بيرغمان أن السياسة والمعنويات الوطنية المتدهورة كانت تتطلب دماء وقتل أبو جهاد كما شرح موشيه نيسيم، أي أنه كان عملا أكثر رمزية منه عملية فعلية. عندها اقتنع رابين وعاد الى غرفة اجتماع الحكومة المصغرة مع نيسيم وأعلن انه غير تصويته ليصبح داعما لعملية الاغتيال وباتت نتيجة التصويت ستة أصوات لصالح تنفيذ العملية ضد أربعة معارضين لها وهكذا اعطي الضوء الأخضر لـ”عملية الدرس التمهيدي”. لاحقاً، أعرب نيسيم، وهو ابن كبير حاخامات إسرائيل، عن عدم ندمه لإقناع رابين بالعملية تيمناً بالمحتوى التلمودي الذي يقول “إذا اتى رجل ليقتلك إنهض واقتله أولا“. (عنوان كتاب رونين بيرغمان مستوحى من هذه العبارة).
سأل باراك: “ومن يعش هنا”؟ مشيرا الى منزل على مقربة من منزل أبو جهاد، فأجابه احد عملاء “الموساد”: “أبو مازن”، فقال باراك “انهما متقاربين، لماذا لا نزوره هو أيضا مع كل هذا الجيش المدجج الذاهب الى تونس؟ لما لا نصطاد عصفورين بحجر واحد”. فقاطعه احد ضباط “الموساد” قائلا “ايهود انسى الموضوع لأنه سيُعقّد العملية اكثر مما هي معقدة حالياً”
يضيف بيرغمان، كان منزل أبو جهاد في تونس هو المكان الأمثل لقتله بحسب قناعة عملاء أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية”، فقد كان يقع عند أجمل زاوية لمجمع منازل خاصة وفاخرة يتم الوصول اليها عبر طرقات واسعة ونظيفة وعلى بعد كيلومترات قليلة من الشاطئ، مما يعطي فريق الاغتيال إمكانية الوصول اليه بسهولة. وإذا ما تم تجاوز دوريات الشرطة التونسية، وهو امر بسيط للغاية، فان منزل أبو جهاد يحميه حارسان فقط. وينقل بيرغمان عن ناعوم ليف نائب قائد وحدة “سريات ميتكال” للاغتيال قوله “لقد كان المنزل في منطقة معزولة نسبيا وبحراسة خفيفة، أضف الى ذلك فان أبو جهاد كان عادة يعود الى المنزل كل ليلة عندما يكون في تونس، لقد كان الموقع هو الأمثل لتنفيذ كمين محكم ولم يتوارد الى ذهن أبو جهاد ان أحدا يستطيع الوصول اليه هناك، فعملاء الموساد نفذوا عمليات في بيروت او سوريا او أوروبا، ولكنهم لم ينفذوا ابدا عمليات في تونس لذلك فقد كان أبو جهاد يعتبر نفسه نسبيا في مكان امن”. اما الاستخبارات “الإسرائيلية” فقد اعتبرت ان قتل أبو جهاد في منزله سيكون بمثابة رسالة التهديد الأمثل للفلسطينيين، “فلا أحد منكم بأمان حتى في غرفة نومه”.
ويواصل بيرغمان سرده لعملية اغتيال أبو جهاد قائلاً إن وحدة “قيساريا” عملت على مدى السنوات الماضية على تعديل خطط اغتيال أبو جهاد عدة مرات، فقد تنكر هذه المرة عملاء الوحدة على شكل رجال اعمال عرب واستطلعوا الطرقات المؤدية الى منزل أبو جهاد من جهة الشاطئ ورسموا خرائط تفصيلية للحي الذي يقطنه فيما تولى عملاء “الموساد” و”امان” من الوحدتين 504 و 8200 متابعة تحركات أبو جهاد واسفاره وسجلوا ملاحظات حول كل عاداته في شراء تذاكر السفر على عدة رحلات في الوقت نفسه كي يجعل من الصعب على من يتتبعه ان يعرف على أي رحلة سيكون، كما اخضعوا هواتف بيته ومكتبه للمراقبة المتواصلة وهنا ينقل بيرغمان عن اوديد راز، احد ضباط قسم الأبحاث لدى جهاز “امان” والمتخصص بالإرهاب قوله “بملاحقة أبو جهاد وصلت الى معرفة الرجل الذي نطارده لنقتله وبت احترمه، صحيح انه كان إرهابيا ولكنه أيضا كان نموذجا لرجل العائلة والقائد الأصيل الذي يحمل في عقله كل ما هو جيد لامته”. ومع ذلك كانت قيادة الاستخبارات تريد قتله لان ما هو جيد للامة الفلسطينية، بحسب تفكيرهم، كان يمثل تهديدا مباشرا لمصالح بلدهم، كما يرونها، فابو جهاد كان بلا أي نقاش الرجل الذي يقف خلف عمليات قتل المئات من اليهود!
يتابع بيرغمان القول ان وزير الدفاع رابين كان رجلا عسكريا دقيقا للغاية، وكان كثيرا ما يهتم بأدق التفاصيل المتعلقة بطرق الانسحاب والأمان للجنود الذين سينفذون العملية وليس اقل أهمية انه أراد ان يعرف ماذا سيحصل “اذا ما اصبحنا في تونس مع هذا الجيش الصغير والترسانة التي بحوزته ودخلنا منزل المريض ولم نجده هناك ابدا؟” فشرح له عملاء “الموساد” خططهم بانهم لن يتحركوا نحو منزل أبو جهاد الا بعد تلقي الإشارة انه داخله، فاقتنع رابين وما زاد بقناعته ان الأراضي المحتلة كانت في حالة فوضى عارمة وأبو جهاد كان يزعم، عن حق او عن كذب، بانه وراء هذه الانتفاضة لذلك فقد أعطى الامر النهائي لتنفيذ “عملية الدرس التمهيدي”.
كان حينها ايهود باراك نائب رئيس الأركان في الجيش “الإسرائيلي” والضابط المشرف على تنفيذ العملية، وقبل وقت قصير من الموعد المحدد للتنفيذ قاد باراك اجتماعا تخطيطيا في مقر قيادة الأركان في تل ابيب. خلال الاجتماع، اظهر ضباط جهاز “امان” نموذجا مصغرا وتفصيليا للحي الذي يقع فيه منزل أبو جهاد، فأشار باراك الى المنزل الواقع عبر الطريق مقابل منزل أبو جهاد، وسأل “من يعيش هنا” فأجابه احد ضباط “امان”: “أبو الهول مسؤول الامن الداخلي في منظمة التحرير الفلسطينية”، وسأل باراك: “ومن يعش هنا”؟ مشيرا الى منزل على مقربة من منزل أبو جهاد، فأجابه احد عملاء “الموساد”: “أبو مازن، محمود عباس”، فقال باراك “انهما متقاربين، لماذا لا نزوره هو أيضا مع كل هذا الجيش المدجج الذاهب الى تونس؟ لما لا نصطاد عصفورين بحجر واحد”. فقاطعه احد ضباط “الموساد” قائلا “ايهود انسى الموضوع لأنه سيُعقّد العملية اكثر مما هي معقدة حالياً”، فدار نقاش قصير حول الموضوع اصر خلاله باراك على استخدام الفرصة لقتل هدفين لان من شان هكذا ضربة توجيه رسالة قوية تزعزع معنويات منظمة التحرير الفلسطينية وسيكون لها التأثير الذي تبتغيه إسرائيل على الانتفاضة، لكن ممثلي “الموساد” و”امان” رفضوا بشكل قاطع الامر وقالوا “لا نستطيع ان نضمن ان يكون الهدفان في الوقت نفسه في منازلهما، وانت الآمر في هذه المهمة ولكننا ننصح بقتل أبو جهاد وحده وهذا سيكون كافياً ان اعطيناه ما يستحق”. فاستسلم باراك في النهاية وانقذت حياة محمود عباس الذي ورث عرفات في قيادة السلطة الفلسطينية والذي وصفه باراك وقادة اخرون لاحقاً بانه الشريك الصلب في جهود السلام.
وينقل بيرغمان عن باراك قوله بشأن هذا الموضوع “من الصعب الحكم على الأمور بمفعول رجعي، في الوقت الذي كانت تتم فيه العملية، ومن وجهة نظر عملياتية بحتة، كان الامر مغرياً ولكن من جهة أخرى فان ضربة على هذا المستوى ضد قادتهم.. ستبرر هجمات من قبلهم ضد قادتنا”.