إنتخابات 2020 دليل على نجاح ديمقراطية أمريكا

لا يتوقف الكثير من المعلقين على الادعاء أن تجربة الانتخابات الرئاسية لهذا العام قد أصابت مصداقية الديمقراطية الأمريكية بكثير من الضرر على المستوى الداخلي وعلى صورة ومكانة الولايات المتحدة حول العالم.
أرى أن ما يشهده العالم ما هو إلا دليل واضح على صمود ديمقراطية أمريكا ونجاحها فى وجه أكثر السيناريوهات تطرفا وهى رفض رئيس حالى نتائج الانتخابات التى تجعل منه رئيسا سابقا، وسألخص هنا من خلال نقاط ست ما أراه دليلا على ذلك.

***

أولاً، رئيس لا يملك إلا صلاحيات محددة. تحدث ترامب قبل أشهر عن رغبته فى تأجيل الانتخابات برمتها، وثم بادر وشكك فى مشروعية إجرائها خلال جائحة كورونا حيث تم التوسع فى التصويت عن طريق البريد. ودفع ترامب بتعيين قاضية محافظة فى المحكمة العليا اعتقادا منه أنها قد تحسم خلافات الانتخابات التى خطط لها مبكرا. وأكد ترامب أنه فاز بالانتخابات، وأكد أنه تم تزوير الانتخابات. لكن ليس لما يقوله ترامب أو يؤمن به أى قيمة دستورية وقانونية على الرغم من استمراره كرئيس حتى يوم 20 كانون الثاني/يناير المقبل يتمتع خلالها بكامل صلاحيات وسلطات الرئيس.
من جهة أخرى يعد منصب الرئيس منصبا مؤقتا ينتهى للرئيس ترامب فى تمام الساعة 12:01 ظهر يوم 20 كانون الثاني/يناير القادم، ولا يمكن دستوريا أن يبقى ترامب أى دقيقة رئيسا بعد ذلك الوقت. ولا لترامب أن يصدر «أمرا تنفيذيا رئاسيا» (Executive Order) يلغى به انتخابات 2020 أو يعيد إجراءها.
وسيؤدى جو بايدن القسم الرئاسى فى 20 كانون الثاني/يناير فى تمام الساعة 12 ظهرا أمام رئيس المحكمة العليا القاضى جون روبرتس، ويصبح ترامب رئيسا سابقا، ولا يعد تواجد ترامب فى المراسم ملزما له أو مكملا لتنصيب بايدن، وما هو إلا عرف سياسى، ويمكن للرئيس ترامب التغيب من دون أن يؤثر ذلك على أى شىء.
ثانياً، محاكم مستقلة سياسيا. هناك بعض الجدل حول تسييس القضاء الأمريكى، إلا أنه يمكن تفهم هذا الطرح فيما يتعلق بقضايا اجتماعية يلعب فيها دور أو معتقدات القضاة دورا ما، كما الحال فى قضايا الإجهاض أو زواج المثليين، إلا أن الأمر يختلف تماما فى حالة القضايا السياسية خاصة ما يتعلق بالانتخابات. وتحاول المحاكم، خاصة المحكمة العليا، النأي بنفسها عن قضايا الانتخابات التى تراها شأنا سياسيا بحتا يخضع لرغبات الناخبين. وعين ترامب أكبر عدد من القضاة الفدراليين فى التاريخ الحديث، وعين كذلك ثلاثة قضاة بالمحكمة العليا، لكن ومع ذلك يقف القضاء رافضا لكل ضغوطه وجهوده لتغيير نتائج الانتخابات عن طريق المحاكم، وأصبح الفشل عنوانا ضخما لمحاولات ترامب تسييس القضاء لصالحه.

يمكن للرئيس ترامب أن يشن هجوما نوويا على روسيا أو الصين أو أى دولة أخرى، لكن لا يستطيع إدخال أى تعديل على الدستور يُمنح من خلاله صلاحيات أوسع أو مهام أكبر

ثالثاً، دستور لا يعبث به أحد. منح الدستور الأمريكى، الذى جاء مختصرا فى سبع مواد وأدخل عليه 27 تعديلا، الرئيس صلاحيات واسعة منها أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويمكن للرئيس ترامب أن يشن هجوما نوويا على روسيا أو الصين أو أى دولة أخرى، لكن لا يستطيع إدخال أى تعديل على الدستور يُمنح من خلاله صلاحيات أوسع أو مهام أكبر. يقف الرئيس عاجزا أمام نصوص دستورية مقدسة لا يجرؤ على طلب تعديلها من حزبه رغم سيطرته الكاملة عليه فى لحظة استثنائية من التاريخ الأمريكى. وحظر الدستور على الرئيس تماما اقتراح أى قوانين أو إجراءات تتعلق بانتخابات الرئاسة أو صلاحيات الرئيس.
وكان الدستور واضحا من خلال التعديل (20)، إذ نص على أنه «تنتهى فترة ولاية الرئيس ونائب الرئيس ظهرا فى يوم 20 كانون الثاني/يناير حتى لو لم تجر انتخابات لظروف قاهرة».
رابعاً، صمود نظام «المجمع الانتخابى» برغم بعض السلبيات كل 4 سنوات. تتكرر الدعوات المطالبة بضرورة إنهاء العمل بنظام المجمع الانتخابى (الهيئة الانتخابية المكونة من 538 عضوا، ويتطلب الفوز الحصول على 270 صوتا بحد أدنى) كطريقة فريدة لاختيار الرئيس الأمريكى الجديد، ولا تتبع أى دولة أخرى فى العالم مثل هذا النظام، وتتضاعف تلك الدعوات عقب أى انتخابات يحصل فيها المرشح الفائز بالرئاسة على أقلية «الأصوات الشعبية».
وخلال تاريخ الولايات المتحدة فاز 5 رؤساء بالرئاسة على الرغم من عدم حصولهم على أغلبية الأصوات الشعبية؛ إلا أنهم فازوا بأغلبية أصوات المجمع الانتخابى.
ومع ذلك يُنظر إلى نظام المجمع الانتخابى على أنه جزء حاسم من الضوابط والتوازنات الأساسية للنظام السياسى الأمريكى، ولا يمكن التخلى عنه لأسباب منها أنه السبب فى قوة الفيدرالية الأمريكية، وهو جزء لا يتجزأ من الفلسفة التى تأسست عليها الدولة الأمريكية من توزيع السلطات بين حكومات الولايات والحكومة المركزية. وليس للحكومة المركزية ولا الرئيس أى سلطة على الانتخابات التى تجريها باستقلال تام كل ولاية على حدة. ويحفظ هذا النظام مصالح الولايات الكبيرة والصغيرة فى الوقت ذاته، وعلى الرغم من مئات المحاولات فى الكونجرس لتغيير هذا النظام، صمد هذا النظام الفريد الذى يتجنب سلبيات وقصور آلية التصويت الشعبى.

مع أسوأ السيناريوهات الممكن تخيلها فى رفض رئيس نتائج الانتخابات، نرى أنه لا يملك من أمره شيئا أمام سيادة القانون وقدسية الدستور واحترام رغبات الناخبين

خامساً، رفض رأى الناخبين ليس بديلا أمام الرئيس. لا يملك الرئيس ترامب أى خيارات إلا القبول الفعلى بالنتائج التى أكدت فوز بايدن بالرئاسة. قد يستمر ترامب فى رفضه لأسباب تتعلق به كشخصية مختلفة، لكن لا قيمة لذلك الرفض. وبعيدا عن موقف ترامب ستصدق الولايات على نتائج الانتخابات قبل الثامن من ديسمبر القادم، حين يتم قضاء مهلة الطعن القضائى فى نتائج الانتخابات، ثم يدلو أعضاء المجمع الانتخابى فى ولاياتهم بأصواتهم لانتخاب الرئيس ونائب الرئيس فى 14 ديسمبر القادم، ويعتمد الكونجرس هذه النتائج وينصب بايدن رئيسا جديدا فى العشرين من يناير.
سادساً، صورة أمريكا فى الخارج. تبارى المعلقون للتأكيد على أن صورة أمريكا اهتزت حول العالم. لكن أرى وعلى النقيض، أن ما شهدته وتشهده أمريكا ومعها العالم يمثل درسا ديمقراطيا فريدا. فمع أسوأ السيناريوهات الممكن تخيلها فى رفض رئيس نتائج الانتخابات، نرى أنه لا يملك من أمره شيئا أمام سيادة القانون وقدسية الدستور واحترام رغبات الناخبين.

إقرأ على موقع 180  تروما الكابيتول.. تروما ترامب!

***

وصلتنى رسائل من الكثير من مختلف بقاع العالم العربى خلال أيام عد وفرز الأصوات تتساءل فى جدية: «بنسلفانيا رايحة على فين» و«إيه مصير ولاية أريزونا».. لقد قدم ترامب خدمة جليلة لأمريكا وصورتها الديمقراطية حول العالم على عكس ما يعتقد الخبراء المحليين.

(*) نقلاً عن “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": قنبلة نووية حريدية.. على الطريق