“تقنية النانو”، “النانوتكنولوجي”، “اختراع”، “شهادة عالمية”، “براءة اختراع”، “فرنسا.. بريطانيا، ايطاليا..” تكفي هذه الكلمات او المصطلحات ليجعل الاعلام اللبناني من اية شخصية علمية نجماً، ليفرد مساحات في برامجه أو صحفه لتسليط الضوء على “هذا التميّز اللبناني”، و”الابداع اللبناني الذي يتخطى البحار والمحيطات والكواكب”، من دون اثارة اي نقاش علمي دقيق ومهني، ومن دون ان يطرح تساؤلات حول ماهية “الاختراع” ومعاييره، مصداقيته، تحدياته، ومحدوديته.
يكفي ان يقول احدهم انه “اكتشف الذرة”، ليتناقل بعض الصحافيين والاعلاميين في لبنان صور الباحث وهو يرتدي زيه المخبري، مذيلة بتعابير “ملبننة” كـ”التميّز اللبناني”، “السبّاق”، “بشرى سارة”، “الحل السحري”، “الاكتشاف الاوّل”.. (مع الاشارة الى اننا ربّما مهووسون بالتصنيف “الأول”. نحن اللبنانيون “اول” في كلّ شيء، وحتى ان جميع التلامذة في المدارس والجامعات هم “أوّل”) من دون اثارة التساؤلات والشكوك حول دقة هذه المعلومات العلمية ومدى نجاعتها، ومدى فعالية تطبيقها، ومن دون اللجوء الى آراء الخبراء العلميّين المتخصصين الذين ربّما سينتقدون، أو ينقضون هذه “الانجازات” التي تحمل الكثير من النقاشات والتساؤلات. فالعلوم، وعلى عكس ما يظن الكثيرون، هو نقاش والنقاش لا يكون مع الذات بل مع الآخر.
غير ان المشهد الاعلامي في لبنان، وهو يتناقل خبرا عن بحث علمي، أو عن نتائج بحثية علمية، يظهر الكثير من الاشارات حول تعاطي الاعلام مع المادة العلمية. فان كان الصحافيون والاعلاميون، وعلى ما يبدو، يرغبون ويحبّون تسليط الضوء على هذا النوع من الأخبار، خصوصا انها تحاكي اليوم همّ الناس وقلقهم من الفيروس وانتشاره، غير انهم ما زالوا يعالجون هذه المادة وفق مبدأ “الانجاز اللبناني”، “التميّز اللبناني”، “الابداع اللبناني”، “الفرادة اللبنانية”، من دون ان يمتلك الاعلام اللبناني القدرة على مناقشة هذه الطروحات ومساءلتها، والتنبّه الى ان ليس جميع من يقول انه “اكتشف الذرة”، قد “اكتشفها حقّا”، وان العلوم أصلا هي ليست “اكتشاف الذرة” بل عبارة عن تراكم معرفي دقيق، ومشاركة علمية يتشارك فيها الباحثون من مختلف العالم بانتاج معرفي صغير، يتراكم، يتفاعل، ينتقض، يثير الجدل، يقبل أو يرفض، في مسار طويل ومتعرج ومعقد وفيه الكثير من الطلعات والنزلات.
العلوم ليست “حلّا سحريّا” أو “بشرى سارّة” وليس الباحث/ة نجما استعراضيا يمتلك مفاتيح المعرفة، ويعرف المصطلحات المعقّدة ويحاول تلقينها للأفراد “الذين لا يعرفون شيئا”، بل ان الافراد هم شركاء في الانتاج المعرفي
من الجميل ان يهتم الاعلام اللبناني بمسائل علمية، بدل التركيز على الجدل السياسي والاقتصادي فحسب، ومن المرّحب أن يتناقل الاعلاميون والصحافيون أخبارا عن حيثيات علمية في جميع المجالات، من دون حصرها بوباء كورونا، وان تطالعنا على الشاشات وجوه باحثين وباحثات في مجالات علمية لم يكن يعرفها المتلقي من قبل، ولم يكن يدرك أهميتها واثرها على حياته وحياة الآخرين من حوله. غير انه من الأجمل، ان يشترك الأفرقاء في اثارة نقاشات علمية جادة ودقيقة وجميلة في الاعلام اللبناني. فبدل أن يبقى الخبر العلمي محصورا بصورة “انجاز لبناني يتحدّى الصعوبات” أو “اكتشاف لبناني عالمي”، فمن المهم أن تصبح المادة العلمية في الاعلام اللبناني نقاشا يرتكز على آراء ومفاهيم، وعلى رؤية متخصصين وخبراء، من دون تعميم مبالغ فيه، ومن دون جزمية الغائية أشبه ما تكون بأحكام الإعدام.
تحتاج نقلة من هذا النوع الى تعاون مشترك بين الصحافيين والاعلاميين الذين يرغبون في معالجة المسائل العلمية، وبين الباحثين والخبراء الذين يرغبون في مشاركة نتاجهم البحثي ورؤيتهم العلمية مع الأفراد، الذين وعلى عكس ما يظن الكثيرون، يهتمون ويرغبون في الاطلاع على معرفة علمية، وعلى دراسات تلامس أكلهم وشربهم وصحتهم وبيئتهم. الفضاء، الهواء، المياه. الحشرية المعرفية. الرغبة في المعرفة بعيدا عن خطابات سياسية مملّة، وأخبار لم تعد تعني لأكثريتهم شيئاً.
يحق للأفراد في هذا المجتمع معرفة ما يدور في مختبرات هذه البلاد، وان يتعرّفوا إلى باحثين وباحثات هم أفراد هذا المجتمع، وينتمون إليه، ويحقّ لهم ان يجدوا في العلوم، ربّما، خلاصا ومتعة في ظل ما يعانون من أزمات في جميع الميادين، غير انه يحقّ لهم أيضا ان يعرفوا أن العلوم ليست “حلّا سحريّا” أو “بشرى سارّة” وليس الباحث/ة نجما استعراضيا يمتلك مفاتيح المعرفة، ويعرف المصطلحات المعقّدة ويحاول تلقينها للأفراد “الذين لا يعرفون شيئا”، بل ان الافراد هم شركاء في الانتاج المعرفي، وفي توطيد العلاقة بين العلوم والباحثين والمجتمع.