في هذا السياق، لا بأس من التذكير بأن التركيبة السياسية الحسّاسة بين طوائف لبنان، تشكّلت عبر معادلة عربيّة ودولية محدّدة، وأخذت شكل اتفاقٍ داخلي؛ بل إنّه في كل مرّة كانت المعادلة الخارجيّة تتبدّل، كان لبنان يواجه أزمة بحجم التغيير الداخلي المطلوب أن يَحْدُث ليتكيّف مع محيطه العربي والإقليمي.
وهكذا عندما تراجع النفوذ الفرنسي الذي أَخرج صيغة 1943 بفصلِ لبنان عن سوريا، وأخذ النفوذ البريطاني يتعاظم في المنطقة من خلال حلف الشرق الأوسط ثمَّ حلف بغداد في مطلع خمسينيات القرن الماضي، حدثت أزمة كبيرة أطاحت حُكم الشيخ بشارة الخوري ودفعت بكميل شمعون إلى سدّة الرئاسة. وما أن بدأت معادلة النفوذ البريطاني تتراجع لمصلحة المدّ القومي العربي (التيار الناصريّ) والنفوذ الأميركي، حتّى واجه لبنان حرباً أهليّة عام 1958 أودت بكميل شمعون وجاءت بالشهابيّة التي عكست معادلة التوازن في المنطقة في أواخر خمسينيات القرن الماضي، خصوصاً بين مِصر الناصريّة والولايات المتحدة الأميركية. لكنّ المعادلة المذكورة ما لبثت أن اهتزّت مرّة أخرى عقب حرب 1967 فانهارت الشهابيّة لمصلحة الحلف الثلاثي وظهرت مُعادلة لبنانية جديدة راحت تتبلور على أساس المعادلة العربيّة ـ الدوليّة الجديدة، وهي التي سمحت بتموضع منظمة التحرير الفلسطينيّة في لبنان وتوقيع “اتفاقية القاهرة” (1969).
إذا أراد روّاد التغيير، النجاح في مهمّتهم، عليهم أوّلاً تركيز الجهد على خريطة طريق تقود إلى إعادة هيكلة نظام السلطة ضمن السياق الأوسع للديناميّة الإقليمية
من الحرب إلى الطائف
في المقابل، شهد لبنان في مطلع سبعينيات القرن الماضي تعاظم النفوذ الأميركي من جهة، والدور الخليجي – العراقي من جهة أخرى وذلك على حساب مِصر وسوريا. ولكن ما أن اندلعت “حرب تشرين” (1973) وحقّقت بعض الإنجاز حتّى تعزّز موقع مِصر وسوريا وحركه “فتح” بزعامة ياسر عرفات، كما أنّ الاتحاد السوفياتي راح يضغط لتعزيز نفوذه في المشرق العربي بعدما تقلّص موقعه في مِصر، وهو الأمر الذي أدخل لبنان في حرب داخليّة طويلة. وكان من أسباب طول أمد هذه الحرب، أنّ التوازن الرجراج في المعادلة الإقليميّة والدوليّة من نيسان/أبريل 1975 إلى اتفاق الطائف 1989، ما كان ليسمح ببناء هيكليّة جديدة للدولة اللبنانيّة، بل كان يدفع باتجاه استمرار النزاعات الداخليّة في لبنان استناداً إلى توازنات عربيّة ودوليّة تتيح لكلّ طرف رئيسيّ أن يخرّب أيّ اتفاق، وإلى عجز الأطراف الرئيسيّين أو بعضهم عن فرض معادلة جديدة للدولة.
لم يمضِ وقت طويل حتى راحت هذه الصورة تتغيّر مع التوصل إلى اتفاق الطائف 1989، ثمّ اندلاع حرب الخليج الثانية 1990 – 1991. وبعد ذلك نشوء ظروف سمحت بإنهاء الحرب الأهلية في لبنان استناداً إلى معادلة جديدة للإستقرار، برعاية سورية، ما لبثت أن تعرّضت للاهتزاز مرّة أخرى بفعل اضطراب التوازنات الإقليميّة في سياق الاجتياح الأميركي للعراق 2003 وانسحاب الجيش السوريّ من لبنان عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 وتموضع إيران في النظام الإقليمي العربي وفرض نفسها قوّة وازنة في كل من لبنان وسوريا والعراق.
لبنان.. وتقاطع الديناميات الخارجية
عند النظر في الأزمات المتزاحمة على خريطة الصراع والتنافس في الشرق الأوسط، يبرز الموقع المحوري للبنان في هذه المنظومة الإقليميّة التي تشمل سوريا وفلسطين ومصر والعراق وتركيا وإيران والسعوديّة؛ لبنان ليس جزءاً من هذه المنظومة فحسب، بل يتقاطع على أرضه تشكيلان نزاعيان رئيسيان في المنطقة وهما النزاع العربي – الإسرائيلي والنزاع الإيراني – الغربي، فإذا بهما يفرضان دينامياتهما على المنظومة السياسية اللبنانيّة. ولذلك فإن التخطيط العقلاني والممارسة السياسيّة في لبنان، عمليّة شديدة التعقيد لارتباطها بالتوازنات والتناقضات العربيّة والإقليمية، ما يعني أن الأقطاب العرب والإقليميين لهم أدوار معيّنة في هذه العمليّة يجب أن تؤخذ في الاعتبار.
كذلك إن علاقة الترابط التاريخي بين لبنان وسوريا، والتي تُوصف بأنها عضوية نظراً إلى عوامل التكامل الجيوسياسي بين الكيانَين، تجعل من الصعب التصوّر أن أيّ تحوّل عميق أو جذري في أيّ من البلدين، ممكن الحدوث من دون أن تكون له تداعياته على البلد الآخر. وإنّ هذا العامل التفاعلي كفيل بأن يشرح مدى تأثير الأزمة السوريّة، أقلّه في جانبها المتعلّق بالنزوح السكاني وزوال الحدود الدوليّة، على الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة في لبنان.
لبنان ليس جزءاً من هذه المنظومة الإقليمية فحسب، بل يتقاطع على أرضه تشكيلان نزاعيان رئيسيان في المنطقة وهما النزاع العربي ـ الإسرائيلي والنزاع الإيراني ـ الغربي، فإذا بهما يفرضان دينامياتهما على المنظومة السياسية اللبنانيّة
وحتى الآن بلغ العدد التقديري للنازحين السوريين إلى لبنان نحو مليوني نسمة، وهو رقم مُذهل إذا أدخلنا في الحساب أن تعداد السكان اللبنانيين أنفسهم يُقدّر بنحو 4.5 مليون نسمة. وقد أدّى هذا الاختلال في الموازنة الديموغرافية – في ظلّ أزمة شاملة، تُطاول البنيات الاقتصادية والاجتماعية والمالية وتتسبّب في انهيار النظام النقدي – إلى توتّر شديد في المناقشة السياسيّة تدفع قطاعاً من الرأي العام إلى تحميل الوجود السوري في لبنان مسؤولية انهيار البنى التحتية وتعميق الأزمة. وفي هذا السياق، يُواجَه حزب الله بأسئلة صعبة كونه ينشر في سوريا وحدات عسكرية تضطلع بدور أساسي في حماية حكم الرئيس بشار الأسد، وتُعتبر مشاركة، بصورةٍ أو أخرى، في أعمال العنف والتدمير التي أسفرت عن نزوح ملايين السوريين إلى لبنان والأردن وتركيا، من وجهة نظر المعارضات السورية.
ويمكن أن نتحدّث بلا حَرَج عن مفارقة لبنانيّة – سورية تتمثل في تداول موقع القوّة عقب ثلاثين سنة من الوصاية السورية نتيجةً للدور العسكري الحاسم لحزب الله في النزاع السوري وإن كان هذا الدور يندرج في إطار توسّع النفوذ الإيراني في بلاد الشام. بل إنّ المفارقة تتّخذ بُعداً جيواستراتيجيّاً عندما نُدرك أن رافعة حزب الله لم تترك أمام أطراف السلطة اللبنانيّة سوى خيار توحيد مواقفها وأهدافها للانخراط في عملية تفاوض تحت إشراف أميركي فرضت على إسرائيل الموافقة على ترسيم الحدود البحريّة واحترام حقوق لبنان في موارده النفطية شرق حوض المتوسط.
مدرستان في مقاربة أزمة لبنان
ويمكن القول إن لبنان قد دخل فعلاً منطقة حرجة بحيث لم يعد مُجدياً الحديث عن احتمال التقاطع بين مدرستين للفكر السياسي، تُركّز الأولى على أولويّة المدخل الإقليمي لمقاربة الأزمة اللبنانيّة، بينما تُشدد الثانية على المدخل “اللبنانوي” للبحث عن حلول للمعضلة الاقتصاديّة والسياسيّة الداخلية. في حين تذهب بعض الاجتهادات إلى أن حالة الاستقطاب التي تُخيّم على البيئة الجيوسياسيّة المحيطة بلبنان، تُعيق تحقيق المهمّة الصعبة المتمثلة في إعادة بناء إجماع وطني حول القضايا الاستراتيجيّة الأساسيّة.
في الواقع، إن إيلاء البيئة الإقليميّة للأزمة اللبنانيّة الأهميّة التي تستحق، يُفترض أن لا يكون مُبرّراً لتجاهل المؤشرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تكشف الواقع الصعب والأليم: لبنان يواجه أزمة غير مسبوقة أدّت إلى تبديد ودائع اللبنانيين، وانكماش اقتصادي حاد، وتضخّم مُفرط، وارتفاع كبير في مستويات الفِقر والبطالة والهجرة، وتآكل الطبقة الوُسطى التي تُشكّل العمود الفقري للنسيج الاجتماعي اللبناني.
وتُظهّر هذه الأزمة مواطن ضعف عميقة مُزمنة نتجت من السياسات الاقتصاديّة التي تسبّبت في حالات عجز مزدوجة (في المالية العامة والحسابات الخارجيّة) وفي الدعم المبالغ فيه لسعر الصّرف، وقطاع مالي مُتضخم، مع مشكلات متفاقمة لناحية المساءلة والشفافية، وغياب الإصلاحات الهيكليّة، كل ذلك جعل الأزمة تبلغ ذروتها في خريف العام 2019 مع تسرّب رؤوس الأموال إلى الخارج وبالتالي عجز لبنان عن سداد ديونه في آذار/مارس 2020، وهو الأمر الذي أعقبه ركود عميق وهبوط حاد في قيمة العملة الوطنية ومعدّل تضخّم غير مسبوق.
وقد تفاقمت الأزمة جرّاء جائحة كوفيد-19 ثم انفجار مرفأ بيروت الذي أتى على جزء كبير من المدينة في مطلع آب/أغسطس 2020.
ثلاث سنوات انقضت منذ تخلّفت الدولة اللبنانيّة عن سداد ديونها السياديّة في آذار/مارس 2020، ومنذ قدّمت الحكومة “خطة إنقاذ” اقتصاديّة وماليّة وحتى اليوم، لا تزال الطبقة الحاكمة وأصحاب القرار السياسي عاجزين عن اتخاذ التدابير اللازمة لإنقاذ لبنان من الكوارث التي تزداد يوماً بعد يوم.
وكانت الحكومة قد توصلت مع فريق من خبراء صندوق النقد الدولي (IMF) إلى اتفاق على المستوى التّقني تلتزم بموجبه تنفيذ إجراءات عدّة كشرطٍ أساسيّ للاستفادة من برنامج شامل يُحدّده الصندوق لتحقيق التعافي الاقتصادي في لبنان. وبالطبع إن هذا الاتفاق يخضع لموافقة إدارة الصندوق العليا ومجلسه التنفيذي، بعد تنفيذ كل الإجراءات المسبقة المطلوبة من الحكومة اللبنانية، وتأكيد الدعم المالي من الشركاء الدوليين. غير أن الحكومة اللبنانية لم تنفذ حتى الآن أيًّا من الإجراءات أو الإصلاحات الحيويّة المطلوبة منها لإتمام موافقة المجلس التنفيذي للصندوق، بما في ذلك استعادة النمو والاستدامة الماليّة وزيادة الإنفاق الاجتماعي والإنفاق على إعادة الإعمار، إضافةً إلى إعادة هيكلة الدَّين العام الخارجي إلى حدود مستدامة وسدّ فجوات التمويل، وذلك لأنّ النظام المصرفي والمالي في لبنان مُعطّل أيضاً ويتعيّن إعادة هيكلته لكي تستعيد المصارف مقوّمات الاستمرار والقدرة على تخصيص الموارد بكفاءة لدعم خطة التعافي. كذلك يتعيّن تقاسم الخسائر والديون المتراكمة على مدى العقود الماضية بطريقة عادلة، إذ لا يجوز تحميل صغار المُودعين وطأة الأزمة بل يجب حمايتهم. لذلك فإن الدولة اللبنانيّة بحاجة ماسّة إلى ميزانيّة مناسبة تحدّد بموجبها الإيرادات والنفقات الحكوميّة على حدٍّ سواء. ومثل هذه الإجراءات ضروريّة لاستعادة الثّقة بالمؤسسات والمصارف والبنك المركزي والحكومة والبرلمان.
تتشكل ديناميّة جديدة حول لبنان تسمح لإيران بأن تكون لها اليد العُليا في المحادثات النوويّة مع أميركا وسط مؤشرات على اهتمام واشنطن بالتوصل إلى اتفاق مؤقت في هذا الشأن، فضلاً عن انتظام آلية التنسيق الروسي/التركي/الإيراني وتأثيرها على إدارة الأزمة السوريّة
اللعبة الجيوسياسية الكبرى
عندما توصل لبنان وإسرائيل في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2022 إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية، اعتُبر هذا الاتفاق “خطوة تاريخيّة” كان يستحيل تحقيقها لولا الدور الذي اضطلع به الأميركيّون والإيرانيّون على حدٍّ سواء، من دون أن ننسى الدور الفرنسي المعزز بالتفاهم مع حزب الله وتنامي المصالح المشتركة بين باريس وطهران.
وكان لافتاً للإنتباه أنّ واشنطن حرصت في أثناء عملية التفاوض على تذكير المسؤولين الإسرائيليين بأن تأمين موارد جديدة للطاقة تلبية للحاجات الأوروبيّة من الغاز والنفط بعد العقوبات على روسيا، إنّما هو أمر يندرج في إطار حماية الأمن القومي للولايات المتحدة. أمّا طهران، فقد عزّزت من جانبها تموضعاً جيوسياسيّاً في شرق المتوسط بمواجهة إسرائيل بفضل امتلاكها “أوراقاً لبنانيّة” ذات قيمة استراتيجيّة تتّصل بـ”الحدود المشتركة” للمقاومة مع فلسطين المحتلة واشتداد القوّة الرادعة المقاومة في جنوب لبنان. علماً أنّ التحالف السوري – الإيراني يسمح لدمشق بالاعتماد على حزب الله قوّة ضغط رئيسيّة على إسرائيل، مثلما يوفّر لها عمقاً حيويًّا حيال الضغوط الأميركيّة والغربيّة إجمالاً.
وتقودنا هذه الملاحظات إلى تلمّس لعبة جيوسياسيّة كبرى تمنح إيران موقعاً متفوقاً نتيجة لشراكتها مع روسيا والصين، ومن ثم تحسّن علاقاتها بدول الخليج وصولاً إلى إبرامها اتفاقاً مع المملكة العربيّة السعوديّة بوساطة صينيّة، وتالياً عودة سوريا حليفتها إلى الجامعة العربيّة. وفي سياق هذه اللعبة، تتشكل ديناميّة جديدة حول لبنان تسمح لإيران بأن تكون لها اليد العُليا في المحادثات النوويّة مع أميركا وسط مؤشرات على اهتمام واشنطن بالتوصل إلى اتفاق مؤقت في هذا الشأن، فضلاً عن انتظام آلية التنسيق الروسي/التركي/الإيراني وتأثيرها على إدارة الأزمة السوريّة، بينما يحاول لبنان وسوريا التوازن والتكيّف مع التحدّيات الجديدة التي تطرأ على الأوضاع في الشرق الأوسط.
لكن لبنان الذي يستفيد حتماً من التوافق السعودي ـ الإيراني وتحريك المسار السوري ـ العربي، عليه أن يتهيّأ للتعامل مع ردود فعل سلبية إسرائيلية وأميركيّة، فضلاً عن اندفاعة السعودية لإعادة تفعيل العمل العربي المشترك لاحتواء تمدد النفوذ الإيراني والذي قد يكون لبنان أحد حقوله الاختبارية. وهو في كل الأحوال يحتاج إلى إصلاح جذريّ في نظامه السياسي الطائفي الذي يرزح تحت سيطرة قادة سياسيّين وأُمراء حرب يسرقون موارد الدولة ويُعيدون توزيع قسم منها على مجموعات من العملاء والمُوالين التابعين لطوائفهم. فإذا أراد روّاد التغيير، النجاح في مهمّتهم، عليهم أوّلاً تركيز الجهد على خريطة طريق تقود إلى إعادة هيكلة نظام السلطة ضمن السياق الأوسع للديناميّة الإقليمية.