بين فرنسا وتركيا.. أفريقيا مربط الفرس

يصح القول في تاريخ العلاقات الفرنسية التركية إنه تاريخ متقلب منذ مائة سنة حتى يومنا هذا. ثمة عناصر إشتباك بين فرنسا وتركيا تتوزع بين أوروبا والمنطقة العربية.. والأهم في القارة الإفريقية.

لم تكن العلاقات التركية الفرنسية يومًا مستقرة، منذ محاولة الإنقلاب في قبرص المدعومة من اليونان عام ١٩٧٤ والتي ادت إلى تقسيم هذا البلد إلى شطرين، ولا عندما اعترضت فرنسا على طلب تركيا ضمها إلى الإتحاد الأوروبي عام ١٩٨٧ قبل ان يُعلَن هذا الإتحاد عام ١٩٩٢ بلا تركيا.

اعادت تركيا طلب الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي عام ١٩٩٩، ثم مع وصول رجب طيب اردوغان إلى الحكم عام ٢٠٠٣. اعترضت كل من النمسا والمانيا وفرنسا على ضم تركيا ووضعت شروطاً أخذت بها أنقرة كإلغاء عقوبة الإعدام عام ٢٠٠٥، وحقوق الأقليات وسواها من أمور، غير ان مشكلة قبرص طفت على السطح مجددًا خصوصًا أن تركيا لم تكن لتوافق أن تكون في اتحاد أوروبي يضم “قبرص اليونانية” إلى جانبها.

في عام ٢٠١٣، ومع إنتهاء ولاية الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي المعارض بشدة لإنضمام تركيا إلى أوروبا، تجددت المفاوضات وأظهرت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل مرونة ملحوظة، غير أن قمع مظاهرات “ميدان تقسيم” في أنقرة أوقف المفاوضات واستبطن عدم وجود رغبة اوروبية مسيحية بضم تركيا المسلمة خاصة مع عدم مجاهرة اردوغان بالعلمنة بل مع إرتفاع منسوب الخطاب الديني في تركيا. في عام ٢٠١٩، اعتبرت المفوضية الأوروبية ان آمال تركيا بالإنضمام إلى الإتحاد قد تلاشت وجاء إحتدام الصراع مع فرنسا في أكثر من ساحة، والصدام مع اليونان في المتوسط ليبعدا الفكرة تمامًا.

حقبة أردوغان والتمدد التركي

 لعل أبرز ما تسبب بأرق أوروبي بشكل عام وفرنسي يوناني بشكل خاص، أنه لم يسبق لتركيا منذ سقوط الدولة العثمانية أن توسع حضورها العسكري كما حصل ويحصل في حقبة اردوغان. فالحضور التركي العسكري يبدأ من العراق وسوريا وقطر وقبرص وأفغانستان وأذربيجان في آسيا، ليصل إلى ليبيا والصومال في أفريقيا. أما الحضور الإقتصادي، فقد تمدد بشكل كبير في القارة السوداء ودول البلقان والقوقاز وباكستان إضافة إلى إطلاق قطار التصدير إلى الصين ماراً بدول ثلاث هي جورجيا وأذربيجان وكازاخستان قبل دخوله الصين من مقاطعة شيان.

كذلك تقصدت تركيا، كما بريطانيا، فور توقيع البريكسيت مع الاتحاد الاوروبي، أن تعلنا عن اتفاق تنظيم تبادل تجاري بينهما بقيمة ١٨ مليار دولار والعمل على زيادة هذا التبادل بإضطراد، مع الأخذ بالإعتبار ان بريطانيا لم تتوقف عن تزويد تركيا بالسلاح وقطع الغيار، بعكس ما فعلت فرنسا والمانيا، غداة العمليات العسكرية والأمنية التركية ربيع ٢٠١٩ ضد حزب العمال الكردستاني، مع الإشارة إلى أن التبادل التركي مع ألمانيا والذي بلغ ٣٦ مليار دولار في السنة المنصرمة يأتي في المرتبة الأولى، أما فرنسا، فتأتي في المرتبة الثانية عشرة بقيمة ١٤،٥ مليار دولار للعام ٢٠١٩.

ولعل الأتراك بدأوا باكرًا بالإعداد لخطط بديلة لإبعادهم عن الإتحاد الأوروبي، فخططوا منذ عام ٢٠٠٣ لتعزيز وتوسيع حضورهم في افريقيا ووضعوا “خطة افريقيا” عام ٢٠٠٥ حيث عقدت القمة الأولى للتعاون الأفريقي التركي عام ٢٠٠٨ في اسطنبول . وفي عام ٢٠٠٩ افتتحت تركيا ٢٧ سفارة جديدة دفعة واحدة في افريقيا في عام واحد اضيفت إلى ١٢ سفارة حينها، ليبلغ اليوم عدد البعثات الديبلوماسية التركية في القارة الغنية ٤٧ سفارة.

تظهر البيانات الخاصة بمعهد الإحصاء التركي أن قيمة التبادل التجاري بين تركيا وافريقيا قد بلغت نحو ٢٢ مليار دولار عام ٢٠١٩ مقابل ٥،٣ مليار عام ٢٠٠٣

إستثمارات تركية في القارة السمراء

تغلغلت تركيا في افريقيا عبر ممرات متعددة: تعليمية من خلال المنح للطلاب؛ صحية من خلال ارسال بعثات طبية منذ عام ٢٠١٤؛ تطبيب مجاني في اكثر من ٢٠ بلدًا افريقيًا اضافة إلى ارسال مساعدات لمواجهة جائحة كورونا بشكل مركز خلال العام الماضي. كما تظهر البيانات الخاصة بمعهد الإحصاء التركي أن قيمة التبادل التجاري بين تركيا وافريقيا قد بلغت نحو ٢٢ مليار دولار عام ٢٠١٩ مقابل ٥،٣ مليار عام ٢٠٠٣، ويمتاز المستثمرون الأتراك في افريقيا بإستخدامهم الموارد المحلية والعمل على زيادة القيمة المضافة لأفريقيا على منتجاتهم.

‎يعد سوق مشروعات البنية الأساسية في أفريقيا من الأسواق الواعدة التي تركزعليها شركات المقاولات التركية، فالتقديرات تذهب إلى أن إستثمارات مشروعات البنية الأساسية في القارة السمراء تقدر سنويا بنحو 170 مليار دولار وتركز الشركات التركية في إستثماراتها هناك على قطاعات بارزة، منها: البناء، البنية التحتية، تجارة الجملة والتجزئة، صناعة الملابس والمنسوجات، الطاقة، والصناعات المعدنية. إلا أن قطاعي البناء والبنية التحتية هما صاحبا النصيب الأكبر من هذه الاستثمارات، وتقدر أعمال المقاولين الأتراك في أفريقيا بنحو 20% من إجمالي أعمالهم على مستوى العالم الخارجي.

والجدير بالذكر أن الاستثمارات التركية  في افريقيا خلال الفترة من 2010 إلى 2019 تركزت في مجموعة من الدول اهمها الجزائر وإثيوبيا والسنغال وليبيا وغينيا وموزامبيق والغابون ونيجيريا والكونغو ورواندا وتونس والكاميرون.

إقرأ على موقع 180  بايدن الشرق أوسطي: ترويض العقال، حصار العمامة وطمأنة القلنسوة

قواعد عسكرية في أفريقيا

وفي إشارة إلى زيادة التنافس التركي الفرنسي، تعمد وزير خارجية تركيا مولود جاويش اوغلو زيارة مالي، غينيا بيساو والسنغال في ايلول/ سبتمبر ٢٠٢٠، بعدما كان قد وقع في تموز/ يوليو العام نفسه، اتفاقيات مع النيجر قد تشمل بناء قاعدة عسكرية، تضاف إلى القاعدة الكبرى في الصومال والحضور العسكري الأكبر في ليبيا. ومن نافل القول أن علاقة تركيا بالجزائر دافئة بعدما زارها اردوغان في كانون الثاني/ يناير٢٠٢٠ واعتبرها واحدة من أهم بوابات تركيا إلى المغرب العربي وافريقيا.

هذا الحضور التركي إستفز الفرنسيين ما دفع الرئيس ايمانويل ماكرون إلى القول لمجلة Jeune Afrique يوم العشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر عام ٢٠٢٠ بالحرف الواحد: «هناك استراتيجيات ناشطة يقودها أحياناً مسؤولون أفارقة، ولكن خصوصًا من فعل قوى خارجية مثل روسيا وتركيا وهي تلعب على حساسيات المرحلة ما بعد الاستعمارية» لغرض تأجيج العداء ضد فرنسا. وأضاف ماكرون: “ليس لنا أن نكون سذجًا، إذ أن الكثيرين ممن يسمعون أصواتهم في وسائل الإعلام أو ينشرون فيديوهات هم من المأجورين ويعملون إما لصالح روسيا وإما لصالح تركيا”.

لا تأتي عن عبث، محاولات تركيا ترميم علاقاتها مع فرنسا وإعادة فتح مفاوضات التنقيب مع اليونان وإعادة تحريك الحوار مع دول الإتحاد الأوروبي كافةً كما أشار اردوغان خلال لقائه سفراء الإتحاد الأوروبي، اذ يرغب الرئيس التركي الإستعداد لعهد جو بايدن الاميركي الجديد بأقل التوترات مع اوروبا والخليج واسرائيل

‎ومن الملاحظ أن التوغل التركي في افريقيا لا يزعج الولايات المتحدة، كما يبدو حتى الآن. على العكس، تعتبر اميركا أن الوجود المتزايد لأنقرة في  أفريقيا، يشكل قوة موازنة للحضور الصيني إلى حد مقبول، ما دفع السيناتور الأميركي ليندسي غراهام إلى تشجيع فكرة أن يصبح النفوذ التركي‎ بديلا  للنفوذ الصيني في أفريقيا، مضيفا أن ذلك قد يفتح أيضا مجالات جديدة للتعاون بين تركيا والولايات المتحدة هناك. أما التنقيب عن الغاز والنفط في شرق المتوسط، فهو نقطة تصادم حتمية بين فرنسا وتركيا انطلاقًا من ليبيا وصولًا إلى بناء فرنسا حلف ٣+١ اي اليونان ومصر وقبرص برعاية فرنسية.

2021 سنة المفاوضات والتنازلات

أمام كل ما سبق، يتضح أن أي حوار فرنسي تركي سيتضمن عددًا كبيرًا من الملفات تبدأ بأصل الدعم الفرنسي لحزب العمال الكردستاني، فإثارة فرنسا موضوع المجزرة الأرمنية، إلى قضية التنقيب شرق المتوسط، وحياكة علاقات مثيرة مع الجزائر (مع محاولات اجراء مناورات مشتركة تركية جزائرية) إلى الحضور التركي في غرب افريقيا عبر النيجر والسنغال وغامبيا ومؤخرًا التشاد وصولًا إلى سوريا والعراق حيث ربحت مؤخرًا فرنسا عقد اعادة بناء وتشغيل مطار الموصل مقابل عرض تركي تعذر تمريره لأسباب شتى منها قرار حكومة مصطفى الكاظمي، التي لا تريد أن تعطي لتركيا يدًا طولى في الموصل.

ولا تأتي عن عبث، محاولات تركيا ترميم علاقاتها مع فرنسا وإعادة فتح مفاوضات التنقيب مع اليونان وإعادة تحريك الحوار مع دول الإتحاد الأوروبي، كما أشار اردوغان خلال لقائه سفراء الإتحاد الأوروبي، اذ يرغب الرئيس التركي الإستعداد لعهد جو بايدن الاميركي الجديد بأقل التوترات مع اوروبا والخليج واسرائيل لشعوره أن فريق بايدن لن يكون متساهلًا مع تركيا.

مسيرة محاولات استعادة العلاقات بين تركيا و فرنسا بدأت من خلال اعلان وزير الخارجية التركي عن مراسلات ودية دشّنها اردوغان، متمنيا لماكرون عامًا جديدًا لتليها مراسلة من الأخير قد تؤدي الى لقاء الرجلين افتراضيًا او شخصيًا.. والى ذلك الحين، يسعى كل واحد منهما إلى تعزيز وزيادة نفوذه.

 ٢٠٢١ هي سنة المفاوضات الصعبة بين تركيا وفرنسا، وربما سنة التنازلات المتبادلة، لا سيما في ضوء تمدد وتوسع نفوذ كل منهما.. حيث تصبح التنازلات أقل من المكاسب التي تم تحقيقها خلال عقد أو أكثر.

(*) راجع الجزء الأول: في لبنان الصيت تركي والنفوذ فرنسي

Print Friendly, PDF & Email
خلدون الشريف

كاتب سياسي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  لبنان مسلخ، لعنة.. جلجلة بلا قيامة!