لم يعرف التاريخ الأمريكى الممتد على مدى 245 عاما يوما واحدا بقوة وجسامة ما شهده مبنى الكابيتول، من اقتحام المئات من مؤيدى الرئيس السابق دونالد ترامب لجلسة مجلسى النواب والشيوخ المشتركة للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية 2020، والتى انتهت بفوز الرئيس الجديد الديمقراطى جو بايدن.
***
بداية، أرى أن التاريخ الأمريكى لم يعرف أياما أو أحداثا كثيرة بقوة وأهمية 6 كانون الثاني/ يناير، وتأثيراتها على طبيعة الدولة الأمريكية، ولن أبالغ إذا قلت إنه لم يسبق أن مر يوم بهذه الخطورة والأهمية.
هناك يومان آخران قد يزاحمان هذا اليوم فى حجم الأهمية والتبعات؛
الأول هو 7 كانون الأول/ ديسمبر 1941 عندما أغار الأسطول الجوى اليابانى على الأسطول البحرى الأمريكى فى المحيط الهادى وتحديدا مرفأ بيرل هاربر بجزيرة هاواى، ونتج عن ذلك إعلان الحرب على اليابان ودخول واشنطن الحرب العالمية الثانية.
اليوم الثانى جاء بعد 60 عاما فى 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001 حين اختطف مجموعة من الإرهابيين 4 طائرات، وأسقطوا بهم برجى التجارة العالميين فى قلب مدينة نيويورك، وهاجموا مبنى البنتاجون، لتعلن واشنطن بدء حربها العالمية ضد الإرهاب، لتغزو من خلالها أفغانستان والعراق، ولم تنسحب منهما بصورة كاملة بعد.
فى الحالتين، أصبحت أمريكا قبل الحدث تختلف تماما عن أمريكا بعد الحدث، وأتصور أن 6 كانون الثاني/ يناير 2021 سيتفوق فى أهميته وتداعياته على ما نتج عن الحادثتين السابقتين. ستختلف أمريكا قبل 6 كانون الثاني/ يناير عن أمريكا بعد ذلك التاريخ. وأرى أن حادثة اقتحام الكونجرس أكثر خطورة من حادثة تدمير الأسطول فى بيرل هاربر أو حوادث 11 أيلول/ سبتمبر على الرغم من مقتل 5 أشخاص فقط، فى حين قُتل ما يقرب من 3 آلاف شخص فى الحادثة الأخيرة، وقتل ما يزيد عن ألفى أمريكى فى الأولى.
***
قبل الساعة 8 من صباح يوم 7 كانون الأول/ ديسمبر هاجمت 353 طائرة عسكرية الأسطول الأمريكى فى جزيرة هاواى بالمحيط الهادى، ودمرت أغلب القطع البحرية وأغرقت بعضها، وقتل 2400 أمريكى. لتعلن الولايات المتحدة بعد ذلك بساعات دخولها الحرب العالمية الثانية، والحرب على اليابان، وعلى ألمانيا لاحقا.
نتج عن دخول أمريكا الحرب مقتل 405 آلاف أمريكى، وإصابة 670 ألفا آخرين، وانتهت الحرب قبل نهاية عام 1945، لتخرج أمريكا منها منتصرة، وتبدأ قيادتها الفعلية للمعسكر الغربى فى المواجهة التاريخية مع المعسكر الاشتراكى بقيادة الاتحاد السوفييتى.
تسببت الحرب فى اتباع واشنطن سياسات ومواقف غير إنسانية تجاه مئات الآلاف من الأمريكيين من أصول يابانية، وتم احتجازهم فى معسكرات اعتقال جماعية مؤقتة.
كذلك دفعت ظروف الحرب إعادة ترشح الرئيس روزفلت 4 فترات رئاسية، وبعد انتهاء المعركة تبنى الكونجرس التعديل رقم 22، والذى يحظر على الرئيس الترشح أكثر من فترتين.
***
قبل الساعة 9 من صباح 11 أيلول/ سبتمبر، وبعد هجمات إرهابية بطائرات مخطوفة نتج عنها مقتل ما يقرب من 3 آلاف شخص، دفعت أمريكا لشن ما أطلقت عليه «الحرب على الإرهاب»، لتغزو دولتي أفغانستان قبل نهاية 2001 والعراق فى 2003. اليوم وبعد ما يقرب من 20 عاما، لم تنسحب القوات الأمريكية بصورة كاملة من الدولتين. وكلفت الحربان الخزانة الأمريكية ما بين 5 إلى 7 تريليونات من الدولارات، وقُتل فى أفغانستان أكثر من ألفى جندى، وأصيب أكثر من 20 ألفا آخرين، وقتل فى العراق أكثر من 4 آلاف جندى، وأصيب 32 ألفا آخرون.
ونتج عن غزو العراق وأفغانستان مقتل مئات الآلاف من الأبرياء من مواطنى الدولتين وتدمير بناهما التحتية.
حادثة اقتحام الكونجرس أكثر خطورة من حادثة تدمير الأسطول فى بيرل هاربر أو حوادث 11 أيلول/ سبتمبر على الرغم من مقتل 5 أشخاص فقط، فى حين قُتل ما يقرب من 3 آلاف شخص فى الحادثة الأخيرة، وقتل ما يزيد عن ألفى أمريكى فى الأولى
وعرفت أمريكا سياسات داخلية رآها الكثير من الخبراء دراكونية فى طبيعتها سمحت بتوغل الأجهزة الأمنية الأمريكية فى التنصت، وتتبع الكثير من مواطنيها خاصة المسلمين منهم.
وكان لاستخدام معسكرات اعتقال فى جوانتانامو تأثيرات بالغة حول الصورة الأمريكية حول العالم خاصة مع ورود أنباء التعذيب والانتهاكات، التى يتعرض لها المعتقلون، وحتى اليوم لم يتم إغلاق المعتقل.
كذلك سمحت الحرب على الإرهاب أن تنشغل واشنطن بمعارك هامشية فى الاستراتيجية الكونية، فى وقت ركزت فيه الصين على النمو الصناعى والاقتصادى والعسكرى.
وعلى الرغم مما سبق، أرى أن أحداث 6 كانون الثاني/ يناير أكثر خطورة؛ لأنها صنعت بالكامل فى أمريكا، وهى أزمة أمريكية محلية بامتياز تعبر عما وصل إليه حجم الاستقطاب.
***
وعلى عكس الأزمات السابقة، تضرب أحداث 6 كانون الثاني/ يناير الديمقراطية الأمريكية فى قلبها مع رفض رئيس منتخب نتائج انتخابات خسرها؛ بل يتمادى ويؤكد أنها مزورة بدون أن يقدم دليلا ملموسا على ذلك، وعلى الرغم من رفض عشرات المحاكم المختلفة ادعاءات الرئيس ترامب. وقبل الخطوة الأخيرة والتصديق على نتائج الانتخابات يوم 6 يناير، يؤمن الملايين من أنصاره الجمهوريين أن الانتخابات سُرقت منه.
وأصبح ترامب أول رئيس فى التاريخ الأمريكى الذى يحاكم برلمانيا بهدف العزل مرتين، بعد أن مرر مجلس النواب قرارا يتهم «الرئيس الأمريكى» بالتحريض على التمرد ضد الحكومة الأمريكية، بهدف عرقلة الانتقال السلمى للسلطة؛ مما يهدد أمن وسلامة ومصالح الولايات المتحدة وديمقراطيتها بهدف عرقلة الانتقال السلمى للسلطة.
تبعات ما جرى فى 6 كانون الثاني/ يناير ستبدأ بالتبلور والتأثير على كل ما هو قادم فى حياة الأمريكيين بصورة تفوق تأثيرات هجوم بيرل هاربر وهجمات 11 أيلول/سبتمبر.
(*) بالتزامن مع “الشروق“