رحب الإنجليز على الفور بتولى عباس حلمى الثانى، ذلك أنهم آمنوا أن صغر سنه وانعدام خبراته سيسهلان لهم السيطرة عليه كما فعلوا مع والده وجدّه. وبرغم ذلك فلم تكن علاقته بالإنجليز على ما يرام فى الكثير من الأوقات، كما شهدت فترة حكمه والتى استمرت 22 عاما العديد من الأحداث الوطنية الجسيمة التى أضافت لرصيده أحيانا وخصمت من رصيده فى معظم الوقت.
برغم صغر سنه، إلا أنه وبعد توليه الحكم حاول اتباع سياسات داخلية وخارجية إصلاحية، فداخليا حاول الاستقلال بصنع القرار فى القصر والنظارة ومجلس النواب عن هيمنة الإنجليز، كما حاول التقرب أكثر من المصريين لإزالة الآثار السلبية التى تركتها ثورة عرابى وما تلاه من احتلال إنجليزى لمصر على علاقة القصر بالمصريين، وخارجيا حاول الضغط على الإنجليز للانسحاب من مصر، كما حاول التقرب والتودد من السلطان عبدالحميد الثانى فى إسطنبول لرأب التصدعات التى استمرت لعقود بين القصر والباب العالى.
كانت أول صداماته مع الإنجليز حينما اتخذ قراره بإقالة وزارة مصطفى فهمى باشا فى 1893 وذلك لعدم رضائه على أدائها من ناحية، وكذلك لعدم ثقته بخصوص علاقاتها بالإنجليز وممثلهم اللورد كرومر من ناحية ثانية. وقد أدى هذا القرار إلى غضب اللورد كرومر، وأمام تصميم الخديوى عباس على القرار كانت أولى أزماته مع إنجلترا. لم يكن الخلاف فقط على شخص مصطفى فهمى، فالخديوى الجديد كان قد فطن إلى استخدام اللورد كرومر لعدد كبير من مستشارى النظارات والمصالح الحكومية للتدخل فى كل كبيرة وصغيرة فى الشأن المصرى، ومن هنا فقد قام أيضا باستبعاد بعض هؤلاء المستشارين وهو ما كان يعنى لكرومر أن قدرته على السيطرة أخذت فى التلاشي!
***
ظلت الخلافات كبيرة ووصلت إلى حد العداء الصريح بين كرومر وبين الخديوى عباس، فالأخير كان دائم تغيير النظارات (الوزارات) كلما شعر بتزايد هيمنة الإنجليز عليها، والإنجليز بدورهم لم يكن يروق لهم الأمر فواصلوا الضغوط على القصر حتى انتصروا بتثبيت وضع نظارة مصطفى فهمى مرة أخرى فى 1895 وقد ظلت هذه الوزارة قائمة مدة 13 عاما ولم تُقل إلا بعد رحيل كرومر فى 1907!
فى مذكراته «عهدى: مذكرات عباس حلمى الثانى خديوى مصر الأخير 1892ــ 1914»، والتى قدم لها أحمد مصطفى ونشرتها دار الشروق فى 1993 يشرح عباس الكثير من مواجهاته مع كرومر وفطنته لمحاولة الأخير التخلص منه بعد أن اكتشف أن صغر سن الخديوى إنما هو مصدر قوة لا ضعف وأن ضعف خبراته السياسية لم يَحُل بين الخديوى وبين قدرته على إدارة شئون البلاد للدرجة التى أوصلت كرومر إلى الشكوى إلى حكومته فى بريطانيا مما أسماه «تدخل الخديوى فى شئون البلاد» وكأن الطبيعى هو ألا يتدخل فى حكم بلاده ويتركها للإنجليز وهو قطعا تعبير واضح عن الغرور الصلف الذى كان يتمتع به الاحتلال الإنجليزى. وقد كان لهذه المواقف الوطنية المبكرة للخديوى أثر جيد فى نفوس المصريين حيث ارتفعت شعبيته لديهم.
يلاحظ هنا كيف أن السلطان عبدالحميد وحتى نهاية عهده لم يكن يأمن كثيرا لمصر وكان يعمل طوال الوقت حول تحجيم دور جيشها خوفا من استقلالها التام عن الخلافة العثمانية
تصادم عباس مع الإنجليز مجددا بخصوص محاولة الأول خفض مدة التجنيد الإجبارى من 5 سنوات إلى 3 سنوات، لأنه فطن أن معظم أبناء الجيش المصرى المجند إجباريا هم من المزارعين وأن طول فترة خدمتهم فى الجيش لم تكن تفيد سوى الإنجليز بينما تضررت الأعمال الزراعية من ذلك بشدة! كذلك فقد عاد التصادم مجددا حينما أخذ الخديوى يزور العديد من النقاط الحدودية المصرية، وحينما كان فى الجنوب فقد وجه انتقادات حادة إلى تمركز القوات الإنجليزية هناك، فثارت ثائرة الإنجليز مجددا ضده وأجبروه على إصدار بيان يشيد بالجيش الإنجليزى ويسحب انتقاداته السابقة لهم! وهكذا استمرت المواجهات قوية بينه وبينهم، صحيح أنه لم ينتصر فى معظم هذه المواجهات فى النهاية، لكن نمط حكمه هذا كان كفيلا بأن يسبب المتاعب للإنجليز الذين لم يكونوا قد تعودوا على مثل هذه المقاومة من حاكم مصري!
***
فى مذكراته المذكورة أعلاه وتحديدا فى الصفحات 68 و69، يتحدث الخديوى عباس بعد عزله عن طريقة إدارته للصراع مع الإنجليز ومع من يعتقد أنهم يتجسسون عليه لصالحهم من المصريين، كما يتحدث عن رجال الدين بشكل ملفت فى صراحته، وربما كان هذا هو الحديث الأكثر صراحة من قبل حاكم مصرى عن أدوات إدارة الصراع السياسى فى مواجهة الخصوم، وفى ذلك يقول:
«ولما كانت الوسائل حولى صالحة للتجسس على، وجدت أننى بدورى، يحق لى أن ألجأ إلى استخدام وسائل خصومى.. فأصبحت لى «مخابرات» فى كل مكان، فى المدارس، وفى الوحدات العسكرية.. وخدمنى فى ذلك، وبشكل يثير الإعجاب، عدد من الشباب، المخلص لبلاده وأميره، والذين كان نشاطهم وتطوعهم نابعا من اعتقاد عميق بأنهم يقومون بعمل دينى. وفى هذه الفترة، كان الدين لا يزال قادرا على إثارة حماس الرجال، ويشحذ هممهم»!
ثم يكمل عباس فى مذكراته:
«وعمل الشيوخ، من جانبهم، على خدمتى، كوسطاء مع الجنود. ربما كانوا يعملون لمصلحة. فلم يكن الإيمان يكفى دائما لإطعام رجال الدين، ومهما كان إعجابهم بملذات الجنة، فإنهم كانوا لا يكرهون أن يتبعوا الطرق الأكثر راحة التى تؤدى إليها»!
كذلك عمد الخديوى إلى تطوير البنية التحتية المصرية وخاصة المواصلات فقام بتطوير شبكات الترام والسكك الحديدية، كذلك فقد عمل على تطوير التعليم الحكومى، بالإضافة إلى الاهتمام بالصحف والحياة السياسية المصرية. كما قام بإلغاء الكثير من الضرائب وحاول تطوير الرقعة الزراعية المصرية فزادت من 900 ألف فدان حين تولى الحكم إلى مليون ونصف فدان فى نهاية عهده، كذلك فقد زاد من ملكية المصريين للأراضى الزراعية فارتفع عدد ملاك الأطيان من 750 ألف مالك إلى ما يقرب من 1.4 مليون مالك فى عهده، كما قام بإنشاء كلية الزراعة والنقابات الزراعية. كما قام بإنشاء بعض القناطر والسدود، وأشهرها قناطر أسيوط وخزان أسوان.
كذلك فقد شهد عصره نهضة مالية ومصرفية، فقد زادت ميزانية الدولة فى عهده من 10 مليون جنيه عام 1982 إلى 16 مليون جنيه، كذلك فقد زادت قيمة الصادرات المصرية من 13.5 مليون جنيه إلى 29 مليون جنيه، كما تم إنشاء البنك الأهلى برأس مال 2.5 مليون جنيه، والبنك الزراعى برأس مال 5 ملايين جنيه.
كما قام بالتفاوض مع الباب العالى من أجل تحديد حدود مصر الشرقية، وبعد الكثير من الخلافات حول تحديد الحدود الشرقية بين مصر والشام وبين مصر والدولة العثمانية، تم توقيع اتفاقية تعيين الحدود عام 1906 ومعها أيضا تم التفاوض مع الباب العالى مجددا حول عدد جنود الجيش المصرى ليصل العدد بعد التفاوض إلى 18 ألف جندى ولا يسمح للجيش المصرى بأن يقوم بتجنيد أكثر من هذا العدد إلا بعد إذن من الباب العالي! ويلاحظ هنا كيف أن السلطان عبدالحميد وحتى نهاية عهده لم يكن يأمن كثيرا لمصر وكان يعمل طوال الوقت حول تحجيم دور جيشها خوفا من استقلالها التام عن الخلافة العثمانية.
فى ذلك التوقيت كانت حركة وطنية جديدة تتشكل فى مصر تزعمها مصطفى كامل وقد أدت إلى تطورات مهمة فى الحياة السياسية المصرية خلال عهد عباس، نذكرها فى مقال الأسبوع القادم.
(*) بالتزامن مع “الشروق“