الأولى، إستخدمت الملف كـ«فزاعة» أمام الغرب لتعطيل الإصلاح السياسى والدستورى بذريعة أن أى انتخابات على قدر من النزاهة سوف تؤدى إلى وصول الجماعة إلى السلطة والانقلاب على الوسائل الديمقراطية التى صعدت بها.
وقد تبنتها السلطة وإعلامها.
والثانية، راهنت على دمج ما للجماعة فى الحياة السياسية المصرية والاحتكام إلى القواعد الديمقراطية وفق دستور جديد يؤسس لعقد اجتماعى جديد يلتزم بالدولة المدنية الحديثة، ويمنع فى الوقت نفسه أى انقلابات على الديمقراطية.
وقد تبنتها غالبية قوى المعارضة.
ما بين النظرتين المتناقضتين تضاربت السياسات وخابت الرهانات.
لم تكن الجماعة بتكوينها الفكرى مهيئة لتغيير حقيقى فى رؤيتها للديمقراطية والتعددية والقواعد الحديثة فى إدارة الدول، ولم يكن النظام بوارد بناء مؤسسات دستورية تؤهل البلد لتحول ديمقراطى يؤكد مدنية الدولة وقدرتها على الالتحاق بعصرها.
لم يكف النظام عن وصف الجماعة بـ«المحظورة» ولا عن إجراء الصفقات معها!
كانت تلك مفارقة كبرى.
قبل الانتخابات النيابية عام (2005)، أبرمت صفقة انتخابية مع مكتب الإرشاد حول نسب مقررة للجماعة فى مجلس الشعب.
كانت تلك فضيحة متكاملة الأركان روى أسرارها نائب المرشد الأسبق الدكتور «محمد حبيب» فى مذكراته: «الإخوان المسلمون والصعود إلى الهاوية».
في ما روى وأفصح أنه قد جرت قبل تلك الانتخابات النيابية مقايضات وصفقات أفضت بالمحصلة الأخيرة إلى حصول الجماعة على (88) مقعدا.
جرت مساومات على أعداد المترشحين «الإخوان» استقرت على (160) مرشحا.
وجرى الاتفاق على سحب مرشحين بعينهم يؤيدهم «الإخوان»، وإخلاء دوائر بعينها لكبار مرشحى الحزب الوطنى، خاصة رجل الأعمال النافذ «أحمد عز».
كان الثمن السياسى المدفوع تسهيل الحركة أمام الجماعة فى عقد المؤتمرات الجماهيرية ونشر اللافتات الانتخابية بشعاراتهم دون أية مضايقات أمنية معتادة.
كان المشهد المستجد ملغزا أمام وزير الشباب والرياضة الدكتور «ممدوح البلتاجى»، الذى تولى سابقا وزارتى السياحة والإعلام.
تساءل وألح فى السؤال، فشعارات «الإسلام هو الحل» تتصدر واجهات الشوارع فى القاهرة والمحافظات، والأمن يغض الطرف عنها، ومرشحو «الإخوان المسلمين» يتمتعون بحرية حركة لا سابق لها فى كل الانتخابات التشريعية على مدى أكثر من نصف القرن.
بدا أمامه أن هناك شيئا غامضا تتناقض ظواهره مع ما يعرف ويخبر بنفسه عن طبيعة نظام الحكم الذى ينتسب إليه.
فى اجتماع لمجلس الوزراء استبق مباشرة الانتخابات النيابية عام (2005) توجه بسؤال مباشر لوزير الداخلية اللواء «حبيب العادلى»: « ما الذى يحدث يا سيادة الوزير؟».. فأجابه على الفور: «إنها الديمقراطية»!
لم تقدم تلك الإجابة أية إضاءة على ما يجرى من صفقات فى الغرف المغلقة بين سلطات الأمن وقيادات كبيرة فى جماعة «الإخوان المسلمين» برعاية «العادلى» نفسه.
قبل أن يترك موقعه كمرشد لجماعة «الإخوان المسلمين» مستقيلا، اعترف «مهدى عاكف»، أنه كانت هناك صفقة بين الجماعة والأمن جرت قبل تلك الانتخابات.
انزعجت قيادات فى الإخوان من إفصاح المرشد عن الصفقة، برغم أنه لم يدخل فى تفاصيلها ولم يتطرق إلى أسرارها.. وربما أراد أن يطرح سؤالا علنيا مفاده: «إذا كنتم قد اتفقتم معنا فى الانتخابات السابقة، فلماذا تتجهون الآن إلى إعلان الحرب علينا؟».
كان ذلك قبل انتخابات (2010).
فى أحوال الترنح التى بدت عليها الجماعة، وجه الأمن أشد ضرباته ضراوة للقيادات المتشددة فى الجماعة متذرعا بانتسابها لأفكار «سيد قطب»، برغم خطاب المهادنة الذى تبناه المرشد الجديد «محمد بديع» ملمحا باستعداد جماعته للاعتراف بـ«التوريث»
ما الثمن الذى تقاضاه النظام مقابل النسبة العالية من المقاعد التى حازها «الإخوان» فى انتخابات (2005)؟
هذا هو السؤال الذى تغيب إجابته عن كل الاعترافات والشهادات.
كان النظام قلقا من فكرة بناء جبهة ديمقراطية واسعة تشمل الأحزاب الرئيسية والحركات الاحتجاجية وجماعة «الإخوان المسلمين» لخوض الانتخابات التشريعية الوشيكة.
حاول بكل الطرق إجهاض الفكرة، تركز الضغط على جماعة «الإخوان المسلمين»، فهى الأكثر تنظيما وحجما واستعدادا لخوض الانتخابات، والأكثر استعدادا فى الوقت نفسه للمقايضة والمساومة على حساب الحلفاء المدنيين المفترضين.
لم يكن لدى النظام مانع فى صفقة ما مع الجماعة مقابل خروجها من مشاورات الجبهة، التى احتضنها رئيس حزب الوفد فى ذلك الوقت الدكتور «نعمان جمعة»، وترأس اجتماعاتها الدكتور «عزيز صدقى» رئيس وزراء مصر الأسبق.
كانت تلك ضربة كبيرة لمشروع التغيير الديمقراطى.
هكذا اتسعت فجوة الثقة والمصداقية عند لحظة مفصلية بين الجماعة والقوى والأحزاب والشخصيات العامة.
كانت تجربة الانتخابات النيابية عام (2005) كاشفة لقدر برجماتية الجماعة واستعدادها لتبنى خيارات متضادة بحسب مصالحها.
حازت الجماعة فى المرحلة الأولى من تلك الانتخابات على (34) مقعدا وفى المرحلة الثانية (42) مقعدا.
بدا ذلك مفاجئا تماما لقياداتهم حسب تقدير نائب المرشد فى ذلك الوقت «محمد حبيب».
كان ذلك خرقا للاتفاق على النسب المقررة.
جاء التزوير فادحا فى المرحلة الثالثة ولم يفز الإخوان سوى بـ(12) مقعدا.
فى انتخابات (2010) كانت الصورة قد اختلفت فى البلد، الحركات الاحتجاجية تراجعت نسبيا، وبدا النظام مطمئنا إلى مستقبله إلى أن فاجأته ثورة «يناير» من خارج السياق ودون أى دور للجماعة فى الدعوة إليها.
فى أحوال الترنح التى بدت عليها الجماعة، وجه الأمن أشد ضرباته ضراوة للقيادات المتشددة فى الجماعة متذرعا بانتسابها لأفكار «سيد قطب»، برغم خطاب المهادنة الذى تبناه المرشد الجديد «محمد بديع» ملمحا باستعداد جماعته للاعتراف بـ«التوريث».
قبل انتخابات (2010) بدا للجماعة حاجتها إلى إعادة ترميم جسورها مع الأحزاب والقوى السياسية المعارضة.
دعت إلى خوض الانتخابات النيابية المقبلة بجبهة موحدة تضم إلى الإخوان الأحزاب الرئيسية والشخصيات المستقلة العامة.
تحمس رجل الإخوان القوى «محمود عزت» لهذه الفكرة.
أخذت وفود الإخوان تزور الأحزاب الرئيسية، تطرح أفكارها الجديدة، وتبدى ميلا واضحا للتفاهم السياسى فى محاولة لإعادة بناء صورتها التى تعرضت لشروخ عميقة بأثر ما جرى، غير أنها لم تنجح.
برغم أن مرجعية التيار الأكثر تشددا داخل الجماعة تعود إلى خبرة تنظيم عام (1965) وكتابات «سيد قطب»، إلا أن الأجهزة الأمنية اعتقدت أن خروجها إلى السطح يفزع المجتمع ويضع «الإخوان» تحت الضغط المنظم، الذى يفضى لترويض قياداتهم، وعقد الصفقات معهم إذا استلزم الأمر.
لمرتين تاليتين أثبتت «نظرية الفزاعة» فشلها.
الأولى، بما جرى فى «يناير» حين اختطفت الجماعة جوائز الثورة.
والثانية، في ما بعد «يونيو»؛ حيث اصطفت أغلب الأطياف الإسلامية فى خندق واحد.
لم تكن الخلافات الداخلية فى بنية الأفكار والتوجهات محض خديعة وتوظيف أدوار.
كانت تعبيرا عن عمق أزمة الجماعة فى عصور جديدة وعجز أفكارها التقليدية عن إقناع قواعدها.
الصراعات الداخلية من طبيعة الجماعات السياسية، ولا تمت بصلة لأية ادعاءات عن قداسة خاصة.
فى أعقاب الانتخابات الداخلية التى جرت عام (2009) تبددت أية ادعاءات من مثل هذا النوع، وجرت اتهامات معلنة من قيادات لها ثقلها داخل الجماعة بأن تلك الانتخابات افتقرت إلى قواعد النزاهة، وأن اللائحة سمحت موضوعيا بتزويرها.
فى ذلك الوقت تردد داخل أروقة الجماعة أنها ربما تكون على وشك الانهيار النهائى.
على خلفية تفريغ الحياة السياسية، بدت الجماعة فى وضع تنظيمى أفضل بما لا يقاس مع القوى المدنية والشابة مكنها من اختطاف الثورة.
جرت محاولة جديدة لصفقة أخرى مع نائب الرئيس «عمر سليمان».
كان ذلك استطرادا لنهج الصفقات فى أحوال جديدة قبل أن تجد الطريق مفتوحا للسلطة كلها.
فى أية مراجعة جدية كانت الخطيئة الكبرى بالقصة كلها: تفريغ الحياة السياسية من التعدد والتنوع وغياب القواعد الدستورية والقانونية التى تضمن مدنية الدولة وديمقراطيتها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“