أطلق برتران راسل هذه الكلمات، قبل قرنٍ من الزمن. هو الذي كان معروفاً بمعاداته للحروب. وعلا صوته، في كلّ كتاباته ضدّ الفاشيّة والنازيّة والديكتاتوريّة. أي، ضدّ كلّ مَن يكره “الفكر” ويهاب “الأفكار”. لم يتغيّر شيء في ذلك العالم الذي غادره راسل، في مثل هذه الأيام تماماً سنة 1970. بل، انضمّ إلى تلك الأنظمة و”الإيديولوجيّات القاتلة” التي ناهضها، إيديولوجيّاتٌ وأنظمةٌ أخرى. نشُط منظّروها وقادتُها كـ”فِرَق الموت”. وفِرَق الموت هي التي تعمل، عادةً، في مناطق النزاعات الساخنة. تخلق حالة لا تنتهي، من أعمال القتل المدروس والعشوائي والتفجير والتخريب والسرقات. بهدف تحقيق أهدافٍ سياسيّة. عناصر من هذه الفِرَق، ضربت في الساحة اللبنانيّة، قبل يومين. صفّت بستّ رصاصاتٍ، الباحث والناشط السياسي المعارض لقمان سليم. مشهدٌ دموي ليس غريباً علينا، نحن اللبنانيّين، لكنّه مخيف بتوقيته و.. دلالاته.
ليس اغتيال لقمان سليم، إذن، حدثاً استثنائيّاً في لبنان. فلقد عرف بلدنا، وخلال كلّ حقبه التاريخيّة، عشرات الاغتيالات السياسيّة. اغتيالات، تركت آثاراً عميقة على مجتمعنا، وعلى طريقة إدارة الدولة لشؤوننا. صحيحٌ أنّ هذا الاغتيال، وككلّ اغتيال، تحاكي طبيعته الجُرميّة كلّ المفردات التي تفيد الغدر والخساسة والظلاميّة والضعف، أيضاً. إلاّ أنّ اللحظة السياسيّة لتنفيذ الاغتيال، قد تكون الحلقة الأهمّ في سلسلة حلقاته: دافع الاغتيال؛ تهيئة الأجواء المناسبة له؛ إختيار الهدف؛ تقرير اللحظة المناسبة للتنفيذ؛ توظيف واستثمار مفاعيله وتداعياته. فلكلّ اغتيالٍ وظيفة محدّدة، بالتأكيد. حتّى العشوائي منها! فما هي “وظيفة” اغتيال لقمان سليم؟
لا يروم القَتَلة عند اغتيالهم كاتباً أو مفكّراً أو فنّاناً، على وجه التحديد، قتْله فقط. حتّى وإنْ كان هذا الإنسان، هدفهم المقصود بالقتل. لكنّهم يكرّسون، عبر إلغائه، ترويع الآخرين. ترويع مَن قد يخطر لهم أن يسيروا على النهج ذاته للمغدور. فتراهم يجهدون في نسف أفكاره وتشويه سمعته (بعد القتل)، بعبثيّةٍ موصوفة! ووسط الموت الكثير الذي لا ينضب في بلاد الأرز، يأتي اغتيال لقمان سليم ليُنجِز هذه الوظيفة. ليخيف اللبنانيّين. ليروّع أهل الثورة، على وجه التحديد. مثله مثل مواجهات طرابلس الأخيرة. فعلى الرغم من مواقف سليم الحادّة والعلنيّة والمُزمنة والدائمة ضدّ حزب الله ومعه الطبقة الحاكمة “الخاضعة له”، برأيه، غير أنّ قتله كان مفاجئاً. فهو لم يكن ليخيف أو يقلق خصومه، إلى هذا الحدّ. وكان بالإمكان تصفيته، في أيّ زمانٍ ومكان. وهذا ما يطرح السؤال الإشكالي: لماذا الاغتيال الآن، للقمان سليم؟
بقيت عشرات الاغتيالات عالقة، منذ عقود، ولم تصل إلى مطرقة القضاء. فهناك خشية، من أن تفوح رائحتها النتنة على الأطراف الفاعلين، فتودي بسمعتهم أمام الرأي العامّ
بالتأكيد، هو إنذار بتفعيل مشهد الاغتيال السياسي في لبنان، في هذه اللحظة السياسيّة بالذات. بمعنى أوضح، كانت تصفيته صندوقة “البريد السريع” لبثّ الذعر في النفوس المضطربة بفعل القلق من كورونا. لترهيب البعض وتنبيه الجميع. كلٌّ بحسب مكانته وموقعه وموقفه حيال الطغمة الحاكمة. والمقصودون بالترويع، يندرجون ضمن خانةٍ واحدة: كلّ مَن سوّلت (وتسوّل) له نفسه معارضة عصابات الحُكم، قولاً أو فعلاً، أو حتّى مجرّد التفكير بالتعبير عن معارضته هذه. وطبعاً، أناس كثيرون تتطابق مواصفاتهم مع “المقصودين برسالة الاغتيال”. حتّى مَن كانت لا تجمعهم بالراحل لقمان سليم، إلاّ تلك البقعة الجغرافيّة في ساحات التظاهر والاحتجاج. بعبارةٍ أخرى، قد تكون أفكار وعقيدة وسياسة وأسلوب الرجل في المعارضة، تتناقض كلّياً مع أفكار وعقيدة وسياسة وأسلوب آخرين في المعارضة. لكن بالتأكيد، الكلّ يتّفق معه، على أنّ الجنّة هي المكان الذي يتمتّع فيه الإنسان بالأمن والكرامة، وأنّ جهنّم هي ما ليس كذلك. مَن إغتال لقمان سليم؟
لا جوابَ يُمكن أن نَعرِفَهُ على هذا السؤال، فالعقل المدبِّر لأيّ عمليّة اغتيال، يكون، في العادة، ذكيّاً جدّاً. سواء في انتقاء الهدف، أو التخطيط للتصويب عليه، أو اختيار لحظة التنفيذ ومكانها. وإذا ما أخذنا “الموقع السياسي” الذي كان يتموضع فيه المغدور، وسيْل الاتّهامات التي صدرت عن عائلته ورفاقه ومَن يقف معه في نفس “الخندق”، فإنّ هذه الاتّهامات محض سياسيّة، بالمنطق القانوني. ما معناه، أنّ الثابتة التي لا يزيح عنها المجرم، في كلّ الاغتيالات (والجرائم عموماً)، هي الدقّة في تمويه هويّته الحقيقيّة. ودقّته في إصابة الهدف، كي لا تنجو “الطريدة”، إطلاقاً. وهدف الاغتيال واستثمار مفاعيله، يكونان، في بعض الحالات، أهمّ من “الهدف” نفسه. خصوصاً، أنّ مَن “يُلغي” قد لا يكون بالضرورة أقوى من الطرف “المُلغَى”. بل، على العكس، أحياناً. فقد يكون واقع “الّلاغي” ضعيفاً ومُربَكاً وليس قويّاً كما توحي به عمليّةُ الاغتيال، في حدّ ذاتها. وقد يكون طموح “الّلاغي”، في بعض الحالات، هو إعادة تصويب أشرعة السفينة، إذا رآها تُبحِر في اتجاهاتٍ لا تناسبه.
هل سنعرف القاتل؟
استناداً إلى تاريخ الاغتيالات السياسيّة الحديثة، فإنّ الأنظمة الحاكمة، جميعها، تسعى، بكلّ قواها، إلى عدم كشف المنفِّذ. لذا، بقيت عشرات الاغتيالات عالقة، منذ عقود، ولم تصل إلى مطرقة القضاء. فهناك خشية، من أن تفوح رائحتها النتنة على الأطراف الفاعلين، فتودي بسمعتهم أمام الرأي العامّ. من هنا، لا “تحتاج” الاغتيالات السياسيّة، عموماً، إلى تحقيقاتٍ قضائيّة. إذْ، أكثر ما يثير الجدل في هذا المجال، هو الشلل الذي يعتري الأجهزة الأمنيّة والقضائيّة. فهل حدث وسمعتم عن اسم منفّذٍ واحد لعمليّة اغتيالٍ حصلت في التاريخ؟ كلا. فكيف إذا كانت في لبنان؟ عندها نموت مطمئنّين، إلى أنّ الجناة لن يفلتوا من العقاب! من مأمنه يؤتى الحذر، كما يقول المثل العربي.
فوسط أجواء الصدمة والغضب والحزن والقلق عقب الاغتيال، حاولت سلطتنا (مشكورة طبعاً) أن تروّح عن أنفسنا الكئيبة. أطلقت رشقاً من الدعابات. تسالي، بدّدت، إلى حدٍّ بعيد، الأجواء الثقيلة المطبقة على أرواحنا. جعلتنا، مع اللبنانيّين كافةً، نضحك بالصوت العالي حبوراً. نكات، لمعت في سماء “المقرّات” النائمة، مثل feux d’artifice: نستنكر بشدّة ما حصل.. نطالب بالتحقيق لجلاء ظروف الجريمة.. سنكشف ملابسات الاغتيال ونلاحق الفاعلين ونقبض عليهم بسرعة.. سنحاسب المجرمين ونحيلهم إلى القضاء فوراً.. انتظروا التحقيق فالدولة ستقوم بواجباتها.. لا تتسرّعوا بالاتّهامات.. وهكذا دواليك. لا شيء معنا إلاّ كلمات..، كما تقول قصيدة نزار قبّاني. وباتت هذه الكلمات لحُكّامنا الأجلاّء، أشبه ما يكون بخبريّات أبو عبد البيروتي. أي، دخلت تراثنا الشعبي من الباب العريض. وأمست من عُدّة اشتغال الفولكلور السياسي اللبناني. والله يا أصدقاء، في كلّ مرّة يتحدّث فيها أحدهم إلينا في الإعلام، أشعر كما لو إنّه تمّ إلقائي من النافذة. كما لو سقط بي المصعد إلى الهاوية!
كائناً مَن كانت اليد التي أطلقت النار على لقمان سليم، إلاّ أنّ المسؤول الأساسي والمباشر والوحيد، هو هذه الطغمة التي تحكم لبنان. كيف لا، وهي جعلت وطننا، ساحةً مكشوفة كالجبهات الساقطة عسكريّاً
مَن المستفيد من جريمة قتل لقمان سليم؟
قوى السلطة اللبنانيّة الحاكمة، بكلّ أطيافها. فلقد جاءها الاغتيال، ليلبّي حاجتها للتعطيل ومتطلّباتها لشراء الوقت. وكلّ كلامٍ لهم عن حلّ وحكومة قريبة وتدقيق جنائي و.. هو هراء ودجل. لأنّ أيّ حلٍّ سيعني تحلّلهم. وزوال أيّ مشكلة أو أزمة سيعني زوالهم. لذا يتبدّى سياق الاغتيال في لبنان، كضرورة في سياقات السلطة المأزومة. كوجهٍ من وجوه الحرب. أو بالأحرى، كنوعٍ من الحروب. نعم. الاغتيال حلقة من مسلسل الحروب التي دمّرت بلادنا، مراراً. مرّة بالأسلحة العسكريّة. ومرّة بالإفساد. ومرّة بالتعطيل. ومرّة بالفراغ. ومرّة بدسّ السمّ في الغذاء و.. مرّات بسلاح الابتزاز. ابتزاز اللبنانيّين كي يرضخوا لأيّ تسوية. لأيّ حلّ. لأيّ تشكيلة للحكومة. يا إلهي! بات الكلام عن هذه الحكومة مثل “حكاية الحيّة”، كما كانت تقول جدّتي. و”حكاية الحيّة (الأفعى)”، كما تعرفون، هي القصّة التي لا تنتهي ولا ينضب معينها. ماذا بعد هذا الاغتيال؟
كائناً مَن كانت اليد التي أطلقت النار على لقمان سليم، إلاّ أنّ المسؤول الأساسي والمباشر والوحيد، هو هذه الطغمة التي تحكم لبنان. كيف لا، وهي جعلت وطننا، ساحةً مكشوفة كالجبهات الساقطة عسكريّاً. وجمهوريّة مشرّعة، دفعةً واحدة، على كلّ العواصف والبراكين. على كلّ الأزمات والنكبات والكوارث. على الإفلاس والجوع والمرض والظلام والحِداد. وأكثر. لن يتوقّف هذا المسلسل الجهنّمي، الذي يحرق الكبار والصغار، أبداً. يقول مثلٌ بلجيكي، إنّ في الدولة، كما في الجسم البشري، مصدر الأمراض الأكثر سوءًا هو الرأس. لقد فتك السرطان برأس دولتنا. وتفشّى، طوال سنوات، في كلّ الجسم اللبناني. لم تعد تنفع معه جلسات الـ chimio. لذا، ترون “مسؤوليه” يتصرّفون حياله، وفق متلازمة “الموت المبكر”. أي، تلك التي تتعامل مع المريض كأنّه سيموت. أو كأنّه مات فعلاً. مات، فصادروا حشرجاته وعذاباته. ويراهنون، اليوم، على أنّ الجثّة ستكون من حصّتهم، على حدّ تعبير الكاتب اللبناني نصري الصايغ. لكن، متى يحين وقت مصادرة حشرجاتهم، هم؟
من كلّ ركنٍ يطلعون. من كلّ زاوية. من بين ركام بيروت. من بين التفسّخات يُطلّون. كلّ يومٍ يجلب لهم معه، الصراع نفسه. الخواء نفسه. الرغبة نفسها في النسيان، وفي عدم النسيان .نسيان وعدم نسيان، أنّهم حفنة من الفاشلين والعاجزين والمتورّطين بالإجرام المافياوي والثأرات البلهاء. يكرههم الناس. يحتقرهم الثائرون. وتدعو لهم الأمّهات، في صلواتهنّ، بالبلاء العظيم. إلى متى بقاؤهم أيّها الربّ؟ معظم اللبنانيّين أعينهم مغلقة بغبار الخيبة، إلى حدٍّ أصبح يمنعهم من رؤية الحقيقة. يمنعهم من الغرق الهذياني السياسي والإعلامي الذي يعانونه مع عودة النغمات المقزّزة في موضوع الاستحقاق الحكومي.
كلمة أخيرة. يقول الشاعر الفلسطيني سميح القاسم: “.. وعندما أُقتل في يومٍ من الأيام، سيعثر القاتل في جيبي على تذاكر السفر.. واحدة إلى السلام، وواحدة إلى الحقول والمطر، وواحدة إلى ضمائر البشر.. أرجوك ألاّ تهمل التذاكر يا قاتلي العزيز.. أرجوك أن تسافر”. إقتضى أن يكون صمتنا، بعد الآن وفقط، عندما نقف تحيّةً لأرواح الضحايا في هذا الوطن.