فينيقيا المقتولة بالأمس.. لبنان المقتول اليوم 

تستعيد هذه المقالة سجالاً تاريخياً وفكرياً يُقارب عمره ألفي عام، ولا تنفك عناصره تجول في الشرق والغرب بحثاً عن مكتشفات وتنقيبات آثارية وكتابية تُسهم في الإجابة عن السؤال الصعب: هل أخذ أهل اليونان القُدماء؛ المعروفون بالإغريق؛ ديانتهم وآلهتهم وفلسفتهم وعلومهم وفنونهم عن الفينيقيين؟ وهل صحيح أنهم أحدثوا تغييرات فيها وجعلوها ملائمة لأفكارهم وبيئتهم، ثم أعادوا صياغتها وصدَّروها إلى أنحاء المعمورة، بمن فيها فينيقيا نفسها؟

منذ اجتياج الإسكندر المقدوني لممالك الشرق ومدنه، في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد، “تأغرقت” الثقافات المحلية، وسادت لغة اليونانيين وثقافاتهم. وعندما حلّ الرومان مكان أهل اليونان في مواقع السلطة والإدارة والسطوة، واستمروا على هذه الحال لقرون عدة، شاعت الثقافة الرومانية ـ اليونانية.

هذه السيادة للثقافات الوافدة، لم تمنع مفكرين ومؤرخين محليين من مواجهة ما اعتبروه مصادرةً لثقافاتهم واستعلاءً عليهم من جانب اليونانيين. على رأس هؤلاء المتصدين والمواجهين كان فيلون الجبيلي، الذي عاش بين عامي (64 و141 م). تصدى هذا المؤرخ ـ الفيلسوف، الذي يعود نسبُه إلى مدينة جبيل الفينيقية ـ اللبنانية، للثقافة اليونانية من خلال تأليفه كتباً عدة يؤكد فيها الأسبقية الحضارية الفينيقية على نظيرتها اليونانية. لكن كتابه ” مجاهل تاريخ الفينيقيين”، العائد لإبن سُلالته الكاهن سنخونياتن البيروتي (حوالي 1000ق.م)، والذي نقله من الفينيقية إلى اليونانية، يُعتبر دُرة كتبه كونه يُقدّم منظومة متكاملة عن تاريخ الفينيقيين وعقائدهم وتصورهم لبدء الكون والخليقة. وقد قيل عن الصاحب الأصلي لهذا الكتاب، أي سنخونياتن البيروتي، بأنه “أبو التاريخ” وليس هيرودوتس اليوناني المشهور بهذه الصفة.

التأثيرات الفينيقية في الحضارة اليونانية

قبل التطرق إلى كتاب فيلون العائد لسنخونياتن، تفرض إشكالية الكتابة في هذا النوع من السجالات التاريخية الإنعطاف نحو المسار الزمني الذي تناول فيه المؤرخون والباحثون التأثيرات الفينيقية في الحضارة اليونانية. وهو مسارٌ بدأ مع هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد أقرَّ في تاريخه بأخذ اليونانيين بالأبجدية الفينيقية وغيرها. وكذلك بدأ مع سترابو اليوناني (القرن الميلادي الأول) الذي يؤكد في كتاب “الجغرافيا” على أن “الذين أوحوا لهوميروس، صاحب الإلياذة، بهذه الأقاليم الجغرافية، هم الفيينقيون”.

وعلى النسق ذاته، يُدلي المؤرخ فلافيوس يوسيفوس، في القرن الميلادي الأول، بشهادته المنصوصة في كتابه “آثار اليهود القديمة”، وفيها يقول: “اتضح أن كل ما عند الإغريق حديث النشأة، وتاريخه يرجع إما إلى الأمس وإما إلى ما قبل الأمس بيوم. وكما يقر الإغريق، حقاً وصدقاً، فإن المصريين والكلدانيين والفينيقيين يحظون بتاريخ بالغ القدم، ويمتلكون سجلاً بالغ التفرد في العراقة”.

نظرية “النشوء والتكوين”، التي يعيدها فيلون الجبيلي إلى أجداده الفينيقيين، معتمداً على سنخونياتن، لا تخلو عناصرها من تداخل غيبي ـ بشري لشخصيات تتعدد أسماؤها وحكاياتها ومغامراتها وحروبها وصراعاتها. ويعلق فيلون؛ بعد انتقالها إلى اليونان؛ بقوله “الإغريق الذين فاقوا كل البشر بذكائهم الطبيعي، وضعوا يدهم أولاً على معظم هذه القصص، ثم أعادوا كتابتها بطرق مختلفة مع زخرفات أدبية إضافية، قاصدين بذلك إلباس الشخصيات فرح الأساطير”

وبعد يوسيفوس سيأتي يوسابيوس القيصري، مؤلف الكتاب المعروف “تاريخ الكنيسة”، والمتوفي عام 339 ميلادية، ليناقش في كتابه “الإستعداد للحياة الإنجيلية” أفكار فيلون الجبيلي وسنخونياتن البيروتي. وهو أمرٌ سيجري تناوله بالتفصيل، إعتماداً على ما كتبه المؤرخان عيد مرعي ويوسف الحوراني.

يذهب اللبناني ابراهيم سركيس على هذا المذهب في كتابه “الدُر النظيم في التاريخ القديم”، الصادر في عام 1875، بقوله: “وقد عبد الفينيقيون ذات الآلهة التي عبدها اليونانيون بعدهم، غير أنهم ـ اليونانيون ـ غيروا أسماءها”. وكذلك الحال مع ميخائيل افندي غبرائيل في “أساطير الأولين”، الذي أهداه إلى وزير المعارف العثماني زهدي باشا (1894)، وفيه يعرض بالشروحات المُسهبة نظرية التكوين كما يقدمها فيلون الجبيلي، ناقلاً عن سنخونياتن.

وفي “تاريخ المشرق”، لجاستون ماسبيرو (1846ـ 1916)، أن ملكارت كان “في مدينة صور. ومعنى هذه اللفظة ملك المدينة. وقد جعله اليونان بمثابة هرقل عندهم. وجاء في إحدى الروايات المعتبرة عند السلف أن الذي أسّس مدينة طيبة ـ في اليونان ـ هو قدموس الفينيقي، واضع حروف الهجاء اليونانية، فانتشر بسبب ذلك تمدن الشرق عند قبائل اليونان التي لم تكن تجاوزت الهمجية تماماً”.

ارتباطٌ واندماجٌ

في كتاب “الحضارة الفينيقية”، الذي اشرف على تعريبه عميد الأدب العربي طه حسين عام 1948، يقول كبير الآثاريين الفرنسيين جورج كونتينو: “الحقيقة هي أن كل بلاد اليونان أخذت الشي الكثير عن الفينيقيين”. وعلى ما يرد في “الحضارات السامية القديمة” للمؤرخ الإيطالي سبتينو موسكاتي فقد “حدث ارتباطٌ واندماجٌ بين الآلهة الكنعانية وآلهة اليونان. وملحمة كرت تؤدي بنا إلى أهم المسائل التي أثارتها الكشوف الحديثة أمام المستشرقين. ففكرة القيام بحملة حربية للظفر بعروس جميلة تذكرنا بالألياذة ـ هوميروس ـ ومن الصعب البت في مسألة العلاقة بين الأدبين بأن نجعل أحدهما معتمداً على الآخر. ويمكن القول إن الدراسات ستحقق تقدماً عظيماً في المستقبل، وستبين ارتباط الحضارة اليونانية ارتباطاً عضوياً بالأسس الأدبية والدينية والتاريخية التي سبقتها وجاورتها. والحضارة الكنعانية ستكون على أعظم قدر من الأهمية في هذا البحث”.

يعتقد الفرنسي جان مازيل في “تاريخ الحضارة الفيينقية الكنعانية” أن جدول الضرب “قد ابتُكر في صيدون. ويُقال إن فيتاغورس قد أسَّس في هذه المدينة مدرسته الشهيرة التي تقوم على الرياضيات. ومن المفترض أن علم التاريخ والجغرافيا قد ظهر على يد الفينيقيين. وحكاية قدموس انطلقت من فكرة اختطاف أوروبا ـ إبنة ملك صور ـ وهي فكرة إخصاب الحضارة الإغريقية بالإسهام الفينيقي الذي يمثله قدموس”.

الحروف الأبجدية

ويُلفت أستاذ الفلسفة وعضو “المجمع العلمي العربي” في دمشق محمد كامل عياد (1911ـ 1986)، في كتابه “تاريخ اليونان”، وهو من الكتب الرائدة في هذا المجال، إلى أن “في الدرجة الثانية بعد المصريين يأتي الفينيقيون بين الأمم التي اتصل بها اليونانيون واقتبسوا الحضارة عنها. لقد كان من الطبيعي أن يتعلم اليونانيون أشياء كثيرة من الفينيقيين. كذلك يبدو لنا تأثير الحضارة الفينيقية في عبادة أفروديت التي تشبه عشتروت. أما الشيء الأهم الذي كان له أعمق الأثر في الحضارة اليونانية وتطورها الفكري السريع فهو اقتباس الحروف الأبجدية، وأن تبدأ الفلسفة اليونانية بأبحاث طاليس الذي يرجع أصله إلى الفينيقيين”.

المؤرخ يوسف الحوراني: يجب إعادة النظر بجميع معارفنا عن الثقافات القديمة التي اتصلت بثقافة اللبنانيين القدماء من قريب أو بعيد. لقد توقف التاريخ الكنعاني في لبنان عندما قضى الإسكندر الحاقد على عنفوان مدينة (332 ق.م.)، بينما قضى الحقد الروماني على إبنة صور الكبرى قرطاجة (146 ق. م.)

وكتب استاذ تاريخ الحضارة في جامعة الإسكندرية، لطفي عبد الوهاب، في واحدة من إصدارات “عالم الفكر” الكويتية (خريف 1981) أن اليونانيين وبعد العصر البرونزي (2500 ـ 1200 ق.م.) عاشوا “فترة جهل بالكتابة امتدت إلى حوالي القرن الثامن ق.م. تقريباً قبل أن ينقل اليونان الحروف الأبجدية عن الفينيقيين”. وتبعاً لرأي أستاذ تاريخ الحضارة اليونانية والرومانية في جامعة حلوان المصرية، محمود السعدني، في “تاريخ وحضارة اليونان”، الصادر عام 2008، “لقد كان لإختراع الحروف الهجائية اليونانية المشتقة عن الفينيقية أكبر الأثر في توحيد تصور الفكر اليوناني منذ بدايات القرن الثامن ق.م”.

الفينيقيون نشروا الحضارات

وفي دراسة “المؤثرات الحضارية الفينيقية في الحضارة اليونانية” (2016)، للأكاديمية السعودية حصة تركي الهذَّال، “كان الفينيقيون أول أمة بحرية في التاريخ، ونشروا حضارتهم وحضارات غيرهم. ولقد تأثر بهم الإغريق تأثراً هائلاً، وصل إلى حد الإنبهار الشديد. وتأثر اليونانيون بأنماط الفينيقيين في بناء المدن وشكلها. وكثير من الآلهة اليونانية أصلها فينيقي”. وتقول السورية رفاه الدبَّاغ، في “التأثيرات الحضارية المتبادلة بين الحضارتين الفينيقية والإغريقية”، والتي نوقشت عام 2017 في جامعة دمشق: “كان الفينيقيون في حقل الفن، وفي حقول حضارية أخرى أساتذة للإغريق”.

ينعقد رأي أستاذ التاريخ القديم العراقي المعاصر، خزعل الماجدي، في “المعتقدات الإغريقية” على أن آلهة الإغريق “تكوّنت على مرّ الأزمان من أصول مختلفة. فبعضها يرجع إلى أصول آسيوية، وأغلبها يرجع إلى أصول كنعانية شامية وفينيقية، وبعضها إلى أصول مصرية، وبعضها آرية”. ويجزم المؤرخ السوري أحمد داوود “أن اسماء الآلهة والأمكنة والمدن والمواقع والعلماء والفلاسفة والأدباء ومخترعي الكتابة وغير ذلك من مجالات الحضارة الأخرى، سوف تجد أصولها من خلال مؤلفات سانخونياتن”.

ويرى خزعل الماجدي أيضاً “أن الإله ديونسيوس هو من فينيقيا. وهو ذاته الإله أدونيس. وهناك شبه كبير بين إسميهما وأسطورتيهما”. ومثلها آلهة  cabiri لحماية الملّاحين، التي اشتهرت منذ القرن الخامس قبل الميلاد. والإسم مشتق من المفردة الفينيقية “كابيرم”، أي الكبير أو العظيم. ولا يشك الماجدي، بعد أن يستعرض المنظومة العقائدية لسنخونياتن البيروتي وفيلون الجبيلي، بأن “الآلهة القديمة الكنعانية الأصل أُخذت عن الآلهة السومرية أو البابلية، وأنه من كنعان رحلت إلى اليونان فأعيدت صياغتها. وفي حالتي انتقال الآلهة الفينيقية إلى إغريقيا عبر الوسطاء أو الأصلاء الفينيقيين فالخلاصة واحدةـ وهي أن آلهة الإغريق جاءت من بلاد الفينيق”.

لكن ثمة ما يوجب التمعن في كيفية انتقال الآلهة من فينيقيا إلى اليونان. وثمة ما يجب ملاحظته في قراءة ميخائيل افندي غبرائيل، الذي ورد ذكره سابقاً. فالفينيقيون كانوا توحيديين، ابتداء وقبل عصر الخرافات كما يسميه “إن سكنيتن ـ سانخونياتن ـ الفيلسوف الفينيقي يبتدىء حكاياته بذكر إيل أو عليون وهو إسم سامي معناه الأعلى ـ وهو ـ من أسماء الله تعالى وُضع لغير من هو في زمن الخرافات، أن سكنيتن قد أورد كيفية التكوين بما يشبه كل الشبه ما أورده ـ النبي موسى”. وقد يعود ما يقوله غبرائيل إلى اعتقاد شريحة من المؤرخين بالتقارب الزمني بين سنخونياتن والنبي موسى، وهو ما يقترب إلى مجاورة معناه المؤرخ اللبناني يوسف الحوراني (1931ـ 2019) في كتابه “نظرية التكوين الفينيقية” إذ أنه يقترب من إخراج الفينيقيين من العقائد الوثنية.

إقرأ على موقع 180  الترامبية تشابك روافد غير تقليدية، قومية.. وشعبوية!

ماذا في كتاب سنخونياتن؟

لا بد أولاً من إعادة التوضيح بأن هذا الكتاب ظلَّ مجهولاً إلى أن أحياه فيلون الجبيلي. وبقيت الشكوك تحيط به بفعل ذهاب فئة من المؤرخين المتشككين إلى الظن بأن فيلون ابتكر شخصية سنخونياتن، وابتدع نصوصها، ووضع الكتاب في مرحلة كان فيها الصراع الثقافي بين الفينيقيين واليونانيين على أشده. لكن اكتشافات وتنقيبات عام 1929 في “رأس شمرة” على الساحل السوري أظهرت مطابقة التنقيبات مع كتابات فيلون، فأُعيد الإعتبار لهذا الكتاب كأحد أهم المراجع التي تتحدث عن تاريخ الفينيقيين وعقائدهم. وعلى ما يقول عيد مرعي، عضو “مجمع اللغة العربية” وأستاذ تاريخ الشرق القديم ولغاته في جامعة دمشق، إن فيلون ركز على “فكرة أساسية، وهي عرض التاريخ الفينيقي وإبراز المساهمات الفينيقية في الحضارات الكبرى. والهدف الأساس من ذلك كان إظهار وطنيته الفينيقية، وإظهار معاداته للتفوق الثقافي الإغريقي الذي كان سائداً في عصره. وهو خلص بالنتيجة الى أن الإغريق لم يكونوا مبدعين بل مقلدين.. ومقلدين سيئين”.

في كتاب “فيلون الجبيلي” لعيد مرعي، يقول فيلون:

“كتّاب الدين المحدثين ـ اليونانيون ـ رفضوا رفضاً تاماً الأحداث كما وقعت منذ البداية، واخترعوا الحكايات والأساطير. وهكذا أعادوا بشكل خاطىء القصص الحقيقية إلى أحداث كونية، وأنشأوا غموضاً أدخلوا فيه شيئاً من الهذيان بحيث لم يعد على أي شخص أن يدرك ماذا حدث بالفعل. أنا بحثتُ في هذه الأشياء لأننا رغبنا أن نعرف التاريخ الفينيقي بدقة، وفحصنا مواداً كثيرة ليست تلك المحفوظة لدى الكتاب الإغريق لأنها غير ثابتة ـ محفوظات الإغريق ـ وأُلفت من قبل البعض بهدف الخصام لا أكثر. وبعد أن رأينا عدم التوافق بين الإغريق أصبحت لدينا القناعة بأن الأمور كانت كما كتب سنخونياتن “.

يضيف فيلون: “البرابرة القُدماء جداً، وبخاصة الفينيقيين والمصريين، أخذت عنهم بقية البشرية أفكارها”. ثم يُعدّد اكتشافات الفينيقيين وأعمالهم وصناعاتهم، مثل ثياب البشر ـ وكانت في أولها من جلود الحيوانات ـ وتشييد البيوت الخشبية، وركوب البحر، واهتموا بصناعة السفن والرماح الحديدية والصيد واللبُن لبناء الجدران وعمران القرى واقتناء الأغنام واستخدام الملح واكتشاف الأبجدية واستخدام الأعشاب للطبابة وإنشاد الأغاني وغيرها. لكن أهمها على الإطلاق كيفية نشوء الخلق والكون.

الفينيقيون كانوا توحيديين … والفيلسوف سكنيتن كان يبتدىء حكاياته بذكر إيل أو عليون، وهو من أسماء الله تعالى… وأورد كيفية التكوين بما يشبه ما أورده النبي موسى.. والحوراني في كتابه “نظرية التكوين الفينيقية” يقترب من إخراج الفينيقيين من العقائد الوثنية

إن نظرية النشوء والتكوين التي يعيدها فيلون الجبيلي إلى أجداده الفينيقيين معتمداً على سنخونياتن لا تخلو عناصرها من تداخل غيبي ـ بشري لشخصيات تتعدد أسماؤها وحكاياتها ومغامراتها وحروبها وصراعاتها. ويعلق فيلون بعد انتقالها إلى اليونان بقوله “الإغريق الذين فاقوا كل البشر بذكائهم الطبيعي وضعوا يدهم أولاً على معظم هذه القصص، ثم أعادوا كتابتها بطرق مختلفة مع زخرفات أدبية إضافية قاصدين بذلك إلباس الشخصيات فرح الأساطير”.

وبكثير من الأسى على التراث الفينيقي المسلوب يتطرق فيلون إلى الأعمال الشعرية الأسطورية لكبير الشعراء الإغريق هسيودس ـ هزيود ـ الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد: “من هنا ألّف هسيودس وشعراء الأجيال المشهورين رواياتهم الخاصة، ووضعوا ملخصات عن نظريات نشوء الكون ومعارك الجبابرة، والعمالقة وقصص الخصي، والتي تجولوا بها فهزموا بواسطتها الحقيقة بشكل كامل. وقد تعودت آذاننا على هذا عصوراً، واستسلمت لأوهامهم، فبتنا نحتفظ بالأساطير التي تلقوها كحقيقة مقدسة في البداية، وساعدت على ذلك قوة الزمن التي جعلت التخلص من قبضتها صعباً بحيث تبدو الحقيقة ثرثرة لا معنى لها”.

“الإستعداد للحياة الإنجيلية”

ولا يغادر الأسى نفسه المؤرخ اللبناني يوسف الحوراني، فيكتب في مقدمة كتابه “نظرية التكوين الفينيقية وآثارها في حضارة الإغريق”:

“نستطيع أن نعتبر النصوص المشروحة في هذا الكتاب أنموذجاً من التراث الفينيقي المتناثر في ثقافات شعوب البحر الأبيض المتوسط. وهي تدعونا لإعادة النظر بجميع معارفنا عن الثقافات القديمة التي اتصلت بثقافة اللبنانيين القدماء من قريب أو بعيد. لقد توقف التاريخ الكنعاني في لبنان عندما قضى الإسكندر الحاقد على عنفوان مدينة صور سنة 332 ق.م. بينما قضى الحقد الروماني على إبنة صور الكبرى قرطاجة سنة 146 قبل الميلاد”.

في هذا الكتاب يعتمد الحوراني في جوانب من نصوصه على كتاب “الإستعداد للحياة الإنجيلية” ليوسابيوس ـ أوزيب ـ القيصري ويتناول نظرية الخلق الفينيقية الواردة في كتاب فيلون الجبيلي العائد بدوره لسنخونياتن. فيوسابيوس يعرض الكتاب ويشرحه وينقده من موقعه اللاهوتي، ويقول: “قام فيلون الجبيلي بترجمة جميع تاريخ سانخونياتن من لغة الفينيقيين إلى اللغة اليونانية، وبذلك جعله معروفاً. أما بخصوص سنخونياتن، الذي يعني صديق الحقيقة، فقد جمع كل التاريخ القديم الموجود في المعابد في كل مدينة، وصنَّف تاريخه. وهو عاش في زمن سميراميس ملكة الأشوريين ـ أو ـ في سنوات سابقة لها أو على الأقل تتوافق مع زمن حوادث طرواده”.

في الديانتين، المسيحية والإسلام، يتوسل المؤمنون بأسماء الشهداء والأولياء لتحقيق أمنياتهم. وفي هذه الحالة لا نستطيع تطبيق فكرة “الألوهة” المتعارفة في مفاهيمنا على العقيدة الفينيقية بـ”الآلهة”، ما دام هؤلاء ينفون صفة المطلق والقدرة الكلية عن آلهتهم بمجرد اعترافهم بفنائهم

ويكمل الحوراني، نقلاً عن فيلون الجبيلي كما جاء في كتاب يوسابيوس: “أن اللاهوتيين الحديثين قد أتلفوا كل أثر للأمور التي حدثت عن أصول الأشياء، وذلك بإختراع الإستعارات في الأساطير بغية جعلها تتناسب مع حركة الكون. وعلى هذا النسق أنشأوا طقوس الأسرار، ونشروا ظلمة كثيفة فوق جميع هذه الأشياء بحيث لم يعد من السهل تمييز ما حدث في الواقع. إن سنخونياتن أنجز خطته بإقصاء القصص المبنية على العناصر والإستعارات حتى وصل إلى الأزمنة التي أعقبت الكهنة الذين شاؤوا إخفاء الحقيقة وإحلال الخرافة الشريفة مكانها، أصل السر، وهي التي لم تصل بعد إلى الإغريق. إنه من الضروري الإعلان سلفاً أن الفينيقيين والمصريين كانوا مرشدين لجميع الناس الآخرين. كانوا يرون أن الآلهة الكبار هم أولئك الذين حققوا اكتشافات لمساعدة وجودنا أو الذين عمّموا الخير بين الشعوب. وقد دُعي هؤلاء بـ”المحسنين” بسبب أعمال الخير الكثيرة. وقد عبدوهم كآلهة. ولهذه الغاية كرَّسوا لهم هياكل. وقد احتفل الفينيقيون بأكبر أعيادهم على إسم هؤلاء، وتيمنوا بإسم ملوكهم الذين كان بعضهم يُعتبر كآلهة، حيث كان لهم آلهة خالدون وآلهة فانون”.

يتوقف يوسف الحوراني أمام هذا العرض الذي يقدمه فيلون الجبيلي، ويقدم قراءة جديرة بالتدقيق تكاد تُخرج الفينيقيين من الصورة الوثنية التقليدية التي يُزجون بها. فقد “انتقلت عقيدة التيمن إلى المسيحية، حيث أصبح الشهداء قديسين شفعاء. كذلك انتقلت إلى الإسلام، حيث غدا الأولياء ذوي كرامات. وفي الديانتين يتوسل المؤمنون بأسماء هؤلاء لتحقيق أمنياتهم. وفي هذه الحالة لا نستطيع تطبيق فكرة الألوهة المتعارفة في مفاهيمنا على العقيدة الفينيقية بالآلهة ما دام هؤلاء ينفون صفة المطلق والقدرة الكلية عن آلهتهم بمجرد اعترافهم بفنائهم”.

طمس الحقائق

ويلاحظ الحوراني أيضاً، بعد استعراض تاريخ الفينيقيين وعقائدهم مثلما يقدمها فيلون نقلاً عن سنخونياتن: “أن آلهة الفينيقيين لا يتمتعون بأي مناعة سحرية خرافية. فهم يموتون في عراك مع الحيوانات البرية. وبعد موتهم يتم تقديسهم وتخليد ذكرهم بالتأليه دون أي ذكر للمعجزات والخوارق”. وهذا الشرح يعيدنا إلى قوله السابق بإنتفاء المطلق والكلية عنهم. وبهذا المعنى لا يعدو كونهم بشراً متميزين أو أبطالاً أو قادة عظماء أو صانعي مكارم ومفاخر ومآثر يجري تبجيلهم وتخليدهم بعد موتهم بغية الإقتداء بأفكارهم وسلوكياتهم.

لا يمكن إحصاء ما أخذه اليونانيون عن الفينيقيين بحسب رأي فيلون، ومن أمثلة ذلك “كرونوس، الذي يدعوه الفينيقيون إيل الذي حكم هذا البلد ـ فينيقيا ـ وبعد موته جرى تقديسه”. وكذلك جوبيتر، الذي هو الإسم اللاتيني لبعل. وبونتس pontus، والد صيدون الذي كان بصوته أول من اكتشف أغاني الترنيم. ويختم الحوراني، ناقلاً عن فيلون: “أن هزيود ـ الإغريقي ـ وشعراء الدواوين صنعوا نظرية الآلهة وصراع الجبابرة، وصراع التيتان الذين نقلوهم من مكان إلى مكان وطمسوا كل حقيقة”.

طمس اليونانيون، ومن جاء بعدهم، كل الحقائق حتى غدا الفينيقيون كلهم مثل أدونيس المقتول الذي كانت تبكيه النساء الفينيقيات عند نبع بلدة أفقا في أعالي جبال لبنان نائحات قائلات:

إضربن على صدوركن أيتها الفتيات/ ومزقن أرديتكن.

خلجة الختام: ما أشبه فينيقيا المقتولة بالأمس بلبنان المقتول اليوم.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  قاعدة إماراتية - إسرائيلية في سقطرى اليمنية.. والقرار أميركي