تتضمن إهتمامات جو بايدن، حسب الخطاب نفسه، إستعادة مكانة الولايات المتحدة على المسرح الدولي؛ إستعادة التحالف مع أوروبا؛ تعزيز الديموقراطية في دول حلف الأطلسي (الناتو) وحول العالم؛ وضع حد لـ”الإعتداءات السيبرانية الروسية” على الدول الغربية وبالأخص الولايات المتحدة، بالإضافة إلى إحترام حقوق الإنسان في روسيا وإطلاق سراح المعارض الروسي ألكسي نافالني، مواجهة إعتداءات الصين الإقليمية وتجاوزاتها الإقتصادية وإنتهاكاتها لحقوق الانسان.
يعكس إلقاء بايدن خطابه في وزارة الخارجية إدراكه أن عهد ترامب – بومبيو أضعف معنويات الطاقم الديبلوماسي في وزارة الخارجية. قبل عام، ذكر مفتش الخارجية أن الوزارة تعاني من “نقص في الموظفين، وضعف القيادة، وموظفين غير متمرسين وغير مدربين”. بات الديبلوماسيون محبطين ومحاصرين مما إرتد سلباً على مستوى العمل الديبلوماسي في شتى السفارات الأميركية حول العالم.
يريد بايدن إعادة ترسيخ النظام الدولي، كما كان عليه قبل رئاسة دونالد ترامب. يعتبر الرئيس الأميركي أن الرؤساء السابقين من كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري، جهدوا منذ الحرب العالمية الثانية لبناء هذا النظام الذي يخدم السلام العالمي والإستقرار السياسي والإقتصادي في كافة دول العالم. كان النظام العالمي أميركياً بإمتياز، سياسياً واقتصادياً ومالياً. أصبح فوضوياً في الحقبة الترامبية مع شعار “أميركا أولاً”، وتدنى النفوذ الاميركي عبر الكرة الأرضية وفي المؤسسات والتكتلات الدولية والاقليمية. إختلف ترامب مع الحلفاء ولم يحل المشاكل العالقة مع الأخصام. دعم الدول السلطوية وقوّض الدول الديموقراطية وباتت واشنطن فعلياً من دون حلفاء دوليين حقيقيين.
يريد بايدن العودة إلى ما قبل تاريخ العشرين من كانون الثاني/ يناير 2017، وذلك قبل ان يواجه روسيا والصين وحتماً قبل ان يعالج المشاكل العالقة في المناطق الأخرى من العالم، ومنها مشاكل الشرق الأوسط المزمنة والعاصية عن الحل، كما هو الشعور السائد في واشنطن.
هذا، دون أن ننسى أن الهم الأول والثاني والثالث للرئيس الاميركي الجديد هو العمل لتحقيق وعده الرئيسي للشعب الاميركي خلال الانتخابات الرئاسية، أي ضبط جائحة كورونا خلال مدة أقصاها الصيف القادم.
تعتبر واشنطن ان النفوذ الايرانى في اليمن ما زال حاليا ضعيفا وان وقف القتال والوصول الى تسوية بين الاطراف المتنازعة قد يحد من امكانية زيادة النفوذ الايرانى وان تصبح إيران محورا اساسيا في السياسة اليمنية، كما هو وضعها في العراق ولبنان وسوريا وقطاع غزة
بالنسبة الى الشرق الاوسط، ربما هدفت إدارة بايدن إلى إدارة الأزمات المزمنة ومحاولة الوصول الى تهدئة الازمات التي قد تنفجر وبالأخص الحرب المدمرة واللانسانية في اليمن وإحتمال امتلاك ايران قنبلة ذرية. ولعل أول إرهاصات التعامل مع ملف المنطقة سلسلة قراراته القاضية بتجميد شحنات أسلحة وذخائر للسعودية والامارات ووقف دعمه لهما في الحرب اليمنية، وتعيين موفد له الى اليمن بهدف وقف اطلاق النار، ومن ثم البدء بمفاوضات ترمي الى مساعدة كل من السعودية والإمارات للانسحاب من الحرب الدموية والمدمرة وترك الحلول لليمنيين، بمساعدة المجتمع الدولي. بالاضافة الى ذلك، تعتبر واشنطن ان النفوذ الايرانى في اليمن ما زال حاليا ضعيفا وان وقف القتال والوصول الى تسوية بين الاطراف المتنازعة قد يحد من امكانية زيادة النفوذ الايرانى وان تصبح إيران محورا اساسيا في السياسة اليمنية، كما هو وضعها في العراق ولبنان وسوريا وقطاع غزة. كما يذكر البعض في الادارة ان الرئيس جون كينيدي اعترف عام ١٩٦٣ بالجمهورية اليمنية بينما كانت السعودية تدعم بقوة الملكيين، انصار الامام البدر الذي التجأ الى السعودية بعد الانقلاب عليه في ايلول/ سبتمبر ١٩٦٢. والجدير بالذكر ان مصر بقيادة جمال عبدالناصر كانت تدعم الجمهوريين وقتذاك.
وفي ما يتعلق بإيران، تدرك الادارة الاميركية الجديدة ان حل النزاع بين ايران وكل من دول الخليج واسرائيل سيكون صعبا ان لم يكن مستحيلا. ترمي واشنطن الى إبقاء منطقة الشرق الاوسط خالية من السلاح النووي، ولذلك، تريد ادارة بايدن العودة الى الوضع الذي سبق انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق الدول الخمس زائداً واحد مع ايران عام ٢٠١٥. لم تتوصل الإدارة لغايته إلى رسم الطريق للعودة إلى الإتفاق. يزيد تعقيد الموقف ما يصدر من “تصريحات إستفزازية” على لسان كبار المسؤولين الايرانيين والداعية الى ازالة العقوبات التي فرضها ترامب قبل عودة ايران الى الاتفاق، بالاضافة الى ان ايران على موعد مع انتخابات رئاسية في حزيران/ يونيو القادم. كذلك، هناك البعض في ادارة بايدن يفكر بعودة تدريجية ومتوازية الى الاتفاق بحيث تلتزم واشنطن بازالة العقوبات وطهران بالتقيد التام بمتطلبات الاتفاق.
والجدير بالذكر، أنه بينما يجب على حكومة ايران اخذ موافقة المرشد علي الخامنئي بشأن العلاقات مع الولايات المتحدة، على ادارة بايدن ان تقنع الكونغرس بمجلسيه بشأن العلاقات مع ايران. في هذا السياق، يؤكد قريبون من ادارة بايدن ان العودة للاتفاق النووي ليست تطبيعا، وأن الإدارة لن تسعى الى تطبيع قد يسيء الى علاقة الولايات المتحدة باسرائيل ودول الخليج. لذلك، يمكن اختصار العودة الى الاتفاق بعدم السماح لايران بإمتلاك السلاح النووي والحفاظ على شرق اوسط من دونه. (طبعًا، باستثناء اسرائيل التي تملكه منذ ستينيات القرن الماضي).
ومع ان بايدن يؤيد “اتفاقات إبراهام” التي انعقدت بين إسرائيل واربع دول عربية، الا انه، وبعد مرور حوالي اربعة اسابيع على تنصيبه رئيساً، لم يتصل بعد برئيس حكومة اسرائيل بنيامين نتنياهو، الذي يحاكم حاليًا بتهمة الفساد في محكمة اسرائيلية، وكان دونالد ترامب قد اتصل به بعد ثلاثة ايام من تنصيبه. قد يعود موقف بايدن السلبي من نتنياهو الى مواقف الاخير السابقة بدعم ترامب ومرشحي الحزب الجمهوري الذين واجهوا اوباما وبايدن في انتخابات سابقة، او الى تأخر نتنياهو تهنئته بالرئاسة الى ما بعد اجتماع المجمع الانتخابي في ١٤ كانون الاول/ ديسمبر الماضي. ويذكر البعض ان بايدن ربما ما زال يتذكر اعلان نتنياهو انشاء مستوطنة جديدة في الضفة الغربية بينما كان يقوم بزيارة لاسرائيل من اجل إستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين.
هناك تعاطف وحذر وخيبة امل إزاء لبنان في واشنطن، التي لا تريد الانهيار والفوضى في بلاد الارز. واشنطن تقول: “ساعدوا انفسكم حتى نتمكن من مساعدتكم. وفي نفس الوقت، سنستمر في مساعدة جيشكم والقوى الأمنية”.. وحالياً ربما تدعم واشنطن الجهود الفرنسية للتوصل إلى تأليف حكومة جديدة
على كل حال، لن تعود السفارة الاميركية الى تل ابيب وسيبقى مقر ومكتب السفير الاميركي في القدس. لكن بايدن قد يبلغ رئيس حكومة اسرائيل ان ادارته مع حل الدولتين كما عمل لذلك الرؤساء السابقون، بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك اوباما. كذلك، سيسمح بايدن لمنظمة التحرير الفلسطينية باستعادة مكاتبها في واشنطن التي اقفلها ترامب منذ حوالي عامين، كما سيعيد المساعدات الاميركية الى السلطة الفلسطينية ومنظمة غوث اللاجئين (الاونروا). اما بالنسبة الى إستئناف عملية السلام، ثمة اعتقاد في واشنطن ان بايدن ربما انتظر نتائج الانتخابات التشريعية الاسرائيلية ليقرر امكانية توفر النوايا الايجابية نحو مفاوضات التسوية.
وترجح مناخات واشنطن بقاء عديد القوات الاميركية في كل من افغانستان والعراق وسوريا من دون تغيير. هناك اعتقاد لدى المسؤولين انه ليس هناك امكانية للوصول الى حلول عادلة ومنصفة لمشاكل تلك البلدان في المدى القريب، ويمكن دعم القوات الاميركية بسرعة اذا اقتضت الظروف.
العلاقة مع السعودية معقدة. صداقة قديمة تعود الى عام ١٩٤٥ واجتماع الملك السعودي عبدالعزيز بن سعود والرئيس الاميركي فرانكلين روزفلت في سفينة حربية اميركية في بحر السويس، واتفاقهما على الامن مقابل النفط. حاليا، وصلت اميركا للاكتفاء الذاتي وليست بحاجة للنفط السعودي. لذلك، لم يعد للسعودية تلك القيمة المضافة التي كانت لها لغاية الولاية الثانية من عهد الرئيس باراك اوباما.
مع اعتلاء الملك سلمان العرش السعودي تغيرت نظرة واشنطن من الرياض. اصبح الامير محمد بن سلمان ولي العهد، بعد ازاحة عمه وابن عمه القريب جدا من مؤسسات واشنطن الامنية، من منصب ولي العهد، هو الحاكم بامره. وبالرغم من انه رفع الكثير من القيود الاجتماعية المرحب بها في واشنطن، الا ان اعلانه الحرب على اليمن، واحتجازه مئات الاغنياء السعوديين بتهمة الفساد وابتزازهم بمليارات الدولارات، واغتيال المعارض السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، اثار الى حد بعيد المؤثرين على القرار في واشنطن إبتداء بالكونغرس والصحافة ومراكز التفكير. غير ان ترامب، بالتعاون مع صهره وكبير مستشاريه جاريد كوشنر، اعطى ولي العهد دعما قويا لتغطية القصة الحقيقية لاغتيال جمال خاشقجي، كما صرح ترامب. اضافة الى ذلك، البرودة بين البلدين في عهد اوباما.
هذه الوقائع وغيرها تجعل العلاقة بين البلدين صعبة ولكن ليست مستحيلة. ومع ان الزمن الذي كان الخبراء والباحثين في المراكز التفكيرية يتكلمون ويكتبون ايجابيا عن السعودية ودول الخليج قد ولّى، الا انه ما زال المؤثرون في القرار يتعاطفون مع المملكة التي بلغت قمة نفوذها في عصر سفيرها لدى واشنطن بندر بن سلطان، وبكل الأحوال، تبقى السعودية مهمة إقتصادياً وإستراتيجياً وسياسياً لاميركا في الشرق الاوسط.
وماذا عن لبنان؟
هناك تعاطف وحذر وخيبة امل إزاء لبنان في واشنطن، التي لا تريد الانهيار والفوضى في بلاد الارز. واشنطن تقول: “ساعدوا انفسكم حتى نتمكن من مساعدتكم. وفي نفس الوقت، سنستمر في مساعدة جيشكم والقوى الأمنية”.. وحالياً ربما تدعم واشنطن الجهود الفرنسية للتوصل إلى تأليف حكومة جديدة.
لبنان ليس مهما في استراتيجية الولايات المتحدة الاميركية في الشرق الاوسط، لكنه يبقى ذات اهمية نظرا لوضعه المميز اجتماعيا وسياسيا واعلاميا عندما يصطلح الوضع وينعم بالسلام والاستقرار. ما زال كثيرون يتذكرون عصر لبنان الذهبي ويتمنون العودة الى ذلك الزمن. وتعتبر واشنطن ان الخلاف المستديم في لبنان محلي ولن يتطور ليصبح اقليمياً، ومن ثم لن تهدد مشاكل لبنان منظومة الأمن الاقليمي.
باختصار، يبدو ان واشنطن تحضر لسياسة تجنبها الغوص في وحول الشرق الأوسط ولذلك ربما هدفت سياستها الى ادارة الازمات وغض النظر عن حلها.