الأقليات بين التبسيط والتعقيد.. قراءة نقدية لمقالة عطالله السليم

قرأت باهتمام مقالة الأستاذ عطالله السليم المنشورة في موقع 180POST حول مأزق الأقليات والأكثريات في العالم العربي، وهو مقال يقدّم محاولة تفسيرية مهمة في مناخ عربي مأزوم. غير أن هذا النص، برغم صيغته التحليلية، وقع في مجموعة من الأفخاخ الفكرية التي تستدعي التوقف عندها، لا من باب الجدل لأجل الجدل بل من باب إثراء النقاش وتوسيع أفق مقاربة قضية مفتوحة على مصراعيها حالياً.
أولاً؛ لفت انتباهي في مقال الزميل عطالله السليم هو انزلاقه إلى نمط تفسير كلاسيكي يعيد الأزمة إلى الاستعمار وحده، مع تحميل اتفاقية سايكس بيكو والقوى الدولية كل تبعات تشظي مجتمعاتنا. هنا لا ننكر الأثر المدمّر للاستعمار، لكن اختزال التاريخ بهذه الصورة يطمس الأدوار الداخلية لمجتمعاتنا، وكأنّ العنف والانقسام والتمييز طُبعت على شعوبنا من الخارج فقط. الحقيقة أكثر تركيباً: مجتمعاتنا أنتجت عبر تاريخها آلياتها الخاصة من التمييز والإقصاء، عبر العصبيات القبلية والطائفية، وعبر تحالفات اجتماعية كانت وما تزال تكرّس القهر حتى في غياب الاستعمار المباشر.
ثانياً؛ لفت انتباهي ما يمكن تسميته “شيطنة الدولة وتقديس المجتمع”. يتحدث الكاتب عطالله السليم عن أنظمتنا بوصفها المذنب الأوحد الذي دمّر نسيج التعدّد، لكنه يتغافل عن حقيقة أن المجتمع “الأهلي” نفسه قد ساهم بفعالية في قتل الوطنية الجامعة. من يراقب الديناميكيات الاجتماعية في دولنا المشرقية يدرك أن التطييف لم يُفرَض فقط من قمة الدولة، بل جرى تعزيزه في كل مفاصل الاقتصاد والثقافة والتعليم، وجرى استثماره من قبل زعامات أهلية وعشائرية ودينية وطائفية لبناء مصالحها الخاصة. إن تبسيط المعركة إلى “أنظمة ظالمة مقابل مجتمع مسالم” ليس فقط قراءة مجتزأة بل هو أيضاً وصفة لإعادة إنتاج الفشل.
ثالثاً؛ وفي خضم سعيه لإبراز مأساة الأقليات، يقع المقال في خطأ التعميم الضحوي (نسبة إلى ضحية)، حيث يتم تصوير كل الأقليات مهمّشة دائماً وضحية أبدية. هذا الطرح يتجاهل تماماً لحظات الهيمنة والامتياز التي تمتعت بها بعض الأقليات في مراحل مختلفة، كما في التجربة السورية أو اللبنانية التي وردت كاستثناء لكنه بقي هامشياً في المقال. كما لا يتوقف السليم عند الأدوار القمعية التي لعبتها نخب أقلوية معيّنة في السلطة، من العلويين في سوريا إلى بعض القيادات المارونية في لبنان، ولا يحاول مساءلتها عن مسؤولياتها في ترسيخ المنظومات الطائفية والديكتاتورية.
المطلوب من مقالات الرأي ألا تكرّر مقولات من نوع “الاستعمار” و”الأنظمة”، بل أن تُضيء على مسؤوليات الداخل؛ أن تطرح أسئلة صعبة حول طبيعة البنى الاجتماعية؛ أن تعترف بالتحولات الاقتصادية والثقافية العميقة؛ أن تبحث جدياً عن مخارج لا تقف عند التوصيف بل تذهب نحو إعادة بناء المشروع الوطني على قاعدة العدالة والمساواة لا الضحية والجلاد
رابعاً؛ ثمة إغفال كامل للعامل الطبقي. فالأقليات ليست كتلة واحدة متجانسة. بين أبناء الأقليات توجد فوارق طبقية صارخة، وضمن الأكثريات أيضاً تتداخل الاعتبارات الاقتصادية مع الهويات الفرعية. تغييب هذا البعد الاجتماعي يحرم القارئ من رؤية أعمق للصراعات، حيث يتمّ تجييش الفقراء ضد بعضهم بعضاً لمصلحة تحالفات سلطوية وطبقية معقّدة لا علاقة لها لا بالأكثرية ولا بالأقلية.
خامساً؛ حين يتحدث السليم عن المواطنة كمُنقذ، يفعل ذلك من دون أي تفصيل حول شروط تحقّق هذه المواطنة. المواطنة ليست قراراً سياسياً يُعلَن من فوق، بل مسار شاق يمر عبر إصلاح اقتصادي وثقافي عميق. لا المواطنة تُبنى في ظل اقتصاد زبائني محكوم بالريوع، ولا تتحقق في أنظمة تعليمية تكرّس الانقسام. بغياب أي تصور عملي لبناء هذه المواطنة، يبدو الطرح مجرّد شعار أخلاقي لا أكثر.
سادساً وأخيراً؛ اللافت للانتباه في المقال هو الحنين غير المبرر إلى رموز “الأقليات الكبرى” في القرن العشرين، من أنطون سعادة إلى ميشال عفلق إلى جورج حبش وكمال جنبلاط وغيرهم كثير. هؤلاء مثّلوا لحظة سياسية مضت، أما اليوم فالمشهد أكثر تعقيداً: نخب الأقليات لم تعد قائدة لمشاريع وطنية أو أممية، بل تحوّلت، في أحيان كثيرة، إلى جزء عضوي من شبكات السلطة الطائفية أو الرأسمالية، أو تمّ تهميشها بفعل الانهيارات السياسية والاجتماعية المستمرة.
كل هذه الملاحظات لا تهدف إلى نفي واقع الظلم الذي تتعرّض له فئات واسعة من الأقليات في المنطقة العربية. لكن المطلوب من مقالات الرأي ألا تكرّر مقولات من نوع “الاستعمار” و”الأنظمة”، بل أن تُضيء على مسؤوليات الداخل؛ أن تطرح أسئلة صعبة حول طبيعة البنى الاجتماعية؛ أن تعترف بالتحولات الاقتصادية والثقافية العميقة؛ أن تبحث جدياً عن مخارج لا تقف عند التوصيف بل تذهب نحو إعادة بناء المشروع الوطني على قاعدة العدالة والمساواة لا الضحية والجلاد.
الأستاذ عطالله السليم؛
ما كتبته خطوة في النقاش، لكنه لا يكتمل من دون الاعتراف بأن المعركة الكبرى ليست فقط مع الأنظمة، بل مع ما ترسّخ في الجماعات الأهلية، في ثقافتها وسلوكياتها وتحالفاتها. الطريق طويل ولا يكفي فيه لوم الاستعمار ولا الأنظمة وحدها.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "متحدون من أجل لبنان".. تظاهرة فنية باريسية ـ بيروتية
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  النفط الأميركي... ما وراء "السقوط الحر"