إتساع الهوة بين الجمهورية.. والإمبراطورية الأميركية

تعّودنا نحن العرب والمسلمين أن نعّرف أيامنا على أساس مواقيت وضعها الغرب والولايات المتحدة بالذات، لكن ماذا لو عكسنا الآية في دلالة نريد منها ومن خلالها القول إن القرائن والوقائع تدل أن شيئاً تغيّر ويجب أن نلحظ هذا التغّير في ما تخطه أقلامنا وتخطط له عقولنا قبل ذلك.

لقد تميزّت الولايات المتحدة الأميركية، عشية دخولها الحيّز العالمي بداية الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية الألفية الثانية، بجملة مميزات أعطتها هذا الزخم والحضور التوّسعي والإمبراطوري حتّى لو كانت تتقصّد التنكر لهذا المصطلح.

الميزة الأولى – قوّة وحيوية المجتمع:

وهو ما أكدّه ورسخّه الدستور الأميركي وسعى لحمايته وتحفيزه، فثقافة “المجتمع الأميركي”، كانت ولأسباب كثيرة، سبّاقة ومحّفزة لحكومة الولايات المتحدة للمبادرة وكسب الفرص في البيئة الخارجية، وهذا ما اعترف به وودرو ولسن الرئيس الأميركي الأشهر، فهو سبقها بل دفعها وضغط عليها مستفيداً من موقعه وخصائصه (حتّى السلبية منها لجهة تخفيف حدة تناقضاته وصراعاته) وفرصته؛ فكانت الشركات العابرة ورأس المال المتحرك بلا قيود والمبادرة التي لا تعرف حدوداً سياسية، وكانت السياسة في خدمتها ومسهلة لتوّسعها، وهو أيضاً ما حذّر منه ذات يوم الرئيس فرنكلين روزفلت، عندما تحدّث عن المجمّع الصناعي العسكري وتأثيره المتنامي على السياسة الأميركية، واللوبيات الممتدّة من أميركا الى العالم وتالياً من العالم إلى الداخل الأميركي، فقبل المنتظم السياسي دورها واعترف بها وقبل النظام والدستور بتأثيرها كواقع مقنّن، برغم ما يمكن أن تشّكله هذه الظاهرة من تناقض صارخ مع الديموقراطية، فيقبل المنتظم السياسي في أميركا عملياً أن تكون “إسرائيل” أحد أهمّ الناخبين والمؤثرين في رسم السياسة الأميركية، وربّما أن تشّكل أبرز ولاياتها من غير المواطنين الأميركيين.

الميزة الثانية – القوّة العسكرية:

يعترف كبار إستراتيجيي الولايات المتحدة ونخبها، ومن يدور في فلكهم، كبرنارد لويس، أنّ القوة العسكرية كانت هي جسر العبور الأميركي قبل القيم، وكانت قيمها تلحق بجنازير الدبابات والاجتياحات والضربات الصادمة والمحّطمة لأعدائها منذ الحرب العالمية الأولى حتى غزو العراق وما بينهما.. فكانت تجتاج العالم بإظهار القوّة العسكرية، لتفرض هيبتها وهيمنتها وسطوتها وتسلب الآخرين إرادتهم وأي إمكانية أو قدرة على التفكير بمقاومتها أو احتمال مواجهتها كما يمكن تفسير الحرب على العراق 2003؛ فوصلت قيمها وثقافتها الى دولنا ومجتمعاتنا على وقع الإنجازات العسكرية المهولة!

الميزة الثالثة – “الاعتراف” و”الشرعية”:

قد تعتبرها بعض المدارس السياسية نتاج النقطتين السابقتين أو ربّما يمكن اعتبارها نقطة منفصلة بذاتها كما ترى مدارس أخرى وهو ما نؤمن به نحن أيضاً. لقد فرضت الولايات المتحدة أو لنقل أوجدت في الوعي العالمي العام حالة من الاستلاب، واختلاق نوع أو شكل من الـ”شرعية” و”الاعتراف” العالمي بها كحقيقة وواقع فعلي يفترض التعايش معه وقبوله، بل بات السؤال عند النخب هل يمكن أن نعيش من دون أميركا كترداد غير واعٍ لما تقوله أميركا من أنّ العالم لا يستطيع العيش من دونها! ولم يكن أحد يجرؤ من القوى الدولية في التصّدي أو المجابهة أو المجاهرة بنقد هذه الشرعية المدّعاة أو حتّى الإضاءة على ثقوبها الكثيرة.. فهل أميركا تُنتقد أصلاً؟

تحّقق قناعة تامة على امتداد العالم اليوم أنّ الولايات المتحدة لا تملك خطاباً للبشرية، لا بل لا تملكه لمواطنيها ابتداءً. فإذا كانت تريد أن تقّدم نفسها كحاجة للبشرية، عليها أن تجدّد جاذبيتها أمام مجتمعها

إن أخطر ما يحدث في الولايات المتحدة اليوم – بمعزل عن النقاش في إمكانية أو عدم إمكانية معالجته – هو التالي:

– يفقد المجتمع الأميركي اليوم حيويته وتكاد تضمر “روح الأمّة” فيه.. وفي أحسن الأحوال يمكن أن نتحدّث عن فتور اجتماعي بدل الحيوية أو لنقل مسار تشّظٍ أشبه بكرات لعبة البليارد بالحد الأدنى.

– بروز عيوبها للآخرين؛ وانكشاف أي أمر أخطر من نفس حدوثه، ففي الثانية يُنتزع الاعتراف وتذوي الشرعية – المصطنعة – التي طالما جلس على كرسيها المستّبد باستقرار وسعى لتأبيدها بعيون الآخرين.

– تحّقق قناعة تامة على امتداد العالم اليوم أنّ الولايات المتحدة لا تملك خطاباً للبشرية، لا بل لا تملكه لمواطنيها ابتداءً. فإذا كانت تريد أن تقّدم نفسها كحاجة للبشرية، عليها أن تجدّد جاذبيتها أمام مجتمعها وأن تحّل مشاكله التي ما انفتأت تتجاوز مشاكل مجتمعات كثيرة وتفوقها خطورة في جوانب كثيرة.

– قوّتها العسكرية بأنّها باتت محاصرة بالمحدودية، فليست كل قوّتها يمكن أن تتحّول الى قدرة كما أثبتت كل الوقائع، فالقوّة تتوزّع وتتجزأ ويعاد ترتيب عناصرها وتثقيل عواملها.

– مجتمعها الذي لا يعي بحسب الدراسات والاستطلاعات لحظته التي يمّر بها، هل سيكون قادرا على حمل رؤيتها الامبراطورية وتبعاتها، فللامبراطورية أكلاف كبيرة خصوصاً في عالمٍ آخذ بالتحّول. ما يفيد أنّ الهوّة بين الجمهورية والإمبراطورية في اتساع مضطرد.

– إنّ الخطاب الذي غذّته بل وأسسّت له خارج حدودها من طبقيات وعنصريات وأنماط صراع متعّددة يبدو أنّه ارتكس وصار اليوم يتفاعل في داخلها. ويكفي النظر بأنّ أميركا تمّكنت من تعريف “الإرهاب الإسلامي” كما أسمته، لكن اليوم كيف ستعّرف الإرهاب الأميركي الداخلي وهل ستجد له تعريفاً بعد أن اعترفت أنّه أحد مهددات الأمن القومي كما أعلنت إدارة جو بايدن؟

إقرأ على موقع 180  واشنطن "تُحرج" الإمارات: معنا أم مع الصين؟

لو دققّنا في كثير ممّا وصلت اليه أميركا اليوم، سنجد للثورة الإسلامية الإيرانية التي انطلقت في شباط/ فبراير 1979، بمعنى ورؤية وخطاب مغاير ومختلف في الإقليم والعالم، إسهام كبير إن لم نقل الأكبر في ما وصلت إليه أميركا اليوم، من خلال أمرين أساسيين؛ الأوّل، نزع الشرعية والاعتراف عن الولايات المتّحدة؛ الثاني، صناعة الردع في أهّم الأقاليم، ودفع الدول والشعوب على التجرؤ على أميركا وامكانية تحّديها.

يكفي الشعوب المتأثرة بقيم هذه الثورة وخطابها على إمتداد المنطقة والعالم ثقتها في أنها تسير في طريق تحّررها الصحيح..

Print Friendly, PDF & Email
بلال اللقيس

باحث سياسي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الشرق الأوسط ضيف ثقيل على البيت الأبيض