البحر الأحمر.. من نجدة المسيحيين إلى هجرة المسلمين إلى الحبشة (3)

شكّلت محرقة الأخدود عام 523 م التي تعرض لها نصارى نجران كما هي ترجيحات الكتابات التاريخية، منعطفا حاسما في اندفاع الجيش الحبشي لعبور البحر الأحمر وإسقاط حُكم ذي نواس الحميري، وإذ تطرق الجزء الثاني من هذه السلسلة إلى ما كتبه المؤرخون المسلمون حول تلك المحرقة، فموجبات البحث تقتضي الولوج إلى ما كتبه المسيحيون أيضا، ويتطرق الجزء الثالث إلى إخراج الأحباش من اليمن وإلى موقع البحر الأحمر في الدعوة الإسلامية.

أولاً؛ الروايات المسيحية حول أصحاب الأخدود:

في تعريب عن السريانية للأب يوحنا عزو يعود إلى شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو 1933 نشرتها مجلة “المشرق” اللبنانية حول محرقة الأخدود، وقائع تفصيلية يرويها أحد معاصري تلك الفترة، وهو الأسقف شمعون الأرشامي بعنوان “شهداء نجران”، وحيث كان شاهدا على ما قاله موفدو ذي نواس حين جاؤوا إلى ملك الحيرة عام 524 م ليعقدوا حلفا معه ويحثوه على اضطهاد النصارى كما في نجران، ويروي الأرشامي الوقائع التالية:

“في العشرين من كانون الثاني/يناير 524 للمسيح، خرجنا من حيرة النعمان مع القسيس ابراهيم بن افروس الذي أوفده يوستنيان ملك الروم إلى المنذر ملك الحيرة ليعمل على السلم مع الرومانيين، وبعد ان جدّ بنا السير عشرة أيام انتهينا إلى الملك المنذر (…) وإذ برسول من ملك الحميريين إلى المنذر ملك الحيرة، وهو حامل رسالة فيها يعرّفه بعبارة ملؤها الزهو والتبجح ما أفرُغ على نصارى نجران من أكوام الأسواء والأعذبة”.

وبعد ذلك راح الأرشامي يشرح ما جاء في رسالة ملك حمير الجديد مخاطبا فيها ملك الحيرة “إن الملك الذي أقامته الحبشة في بلادنا قد مات، وحلول فصل الشتاء ثبطهم عن امّ بلادنا، فاستأثرتُ أنا بالمُلك على بلاد الحميريين، وعنّ لي أن افتتح مُلكي بإمتحاق النصارى وإبادتهم، فتأتى لي بداءة أن أصانع الحبشة في بلادنا، فتمكنتُ من القاء القبض عليهم ونحرهم عن آخرهم، وهم يعدون 280 رجلا بين راهب وعلماني (…) وانطلقتُ إلى نجران (…) وعرضتُ عليهم النكران بالمسيح والتهود مثلنا فأبوا (…) وقُتل زعماؤهم جميعا، أما البقية فهربوا، وأصدرنا الأمر بقتلهم حيث يُعثر عليهم”.

ولما انتهى مبعوث الملك الحميري من تلاوة ما جاء به إلى ملك الحيرة، وفقا لما كتبه الأرشامي “بادرنا إلى كتابة هذه الرسالة ليطلع عليها الأساقفة الهاربون إلى مصر، لكي يلم بهذه الأمور كلها رئيس أساقفة الإسكندرية، فيحضونه على الكتابة لملك الحبشة كي لا يغفل عن تفقد الحميريين بما يمكن من الإسراع”.

وفي “الشهداء الحميريون العرب في الوثائق السريانية” الصادر في دمشق عام 1966 لبطريرك أنطاكيا وسائر المشرق أغناطيوس يعقوب الثالث:

“لما تُليت الرسائل أمام الملك المنذر ـ النص لشمعون الأرشامي ـ كتبنا ملتمسين أن تُنقل هذه الأمور إلى الأساقفة الهاربين إلى مصر، وبواسطتهم إلى رئيس أساقفة الإسكندرية ليكتب بدروه إلى ملك الحبشة واساقفتها لينجدوا الحميريين (…) وليعلم الأساقفة أيضا أن اليهود مستترون في ملاجىء كنائس الروم وهياكلهم، في حين أن رفاقهم يرتكبون جرائم في حق المسيحيين في بلاد الحميريين ـ و ـ يهود طبريا (…) يوفدون إلى بلاد حمير كهنة يثيرون الفتن ضد المسيحيين الحميريين، فإذا كان الأساقفة يريدون بقاء المسيحية، ليلتمسوا من الملك ـ قيصر الروم ـ إلقاء القبض على رؤساء كهنة طبريا ـ اليهود”.

ويحضر البحر الأحمر في تعليق البطريرك يعقوب الثالث على الوثيقة السريانية الثالثة بقوله “إن ملك الحبشة انجد الكنيسة الحميرية، فشخص بجيشه إلى بلاد الحميريين بحرا، وحاربوا الحميريين في البحر وقتلوا منهم خلقا كثيرا”.

مجلة “الهلال”: “سيف بن ذي يزن آخر ملوك التتابعة في اليمن، وكانت الحبشة قد فتحت بلاد اليمن على عهد أسلافه، فخرج إلى القسطنطينية واستنجد قيصر الروم على إخراج الحبشة من بلاده فلم ينجده، فالتمس ملك فارس فأنجده بجيش أخرج الأحباش من اليمن”

ثانياً؛ البحر الأحمر بين الشرق والغرب:

في السير الشعبية العربية مكانة رفيعة لسيف بن ذي يزن (516 ـ574 م) تصل المبالغات فيها إلى مستويات الأسطرة وحدود الخرافة، كما يقول ذوو العلم بالأدب الشعبي، إلا أن فصل الواقع عن الأسطورة يتيح تعقب تاريخ هذا الملك الذي أخرج الأحباش من بلاده لكنه سقط غيلة بأيدي بقاياهم، فكان آخر الملوك الحميريين في اليمن.

قبل أن يتولى سيف بن ذي يزن مقاليد المُلك كانت جولة الحُكم معقودة للأحباش “وخرج سيف بن ذي يزن إلى قيصرـ ملك الروم ـ يستجيش على الحبشة، فأقام سبع سنين ثم رده وقال لا أحاربهم، فسار إلى كسرى، فوجّه بأهل السجون ووجًه معهم رئيسا يقال له وهرز، فحارب الحبشة وغلب على البلد ثم ملك سيف بن ذي يزن” استنادا إلى ما يقوله اليعقوبي (ت: 904 م) في تاريخه الشهير بـ”تاريخ اليعقوبي”.

عن الرفض الذي لقيه سيف بن يزن عند ملك الروم، يقول الشاعر الجاهلي أمية بن الصلت:

لا يطلب الثأر إلا إبن ذي يزن/ أقام في البحر للأعداء أحوالا

أتى هرقل وقد شالت نعامته/ فلم يجد عنده الأمرالذي قالا.

وفيما لا يُعلّل اليعقوبي الأسباب الدافعة بذي يزن إلى طلب العون من قيصر او من كسرى، فأبو جريرالطبري (ت: 923 م) في “تاريخ الأمم والملوك” ينقل عن محدثيه “فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري حتى قدم على قيصر ملك الروم (…) فلم يجد عنده شيئا مما يريد، فخرج حتى قدم الحيرة على النعمان بن المنذر، فشكا إليه ما هم فيه من البلاء والذل (…) فخرج معه إلى كسرى (…) ـ فأرسل ـ كسرى ـ معه ثماني سفائن في كل سفينة مئة رجل، وجمع سيف من استطاع من قومه (…) ونفى الحبشة من اليمن”.

هذه الأسباب يوردها المسعودي (ت: 956 م) في “مروج الذهب” بتوكيد حاسم إنما مع اختلاف حيال من أخرج الأحباش من اليمن وهل هو سيف بن ذي يزن أم إبنه معد يكرب، ويقول المسعودي في “المروج”:

“ملك اليمن مسروق بن أبرهة، فاشتدت وطأته على اليمن وعمّ أذاه سائر الناس، وكان سيف بن ذي يزن قد ركب البحار ومضى إلى قيصر يستنجده، فأبى أن ينجده، فمضى إلى كسرى أنو شروان فاستنجده وسأله النصرة، فوعده انوشرون بالنصرة، وشغل ـ انشغل ـ بحرب الروم، ومات سيف بن ذي يزن، فأتى بعده إبنه معد يكرب، فوقف بين يدي أنو شروان فقال انا ابن الشيخ الذي وعده الملك بالنصرة على الحبشة، فوجُه معه أهل السجون (…) ـ وقُتل مسروق ـ فانكشفت الحبشة (…) وأتت معد يكرب الوفود من العرب تهنئه بالمُلك”.

إقرأ على موقع 180  جبهة البحر الأحمر في صلب معادلات حرب غزة 

من الكتابات الحديثة حول سيف بن يزن ما ورد في مجلة “الهلال” المصرية ـ اللبنانية (آذار/مارس 1900) وفيها “سيف بن ذي يزن آخر ملوك التتابعة في اليمن، وكانت الحبشة قد فتحت بلاد اليمن على عهد أسلافه، فخرج إلى القسطنطينية واستنجد قيصر الروم على إخراج الحبشة من بلاده فلم ينجده، فالتمس ملك فارس فأنجده بجيش أخرج الأحباش من اليمن”.

وفي دراسة مطولة بعنوان “سيرة سيف بن ذي يزن” لنبيلة إبراهيم منشورة في مجلة “تراث الإنسانية” المصرية (تموز/يوليو 1968) التي كان يرأس تحريرها عباس محمود العقاد “الملك سيف نشأ في ظل ظروف سياسية دفعته إلى بغض الأحباش وإلى الرغبة الملحة في القضاء على سلطانهم والرغبة في تخليص اليمن من سلطة الأحباش” وكتب رامي شريم في “الموقف الأدبي” السورية (نيسان/ابريل 2012) أن سيف بن ذي يزن “وُجد في اليمن او ما كان يسمى وقتها جنوب الجزيرة العربية في فترة تسبق ظهور الإسلام بقليل حوالي عام 575 م، وقد ساهم في دحر الإحتلال الحبشي الذي كان يسيطر على اليمن”.

كتب رئيس جامعة صنعاء الأسبق وكبير شعراء اليمن المحدثين عبد العزيز المقالح (1933 ـ 2022) في مجلة “الآداب” اللبنانية (تشرين الثاني/نوفمبر 1970 “رسالة إلى سيف بن ذي يزن” يقول فيها:

في أفواهنا ما زلتَ أسطورة 

وفي تاريخنا تتكرر الصورة 

وعبر شواطىء “العربي” و”الأحمر”

تظل جموعنا تسهر 

وترقبُ عودة الثائر الأسمر.

عاد جعفر بن أبي طالب واصحابه عام 628 م من الحبشة عبر سفينتين، وكان المسلمون قد فتحوا “خيبر” ويروي إبن هشام في “السيرة” وأبو الفرج الأصفهاني في “مقاتل الطالبيين” والمسعودي في “مروج الذهب” وإبن كثير في “البداية والنهاية” أن النبي محمد قال بعد عودة جعفر “والله لا أدري أنا بأيهما أسرّ ـ أكثر سرورا ـ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر”

ثالثاً؛ البحر الأحمر وهجرة المسلمين إلى الحبشة:

يرتبط البحر الأحمر بتاريخ الدعوة الإسلامية ارتباطا وثيقا، فعبره انتقل المسلمون الأوائل إلى الحبشة بحثا عن الأمن والأمان برعاية ملك الأحباش المعروف بالنجاشي، وذلك بعدما اضطهدتهم قريش وسامتهم سوء التنكيل والضيم، وفي “السيرة النبوية” لإبن هشام (ت: 833 م):

“لما رأى رسول الله ما يصيب اصحابه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يُظلم عنده احد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا، فخرج المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم”.

وبعدما يُحدّد إبن هشام أسماء الأوائل العشر من المهاجرين وكانوا تحت امرة عثمان بن مظعون “خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون (…) فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله قد أمنوا بأرض الحبشة، فبعثوا ـ إلى النجاشي ـ عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، فقالا له: ضوى إلى بلدكم غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، وقد بعثنا إليك أشرافُ قومهم لتردهم إليهم (…) ثم أرسل ـ النجاشي ـ إلى أصحاب رسول الله ـ و ـ سألهم (…) فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب فقال بعث الله إلينا رسولا، فدعنا إلى الله لنوحده وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة (…) ثم قرأ له من ـ سورة مريم ـ فبكى النجاشي وقال إن هذا الذي جاء به عيسى، فلا والله لا أسلمهم”.

يتفق العلامة علي بن إبراهيم القمي (ت: 940 م) مع إبن هشام في “تفسير القمي” حيث يقول “لما اشتدت قريش في أذى رسول الله وأصحابه أمرهم أن يخرجوا إلى الحبشة، وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم، فلما بلغ قريشا خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، فوردوا على النجاشي فقال عمرو: إن قوما منا خالفونا في ديننا فردهم إلينا، فبعث النجاشي إلى جعفر فجاؤوا به (…) فقال: يا جعفر هل تحفظ مما أنزل الله على نبيك شيئا، فقرأ عليه سورة مريم، فلما سمع النجاشي بكى وقال هذا والله هو الحق(…) ورجع عمرو إلى قريش وأخبرهم بأن جعفرا يعيش في أرض الحبشة في اكرم كرامة”.

وفي رواية الطبري” لما استقر بالذين هاجروا إلى أرض الحبشة القرارُ واطمأنوا، تآمرت قريش، فوجهوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي، وأمروهما أن يسألا النجاشي تسليم المسلمين، فلم يصلا إلى ما أمل قومهما من النجاشي، فرجعا مقبوحين”.

وفي “الكامل في التاريخ” لإبن الأثير “أن كبار القوم في قريش، حين وصلتهم أخبار المهاجرين المسلمين رأت أن النجاشي قد أحسن صحبتهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي أمية فسارا حتى وصلا إلى الحبشة (…) ثم ارسل النجاشي إلى اصحاب النبي فدعاهم فحضروا، وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب (…) فقال النجاشي هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال جعفر نعم، فقرأ عليه ـ سورة مريم ـ فبكى النجاشي وقال: والله لا أسلمهم إليكم أبدا”.

عاد جعفر بن أبي طالب واصحابه عام 628 م من الحبشة عبر سفينتين، وكان المسلمون قد فتحوا “خيبر” ويروي إبن هشام في “السيرة” وأبو الفرج الأصفهاني في “مقاتل الطالبيين” والمسعودي في “مروج الذهب” وإبن كثير في “البداية والنهاية” أن النبي محمد قال بعد عودة جعفر “والله لا أدري أنا بأيهما أسرّ ـ أكثر سرورا ـ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر” (يُتبع؛ الجزء الرابع يوم الأربعاء المقبل).

(*) راجع الجزء الأول: البحر الأحمر.. حروب الفوز بـ”طريق الآلهة”

(**) راجع الجزء الثاني: البحر الأحمر.. من النبي موسى إلى أصحاب الأخدود

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  قراءة في الإعلان الروسي ـ الصيني.. حقبة دولية جديدة