لعل النظر فى مسألة تحول موقف الخديوى عباس من الحركة الوطنية المصرية مثيرة للتأمل، فالخديوى الذى بنى شرعيته على معارضة حقيقية وجادة للإنجليز وعلى تأييد قوى لمصطفى كامل ورفاقه، قد بدأ فى الانقلاب التدريجى على الحركة الوطنية، وخصوصا بعد وفاة كامل ووصل هذا الانقلاب إلى حد اتهامه لزعماء تلك الحركة بالتآمر ضده!
مراجعة مذكرات الخديوى «عهدى” ( مرجع سبق ذكره، ص 120ــ128)، توضح لنا هذا التحول! فالخديوى فى مذكراته اتهم معاونى مصطفى كامل بتأليب العلاقة بين الأخير وبين الخديوى، ثم أخذ يكيل الاتهامات إلى الجميع، بمن فيهم عرابى نفسه! فقد ادعى أن أحمد عرابى كان مجرد أداة فى يد الإنجليز لمعاداة الأقباط ومن ثم كسر الروح الوطنية المصرية وتشكيل أسباب لعدم الاستقرار حتى يستغلها الإنجليز لصالحهم! لاحظ أن هذا ــ للغرابة ــ كان اتهام مصطفى كامل لعرابى أيضا! كما اتهم الخديوى فى مذكراته محمد فريد بالغرور وضعف الشخصية وعدم القدرة على العمل السياسى المستقل!، بل وقد اتهم الخديوى فريد بأنه لا يفهم المصريين وأنكر عليه استخدامه شعار «مصر للمصريين»، قائلا إن فريد نفسه كان من أصل مغربي! بل والأكثر من ذلك أن الخديوى عباس هاجم حزب الأمة بضراوة واتهمه صراحة بأنه يستوحى أفكاره وخططه من اللورد كرومر للتخلص من حكم الخديوى والدولة العلوية!
***
الحقيقة أن الخديوى عباس، وبعكس سنواته الأولى فى السلطة، أخذت شعبيته فى التدهور، بل وبتخليه عن الحركة الوطنية بعد وفاة كامل، كان لقمة سائغة فى يد الإنجليز، حيث أخذت مواقفه تضعف فى مواجهتهم حتى تم خلعه عن حكم مصر فى النهاية!
لم يقصر فريد فى قيادة الحركة الوطنية، ولكنه واصل الكفاح داخليا وخارجيا، فداخليا استمر اهتمامه بالعمل النقابى المؤسسى، كما كان أحد المهتمين بالصحافة والتعليم، وكان أحد الداعين إلى تأسيس الجامعة المصرية، أما خارجيا، فقد واصل الاهتمام بالدعاية للقضية المصرية فى أوروبا، وقد استغل الجمعيات المصرية التى تكونت فى أوروبا لتكوين علاقات هامة مع برلمانات الدول الأوروبية ونخبها، كما تمكن عبر هذه الجمعيات من التواصل مع الصحافة والرأى العام الأوروبى.
على أى حال، يمكن القول إنه ومع نهاية العقد الأول من القرن العشرين، كانت التجربة الحزبية المصرية أكثر مأسسة وتنظيما، وكنا أمام ثلاثة أحزاب رئيسية وفاعلة فى الحياة السياسية المصرية وهى الحزب الوطنى، حزب الإصلاح الدستورى، وحزب الأمة.
حادثة دنشواى الشهيرة التى انتهت بإعدام 4 والسجن للعشرات فى عقوبات تراوحت بين 25 عاما والسجن لمدة عام مع الجلد، أدت إلى زيادة الروح القومية لدى الجماعة السياسية الوطنية المصرية وأسهمت فى تسييس الفلاحين والذى انفجر بعد ذلك وظهر بوضوح فى ثورة 1919
فى كتابه القيم «دراسات فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر: 1517ــ1952» والمنشور عن دار المعرفة الجامعية بالإسكندرية عام 1989، يتعرض المرحوم الدكتور عمر عبدالعزيز أستاذ التاريخ بجامعة الإسكندرية، لأهم الأحداث السياسية التى شكلت ملامح ومواقف الأجندة السياسية لهذه الأحزاب وهى:
أولا: قضية طابا حيث حاولت الدولة العثمانية انتزاع سيناء من مصر عام 1892 ولكن عارض الإنجليز هذه المحاولة فبقيت تحت السيادة المصرية حتى عام 1906. ولكن وفى يناير من ذاك العام (1906)، قامت الدولة العثمانية باحتلال طابا مما استدعى أزمة عنيفة بين الدولة العثمانية من ناحية وبين الدولة المصرية من ناحية أخرى، وقد انحاز الإنجليز للمصريين مما أدى إلى مفاوضات ثلاثية انتهت بوضع كل شبه الجزيرة (بما فيها طابا وباستثناء خليج العقبة) ضمن السيادة المصرية!
قطعا لم يتدخل الإنجليز من أجل الانحياز لسيادة الدولة المصرية، فقد كان هذا لا يعنيهم من الأساس، ولكن كان التدخل من أجل حماية المصالح الإنجليزية فى قناة السويس! وانقسمت القوى السياسية المصرية بين منحاز للدولة العثمانية ضد الإنجليز (الحزب الوطنى وزعيمه مصطفى كامل)، وبين رافض للاحتلال العثمانى والإنجليزى معا ومنحاز للسيادة المصرية، ومن هذا الفريق الثانى كان تلاميذ الشيخ محمد عبده الذين دعوا إلى عدم الانخداع بالخلافة العثمانية وطالبوا بتأييد حق المصريين فى التحرر من الاحتلالين، وكان هذا هو بداية تأسيس حزب الأمة!
ثانيا: حادثة دنشواى الشهيرة التى انتهت بإعدام 4 والسجن للعشرات فى عقوبات تراوحت بين 25 عاما والسجن لمدة عام مع الجلد، أدت إلى زيادة الروح القومية لدى الجماعة السياسية الوطنية المصرية وأسهمت فى تسييس الفلاحين والذى انفجر بعد ذلك وظهر بوضوح فى ثورة 1919، كان لهذه الحادثة أثر هام فى الحياة السياسية المصرية، حيث انقسم المصريون بين الحركة الوطنية المدعومة من الفلاحين والأقباط وعامة الشعب، وبين طبقة الملاك الأرستقراطية الذين اختار معظمهم تأييد الإنجليز لتأمين مصالحهم!
جاءت حادثة دنشواى لتعضد الموقف الوطنى للأقباط، إذا إن الحركة الوطنية المصرية بزعامة كامل ومن بعده فريد قد أكدت على المكون الوطني/المصرى وعلى الوحدة بين عنصرى الشعب، وهو ما استجاب له الأقباط وانضموا إلى الكفاح الوطنى ضد الإنجليز ولم يكن فى ذلك أى اختلاف عن كفاح باقى المصريين!
***
وهنا من المهم الوقوف على وتدقيق موقف الأقباط السياسى من كل هذه الأحداث. فالأقباط ولأسباب كثيرة لا تخفى على أحد عبر تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامى، كانوا كثيرا ما يتصادمون مع الحاكم ويثورون عليه، ومع مجيء محمد على وتأسيس حكم الأسرة العلوية فقد حصل الأقباط على بعض الامتيازات، ولكن ظل شعورهم بأنهم ليسوا ضمن المعادلة السياسية المصرية، وقد سهل هذا الوضع على القوى الاستعمارية الفرنسية والإنجليزية ادعاء الحديث باسم الأقباط وحمايتهم وهو ما ولَّـد شعورا مضادا عند بعض المصريين المسلمين بأن الأقباط يعتمدون على حماية المستعمر!
الحديث عن أن الأقباط كانوا ضد المصريين واستخدام اسم بطرس غالى باعتباره وزير الحقانية ورئيس محكمة دنشواى للترويج لذلك، فهو أمر يحتاج إلى تدقيق
لاحظ أن هذا الادعاء الأخير ما زال يشكل جزءا من وعى بعض الطبقات الشعبية فى مصر حتى اللحظة، والحقيقة أن فى ذلك الكثير من عدم الإنصاف، فمن ناحية كان شعور الأقباط بالانعزال عن الحياة السياسية منطقيا وخصوصا وأن مصر ظلت تحت السيادة العثمانية لعقود وهى دولة إسلامية، صحيح أن الكثير من سلاطين العثمانيين لم يكن ضمن اهتمامهم الحكم وفقا للشريعة أو حتى العمل على نهضة المسلمين، بل وكثير منهم لم يتخذ حتى لقب خليفة، وصحيح أيضا أن العثمانيين قد أعطوا الأقباط حرية العقيدة والممارسة، إلا أن السيطرة على الدول التابعة للدولة العثمانية كان يتم أولا وأخيرا باسم الدين وكان يتم التعامل مع الأقباط وغيرهم من الملل على أنهم ليسوا مواطنين من الدرجة الأولى! وهو ما يفسر شعور الأقباط بالتمييز ضدهم ومن ثم الانعزال!
والحقيقة أن الأقباط فى القرن التاسع عشر قد وقعوا ضحية للسرديات السياسية المتنازعة بين السردية الدينية الشعبية وبين القوى الاستعمارية الغربية، فكانوا ضحية السردية الشعبية التى رأت فيهم تابعين للإنجليز ومن ناحية أخرى كانوا ضحية استغلال الإنجليز، ومن قبلهم الفرنسيون، الأوضاع السياسية للأقباط والتدخل باسم حمايتهم. والحقيقة أن هذا الوضع يلام عليه حكام مصر العلوية ومن قبلهم المماليك والعباسيين والذين لم يبذلوا الجهد الحقيقى لضم المسيحيين للُحمة الوطنية، وعلى أى حال ولأن أى تحليل سياسى يجب أن يأخذ فى الاعتبار ثقافة العصر، فإن هذا العصر لم تكن فكرة المواطنة قد تعضدت من الأصل!
أما الحديث عن أن الأقباط كانوا ضد المصريين واستخدام اسم بطرس غالى باعتباره وزير الحقانية ورئيس محكمة دنشواى للترويج لذلك، فهو أمر يحتاج إلى تدقيق! فبطرس غالى فى الواقع لم يكن يتصرف فى السياسة باعتباره قبطيا، ولكنه كان يفعل ذلك باعتباره أرستقراطيا وهو فى ذلك لم يكن يختلف عن الطبقة السياسية الأرستقراطية المصرية وجلهم من المسلمين، فالانحياز هنا كان لمصالح الطبقة لا باسم الأقباط!
وإذا كان بطرس غالى رئيس محكمة دنشواى فإن أحمد فتحى زغلول (الأخ الأصغر للزعيم سعد زغلول) كان عضوا فى المحكمة وكلاهما (أحمد زغلول وبطرس غالي) كانا مقربين للغاية من اللورد كرومر! كما أن إبراهيم باشا الهلباوى كان وكيل النيابة الذى ساهم فى تبرئة الضباط الإنجليز وإدانة الفلاحين المصريين! وهكذا كانت هذه المواقف المشينة تعبيرا عن مصالح طبقية لا عن انحيازات دينية!
كذلك ورغم أنه خلال سنوات الثورة العرابية حدثت بعض التجاوزات بخصوص الأقباط من بعض العامة الذين استجابوا لبعض الشائعات عن تحالف الأقباط مع الإنجليز، فتعرضت متاجر الأقباط ومنازلهم (وخصوصا فى الإسكندرية) للحرق والسلب والنهب، إلا أن الكنيسة المصرية فى عهد البابا كيرلس الخامس دعمت ثورة عرابى بشدة، ورفض البابا طلب اللورد كرومر وضع الكنيسة القبطية تحت الانتداب البريطانى تحت دعوة حمايتها وحماية الأقباط من الاضطهاد، بل واصطدم البابا ببطرس غالى نفسه (كان وكيل المجلس الملي)، وهو ما دفع البابا كيرلس الخامس ثمنه غاليا فتم عزله بسبب هذه المواقف قبل أن يعود مجددا كيرلس للكنيسة ويكمل كفاحها الوطنى وصولا إلى دعم ثورة 1919!
***
هناك بعض الأحداث السياسية الأخرى التى ساهمت فى تشكيل الحركة الوطنية الحزبية المصرية ومنها سياسات الإنجليز الاقتصادية التى أدت إلى إفقار المصريين، ومنها الأمل الذى بثته اليابان بعد أن هزمت روسيا القيصرية، حيث رأت الحركة الوطنية فى انتصار اليابانيين رمزا للإرادة والاعتماد على الذات، والأهم أن زعماء الحركة الوطنية المصرية فى ذلك الوقت ربطوا بين انتصارات اليابان وبين تجربتهم البرلمانية، وهو ما عزز قناعة سياسية راسخة أن الطريق للتحرر المصرى يبدأ من اعتماد النظام البرلمانى الفاعل!
(*) بالتزامن مع “الشروق“