البابا في عراق على درب جلجلة أبدية
Pope Francis gestures on June 5, 2013 at the end of his weekly general audience on St Peter's square at the Vatican. AFP PHOTO / FILIPPO MONTEFORTE (Photo by Filippo MONTEFORTE / AFP) (Photo by FILIPPO MONTEFORTE/AFP via Getty Images)

من حق الجميع في العراق ان يكون سعيداً بمجيء البابا فرانسيس. مجرد قدومه يضفي خبراً سعيداً على بلاد لم تعد سعيدة، أقله في ذاكرتنا الحديثة منذ ثمانينيات القرن العشرين حتى يومنا هذا.

ولعل آخر الأخبار السعيدة نسبياً التي سمعها العراقيون عندما تشكلت حكومة جديدة في أيار/ مايو الماضي، بعد فراغ إستمر شهوراً. ومذاك، ولا يمر يوم من دون أن تتوالى أخبار الموت والإرهاب والوباء والدولار. ولهذا، فإن وصول البابا إلى العراق، مهما تباينت الآراء حول زيارته، تظل بارقة تفاؤل تروي العطش للأمل بالنسبة لكثيرين.

ومع ذلك، فإن الزيارة بحد ذاتها، ليست خلاصاً للعراق السائر على درب الجلجلة الأبدية، فيما يأمل البابا، من خلال الصلاة والدعاء، مساعدة العراقيين على طي صفحة الآلام اللامتناهية، لكنه لن يكون أكثر وضوحاً من “مجنون” البيت الأبيض الذي حاول إيقاف “الحروب اللامتناهية”، ولم ينجح.

وإذ يتحدى الحبر الأعظم، بفعلته هذه، الأقدار العراقية البائسة التي تحتاج معجزة إلهية في زمن نضبت فيه المعجزات، فإنه سيكون سعيداً بالمقارنة التي أجراها البعض بينه وبين القديس فرانسيس الأسيزي قبل 800 عام، الذي سار على طريق الحوار في عز الحروب الصليبية وجاء إلى مصر للقاء ملكها الأيوبي.

لكن الحقيقة المرة أن الحروب الصليبية إستمرت طوال 80 سنة بعد زيارة القديس الأسيزي التصالحية، لأن قرقعة السيوف والرؤوس الحامية طغت وقتها على صوت هذا العاقل اليتيم.

الحقيقة الساطعة التي يُريد كثيرون، بمن فيهم البابا نفسه، قولها، إن الغزو وما تلاه، هو ما أنزل هذه الفاجعة بمسيحيي العراق منذ 18 سنة حتى الآن

لم يعد صدام حسين هنا، ولا جورج بوش الأب والإبن، ولا “الروح” السوداء الذي صُوّرَ كقديس، باراك أوباما، ولا دونالد ترامب الذي أفصح عن تململه من العراق. “الدولة العميقة” هي التي لعبت دور الرؤوس “الصليبية الحامية”، وأجهضت، باسم مستلزمات الصراع الأميركي الإقليمي، مسعاه للخروج من العراق وسوريا.

ولم تعد وسائل الإعلام الغربية، وحتى المرتبطة بمؤسسات دينية سواء فاتيكانية أو كاثوليكية أو غيرها، تجد حرجاً في الإدلاء بمواقف لم يكن ممكناً أن نسمعها منها من قبل على شاكلة أن مسيحيي العراق كانوا أفضل حالاً بكثير في عهد “النظام البعثي”. ليس سهلاً – وإن كان مفجعاً – أن يتم منح “النظام البائد” صك براءة ولو يتيماً في ملف واحد طالما أن غزو العام 2003، قد صار خلفنا، وكان الذي كان.

وفيما علينا نحن، كمواطنين وشعوب هذا الشرق في بلاد الرافدين والشام، أن نتعايش مع إنقلاب الروايات والحقائق، بحسب راويها الغربي، فإن الحقيقة الساطعة التي يُريد كثيرون، بمن فيهم البابا نفسه، قولها، إن الغزو وما تلاه، هو ما أنزل هذه الفاجعة بمسيحيي العراق منذ 18 سنة حتى الآن.

ولهذا، فإن البابا فرانسيس ما لم يُسمِ الأشياء بأسمائها، كأن يقول مثلاً إن السكين الذين غرزه بالتتابع بوش الأب، ثم كلينتون، ثم بوش الإبن، ثم أوباما وترامب وبايدن، هو إحتلال يجب أن ينجلي عن أنفاس العراقيين، مسيحيين ومسلمين، سنة وشيعة، وكلدانيين وصابئة ومندائيين وأرمن وإيزيديين وآشوريين وعرب وكرد وفيليين، لعل خلاص العراق وقيامته، تكتب أخيراً. وما لم يفعل ذلك، فإنه يُبقي زيارته، وهي الأولى من نوعها لرأس الفاتيكان إلى العراق، مقيدة في إطارها الروحي أو ربما الفلوكلوري.

وهناك علامة إستفهام محيّرة في ماضي البابا فرانسيس جرى طيها تدريجياً مع صعوده منذ سنوات طويلة في العمل الكهنوتي، حيث تعرض إلى إنتقادات لعدم مجاهرته في العداء للديكتاتورية العسكرية التي حكمت الأرجنتين، ونكّلت بمعارضيها اليساريين، بما في ذلك القساوسة المناضلين.

الحق يقال بأن الفاتيكان رفع الصوت عالياً ضد غزو العراق، وكأن البابا يوحنا بولس الثاني كان يُدرك، من بين قلة في العالم، أن حرب “حرية العراق” الموعودة، لن تجلب سوى عاصفة المجازر الجماعية للمسيحيين و”إخوتهم” في الإنسانية في بلاد ما بين النهرين

ومع ذلك، فإن هذا الزائر شجاعٌ بلا شك، وهو يحقّق حلماً لطالما راود بابوات الفاتيكان الذين سبقوه، بأن تطأ أقدامهم الأرض التي شهدت ولادة النبي إبراهيم، وكانت مهد المسيحية والديانات السماوية، فيأتيها البابا فرانسيس الآن، متجاهلاً عفاريت الشر التي تحيط به، من فلول داعشية عاودت الظهور بقوة في يوميات العراقيين، إلى فيروسات كورونا التي بسببها لم يخرج البابا من الفاتيكان مسافراً منذ أواخر العام 2019.

ويجيء البابا فرانسيس مدركاً أن البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني جرّب في العام 1999 زيارة العراق، لكن حكومات حصار العراق وظروفه، منعته، فيما كان ملايين الأطفال والنساء والرجال العراقيين يتصارعون مع الجوع والمرض والعوز الذي جعل أكاديمياً عراقياً بارزاً يجوب بيروت بحثاً عن أقلام رصاص! لكن لا السماء أسعفت العراقيين.. ولا بابا الفاتيكان جاء.

لكن الحق يقال بأن الفاتيكان رفع الصوت عالياً ضد غزو العراق، وكأن البابا يوحنا بولس الثاني كان يُدرك، من بين قلة في العالم، أن حرب “حرية العراق” الموعودة، لن تجلب سوى عاصفة المجازر الجماعية للمسيحيين و”إخوتهم” في الإنسانية في بلاد ما بين النهرين.

إقرأ على موقع 180  "الخرق الفرنسي" سعودياً.. هذه وقائعه اللبنانية

وها هو البابا فرانسيس آتياً على أمل أن يتوقف إحصاء الجثث ويبارك أرواحهم سواء في كنسية سيدة النجاة المنكوبة بمجزرة في بغداد، أو في سهول نينوى المكلومة بمقابر داعش الجماعية. سيصلي البابا من أجل طي صفحة الموت المفتوحة، التي شرّعت الأبواب، فيما الفاتيكان عاجز منذ سنوات، أمام التهجير الجماعي للمسيحيين وغيرهم من الأقليات في العراق وسوريا.

سيقول البابا، ولو متأخراً، للعراقيين، إنهم يستحقون خبراً جميلاً وإن كان يتيماً، وأن أمله بأن أبي مصعب الزرقاوي وأبي بكر البغدادي وأبي ياسر العيساوي، ليسوا قدراً. وسيقول للمسيحيين أن يتشبثوا بالأرض ولا ينسلخوا عن مجتمعاتهم. وبالمناسبة، كيف يُفسّرُ غياب البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي عن زيارة البابا فرانسيس، والأهم أين هو من رؤية الفاتيكان البعيدة للمسيحيين ومصيرهم في المنطقة برمتها؟

Print Friendly, PDF & Email
خليل حرب

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "الشيخ جرّاح".. من صلاح الدين إلى غزة