عن زمنٍ بلا عطر..!

روى رجل أعمال فرنسي لأحد الصحافيّين، عن حدثٍ شاهده بأمّ عينه. كان مسرح ذاك الحدث، يخت الرئيس الزائيري (يومذاك) موبوتو سيسيسيكو وازابانغا. خلال الرحلة، إستاء "الرئيس المُلهَم" من أداء أحد النُدُل. فأمَر "خُدّامه" برميه في المياه طعاماً للتماسيح. فرموه فوراً. هكذا ببساطة. لأنّ رغبات "بعض البشر" لا تُكبَح. لا تُرَدّ. مثلها مثل القدر والموت. 

لا يكمن لبّ تلك الرواية في “سلوك” سفّاح زائير، على فظاعته. بل في مروره مرور الكرام، يومها. كـ”عطسة” عاديّة تداهم أنفنا. كتجشّؤ عادي بعد وجبةٍ دسمة. أجل. عمليّة إعدامٍ نُفِّذَت على رؤوس الأشهاد. لم يعرف بها أحد. لأنّ أحداً لم يُخبِر عنها. وعندما نقلها “مصدرٌ مطّلع” إلى الصحافي المذكور، أضحت “إخباراً” عن جريمة. إخبار، حظي به صاحبنا من دون أدنى تقصٍّ أو جهد. تصوّروا! ماتت “الحدّوتة الفرنسيّة” في مهدها. وحتّى، قبل أن يموت “الديك الذي يعاشر كلّ الدجاجات”. هذا هو معنى الاسم الذي اتّخذه ديكتاتور زائير لنفسه.

لكن يبقى السؤال الكبير. لماذا لم يسارع ذاك الصحافي، ليفضح تلك الجريمة؟ لماذا لم يستغلّها، لينقِّب عن سيرة الرجل النتنة وينشرها بين الناس؟ ولو إنّ “إنجازات” سيسيسيكو غنيّة عن التذكير بها. لماذا؟ لأنّ الإعلام، غالباً ما يلعب دور شاهد الزور على جرائم الحُكّام. وليس أيَّ حُكّام. إنّما، أولئك الذين يزرعون الموت ببذور الغطرسة والعربدة وجنون العظمة الذي يتملّكهم. طغاة، لا يقعون إذا تعثّروا بجثث الشعوب المنثورة على دروب حياتهم. على العكس. إذْ كلّ الدلائل، في مسيرتهم السياسيّة والنفسيّة، تدعو إلى الاعتقاد بأنّهم يكونون، دوماً، على عجلة من أمرهم، في مواسم البذار! هل أقسو على الإعلام؟ لا أظنّ.

فالمنظومة الإعلاميّة، يا أصدقاء، هي الكيان الأقوى على وجه الأرض! لديها القدرة على جعل المذنب بريئاً. والبريء مذنباً. أمّا في الصراعات والحروب، فتراها تتعرّى من كلّ إنسانيّة. من كلّ أخلاقيّات. تماماً، مثلما يفعل أهل السياسة. ولا ندري لماذا، يصبح أداء الإعلام ملتبساً! ولماذا يصمت الإعلاميّون، حيث يجب أن يصرخوا؟ حيث يجب أن يضعوا النقاط على الحروف؟ أن يقتحموا حيث يتقهقر الآخرون؟ أن يبشِّعوا البشاعات ويزيدوا عليها؟ ببساطة، أن يهدّدوا بالـ… حقيقة؟

أيُعقَل أن يكون الإعلام قد تآلف، إلى هذا الحدّ، مع عذابات الضحايا وتشتّتهم وخرابهم وموتهم؟ أيُعقَل أن يكون قد قنط من تراكم السواد وتكديس لقطات الاختناق والقسوة، فانصرف إلى “تسليتنا”؟ إلى تعبئة الهواء بما تيسّر؟

على الأرجح، يجهل الإعلاميّون على أيّ صخورٍ قد يتحطّم تاريخ “شعبٍ ما”. لكنّهم، بالتأكيد، يستشعرون الكارثة قبل غيرهم بكثير! غير أنّهم لا ينبسون ببنت شفة. يُحجِمون عن الكلام المباح. ينتظرون. ولا يكون، بالضرورة، حجم انتباههم والاهتمام الذي يُعطونه لـ”حدثٍ ما” نتيجةً لأهميّة ذلك الحدث، بحدّ ذاته. فالصحافيّون يميلون، عادةً وللأسف، لتجاهل التقارير التي تنقل القصص الإخباريّة ذات النيّة الحسنة. أو، كذلك، تلك التي تُظهِر التفاعل الإيجابي بين الأفراد والجماعات المختلفة والعلاقات الجيّدة في ما بينهم. أعني، علاقاتهم الإنسانيّة.

بل ينصبّ تركيزهم، حصراً، على الأحداث التي تنضح منها الدماء والمصائب والخسائر والفضائح. فهذه عُدّة العمل المثاليّة، بالنسبة إليهم. وذلك، تطبيقاً للقاعدة “الذهبيّة” القائلة؛ إنّه “إذا كانت هناك دماء، ومصائب، وخسائر، وفضائح، فالخبر رئيسي”. لكن، لو اكتفوا بذلك، لَسَلّمنا جدلاً واستسلمنا، أيضاً، أمام “مهنيّتهم”. لَقُلنا، ربّما، إنّ أخبار سلام الشعوب وهنائها وسعادتها وصحّتها الجسديّة والنفسيّة وبحبوحتها، لا حاجة لتغطيتها! لإشراك الآخرين بها. ألا نقول شعبيّاً “فيه الإنسان يفرح لوحدو.. بس ما فيه يحزن لوحدو”؟ بلى.

أمّا وأن يجعل الإعلام، ولا سيّما المرئي منه، من جرائم يرتكبها قادة طغاة (أمثال سيسيسيكو) أحداثاً عابرة. أي، لا خلفيّات لها أو أهدافاً. أي، مثلها مثل حوادث السير، تماماً. فهنا الكارثة الموصوفة. في بعض الأحيان، “يبرّر” معظم الإعلام قتل الناس في الصراعات والحروب. يضعهم في خانة “الخسائر المحسوبة”. مثلما يفعل الضبّاط والقادة العسكريّون حين يضعون خطّة المعركة.

كم سيكلّفنا هذا الهجوم (جنوداً)؟ يسأل كبيرهم وهو عاقد الحاجبيْن تماشياً مع جديّة الموقف. ويرتكب الإعلام ما هو أسوأ! يعتبر أنّ للقتل إيديولوجيا. نعم لا تتعجّبوا! إنّها إيديولوجيا الأقوياء في مواجهة الضعفاء. ولإيديولوجيا القتل خطابان: أحدهما مُعلَن والآخر خفي. والمصيبة تقع، عندما تنطلي هذه “الأكذوبة الإيديولوجيّة” على البشر. وعلى القاتل والقتيل، بالكيفيّة ذاتها.

وإيديولوجيا القتل، التي يعتنقها معظم حُكّام هذه المعمورة، تتزّين عموماً بخطابات الشرف والكرامة والصمود والتصدّي للمؤامرات. مؤامرات الغير علينا (طبعاً العرب هم أهمّ مُنتِجي هذا النوع من الخطابات). والإعلام “يتفهّم”، على الدوام، مستلزمات هذه الإيديولوجيا. ويروّج لهذه الخطابات. بخاصّة، عندما تكون المؤسّسة التي ينتمي إليها هذا الإعلامي أو ذاك، تناصر أصحاب تلك الإيديولوجيا. تتخندق مع معتنقيها. وماذا تفعل أيضاً؟

تبدأ بضخّ التقارير عن سلوكيّات “طبيعيّة” ومحبَّبة يقوم بها القَتَلة كسائر البشر. عفواً! سأفتح قوسيْن، هنا، لأخبركم خاطرة مرّت ببالي. عندما كنتُ صغيرة، كنتُ أسأل نفسي: هل يا ترى يدخل الزعيم الفلاني إلى الحمّام مثلنا؟ هل يبصق هذا الرئيس مثل كلّ الناس؟ هل يُصاب هذا المطرب المشهور بالإسهال؟…إلخ. أسئلة، كانت تحاول أن تستكشف ما إذا كان “مَن هم فوق”، أشخاصاً عاديّين مثل “مَن هم تحت”! أعود إلى التقارير الإعلاميّة التي تصوِّر قادة الحروب وموزّعي الموت والدمار على البشر كأشخاصٍ بسيطين عفويّين خلوقين طيّبين متسامحين .. مثاليّين باختصار.

إقرأ على موقع 180  ليبيا... "الخطوط الحمراء" كبديل للصدام المباشر

فتنقل لنا صورهم، وهم يمارسون هواياتهم. وكم ترتفع دلالات تلك الصور، عندما يكون هؤلاء موهوبين! وأيّ مواهب! ها هم يلعبون الغولف، بينما السماء تُمطر حمماً على العراق. ويغطسون في شرم أبحر (البحر الأحمر)، بينما الصواريخ تدكّ اليمن “السعيد”. ويعزفون على البيانو في بهو الكرملين، بينما ألسنة النيران تنفث بالأوكرانيّين إلى حقول الثلج في أوروبا الشرقيّة. معقوووووول؟!

غداً، ستتوقّف حرب أوكرانيا. وستعود الحياة، عاجلاً أم آجلاً، إلى طبيعتها. وستغيب أخبار النازحين عن النشرات الإخباريّة. ولن تعود أوكرانيا إلى واجهة الاهتمامات الدوليّة، اللهمّ إلاّ من باب حربٍ جديدة. بمقدور العالم أن ينسى أوكرانيا. ببساطة. مثلما نسي غيرها

أيُعقَل أن يكون الإعلام قد تآلف، إلى هذا الحدّ، مع عذابات الضحايا وتشتّتهم وخرابهم وموتهم؟ أيُعقَل أن يكون قد قنط من تراكم السواد وتكديس لقطات الاختناق والقسوة، فانصرف إلى “تسليتنا”؟ إلى تعبئة الهواء بما تيسّر؟ وهل يكون المَخْرج بالانكباب على محاولة فكّ لغز ما إذا كان فلاديمير بوتين قد نفخ خدوده بالسيليكون أم بالفيلير؟ بلا ريب، إنّها مهمّة عويصة تقع على كاهل إعلاميّينا! وبعد؟

عندما يتأمّل الإنسان في ماضيه البعيد أو القريب. في واقعه المعيش. فإنّه يقيم مع هذا كلّه علاقةً ما. علاقة ذمّ أو مدح. علاقة تبنٍّ أو إنكار. علاقة حبّ أو كره. لكنّ هذه العلاقات جميعها، لا تسفر إلاّ عن مواقف. لا تُفضي، إطلاقاً، إلى فهم أو تفسير أو تجاوز ما حدث ويحدث. والأسوأ، أنّه لا يتفكّر بما سيحدثّ!

كلمة أخيرة. لقد حاول الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور (في أعماله) أن يفسِّر سبب عيش العالم في مثل هذه الوضعيّة المؤسفة. وتوقّف، مليّاً، أمام دأب البشريّة على إفساد الأمور، من خلال خوضها حروباً عبثيّة. معارك لا داعي لها. لقد لفته إصرار الناس على إلحاق الكثير من المعاناة بأنفسهم. وببعضهم البعض. غداً، ستتوقّف حرب أوكرانيا. وستعود الحياة، عاجلاً أم آجلاً، إلى طبيعتها. وستغيب أخبار النازحين عن النشرات الإخباريّة. ولن تعود أوكرانيا إلى واجهة الاهتمامات الدوليّة، اللهمّ إلاّ من باب حربٍ جديدة. فبمقدور العالم أن ينسى أوكرانيا. ببساطة. مثلما نسي غيرها. وباستطاعته أن يعيش من دونها. مثلما عاش من دون غيرها. فالوقت لا  يتوقّف. إنّما يُعلَّق فقط. إقتضى التنويه.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الإحباط من "التغييريين".. حقيقي أم مُصطنع؟