من العادات والتقاليد الإجتماعية في لبنان قيام المناصرين بإلباس قائدهم العباءة العربية التقليدية المركشة بزري (حزام) ذهبي اللون لامع، تطويباً للزعامة. دلالة رمزية تحمل الكثير من المعاني والمقاصد ولا تخلو من مفارقات فاقعة. ليس مهماً فكر أو ثقافة أو مشروع لابس العباءة. المهم الحفاظ على قيمة العباءة بأي ثمن. قيمة العباءة أولوية بالنسبة للزعامة على ما عداها من برامج إقتصادية وأحوال إجتماعية وإستراتيجيات سياسية. مشهد يجسد مآلات لبنان الذي يختنق أهله بين قيمة العباءة (حقوق الجماعة) وقيمة الدولة (حقوق المواطن).
بين حقوق الجماعة وحقوق الدولة اللبنانية كباش عمره من عمر قلعة بعلبك وربما أكثر. حقوق الجماعات كانت تحتاج إلى وعاء إسمه الصيغة. لطالما حاكت الصيغة تاريخ الجماعة. إرثها. جغرافيتها. ديموغرافيتها. مخاوفها. فائض قوتها. علاقاتها. في التاريخ الحديث، أقله منذ منتصف القرن التاسع عشر، كانت الصيغة تعبيراً حياً عن موازين القوى المحلية وما يمكن أن تستجلب من دعم خارجي لمصلحة هذه الجماعة أو تلك في هذا البلد الصغير بمساحته من زمن القائمقامية إلى يومنا هذا. نماذج “الإمتحانات” كثيرة. خضع بطريرك الموارنة الياس الحويك لإمتحان العباءة تحت عنوان “لبنان الكبير”. وجرى إمتحان كميل شمعون تحت عنوان “حلف بغداد”. كذلك شارل حلو تحت عنوان “اتفاق القاهرة”. وحده فؤاد شهاب خاض الإمتحان بنجاح عندما أسدل عباءة التوازن الإيجابي مع جمال عبد الناصر في “الخيمة” عند الحدود اللبنانية ـ السورية (حدود الجمهورية العربية المتحدة آنذاك).. ثمة عامل مشترك في كل هذه المحاولات هي البيئة الاستراتيجية للإقليم.
يتجلى الصراع بين الصيغة (حقوق الجماعة) وبين الدولة بوضوح في أدبيات حقبة الحرب الأهلية من القرن الماضي. من مقولة “حروب الآخرين على أرض لبنان” مروراً “بلا غالب ولا مغلوب” وصولاً الى “الطريق الى القدس يمر من جونيه”. إندفع لبنانيون إلى مناصرة ثورات العالم وحروب العرب. الجدل لا يزال مستمراً حول أسباب إندلاع الحرب اللبنانية ذاتها. هل كانت حرباً لبنانية لبنانية أم كانت حروب الآخرين على أرض لبنان؟
الأكيد أن أحد أبرز أسباب وقف مدافع الحرب المدمرة هو اتفاق الطائف بكل ما حمله ليس من نصوص بل من موازين قوى محلية ودولية وإقليمية. إتفاق الوفاق الوطني (وثيقة الطائف) أبرم في العام ١٩٨٩. تم تنفيذه في الربع الأخير من العام ١٩٩٠ بالتوازي مع ثلاثة إنهيارات استراتيجية. إنهيار الإتحاد السوفيتي؛ الإنهيار العربي (تاريخ الإحتلال العراقي للكويت) والإنهيار المسيحي. من رحم هذه الإنهيارات الكبرى وُلدت الجمهورية الثانية.. ووُلد أيضاً “الإحباط المسيحي” و”الزمن السوري”!
متى يا جماعة تدفنون طائفكم وتذهبون إلى طائف جديد.. لكن قبل كل شيء فتّشوا عن غازي كنعانكم الجديد، فلا يبدو أنكم تستحقون لا صيغة ولا بلداً ولا دولة ولا مواطنة، طالما أنكم تعجزون عن بناء محطة كهرباء واحدة وتتركون لقطاع حيوي أن يستنزف نصف دينكم العام
جاء الإتفاق بقوة دفع لأحداث إقليمية/دولية ولأجل تسوية قضايا عالقة ومركبة تتعلق بحضور الجماعات في الصيغة، الهوية، الانتماء، ونهائية الكيان، غير أن الامتحان الأكبر جاء عند ممارسة إتفاق الطائف كدستور للبلاد. الاتفاق لغةً شيءٌ وممارسةً شيءٌ آخر. يُروى أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري لبى دعوة مجلس المطارنة الموارنة في عز عنفوان حقبة الوصاية السورية و”الإحباط المسيحي” إلى “جلسة إستماع” إلى الهواجس المسيحية. في لحظة صمت، توجه أحد المطارنة إلى الحريري سائلاً “لماذا لا يتم إطلاق سراح سمير جعجع من السجن”؟ فأجابه رئيس وزراء لبنان “لأنه مجرم.. هكذا يقول القضاء”. إلتزم الحاضرون الصمت قبل أن يكسره أحد المطارنة قائلاً “لماذا لم يحاكم سواه؟” فأجاب الحريري “لنتفق أولاً، تريدون إطلاق سراح جعجع أم سجن الباقين”؟ إبتسم البطريرك مار نصرالله صفير ومعظم الحاضرين على مائدة الغداء في بكركي، ثم إنتقل الجميع إلى مناقشة موضوع آخر.
للحوار أعلاه دلالات عدة. لعل أهمها أن كل جماعة تأخذ نصيبها في السلطة من خلال الصيغة.. وليس القانون. هذه المقاربة إن أدركها الزعيم نال قسطاً كبيراً من المكاسب في السلطة، مُحافظاً في الوقت ذاته على قيمة العباءة التي يرتديها، وإن خالف أو بالغ ينال نصيبه، كما حصل مع جعجع في “الحقبة السورية”.
هذه الممارسة لم تأتِ من فراغ. سمحت الطبقة السياسية لها أن تتراكم وأن تأخذ كامل مداها مع تجربة رعاية تنفيذ الطائف. كان الضابط السوري، أياً كان إسمه، قادراً على تكبير هذا وتصغير ذاك من الزعماء. ألبس العباءة على كتفي هذا وأنزلها عن كتفي ذاك. أقفل دارة سياسية وفتح مقابلها بيوتات بأسماء جديدة. لو إستعرضنا فقط المآدب التي أقيمت على شرف الضباط السوريين في طول لبنان وعرضه، لإحتاج الأمر إلى مجلدات. من القبيات في أقاصي عكار إلى أقصى مدينة جنوبية مثل بنت جبيل.
صحيح أن لبنان أُلبِس عباءة الطائف قبل اثنين وثلاثين عاماً، والصحيح أكثر أن هذه العباءة تُرك لغازي كنعان طوال عقدين من الزمن أن يفصل عباءات منها على مقاسات الساكنين في قلب صيغة لبنان الجديدة. لم يخلُ الأمر من حرتقات سياسية لبنانية. لكن المايسترو كان سورياً بإمتياز. إنتهى موسم العباءة الكنعانية (ولو أن وريثه كان من آل غزالة) مع صدور القرار الأممي الرقم ١٥٥٩. القرار الذي وضع لبنان ـ الطائف في مرمى الريح. لا يُرمى حجر في الشام إلا ويُسمع صوته في الجبل. ولا تُقطع نخلة في بغداد إلا وتُقطع معها أواصر اجتماعية في بيروت. فجأة خرجت كل شياطين الصيغة إلى العلن. كبُرت المخاوف. وكما في المثل الخليجي، “رخّص العُبي (جمع عباءة) كثّر الشيوخ”. عندما رخصت قيمة إتفاق الطائف وغاب الراعي السوري، إحتدم الصراع على العباءة والصيغة، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه في يومنا هذا: أزمة حكم من نصيب الموارنة، أزمة حكومة من نصيب السنة، أزمة صيغة من نصيب الشيعة. ثلاث طوائف مأزومة.
متى يا جماعة تدفنون طائفكم وتذهبون إلى طائف جديد.. لكن قبل كل شيء فتّشوا عن غازي كنعانكم الجديد، فلا يبدو أنكم تستحقون لا صيغة ولا بلداً ولا دولة ولا مواطنة، طالما أنكم تعجزون عن بناء محطة كهرباء واحدة وتتركون لقطاع حيوي أن يستنزف نصف دينكم العام. لو قررتم حرمان اللبنانيين من الكهرباء، لكان أشرف لهم من أن تسرقوا بإسمهم ما يزيد عن أربعين مليار دولار وتريدون حتى سرقة أموال اليتامى والأرامل.
سيبقى إتفاق الطائف مجرد عباءة مثقوبة لصيغة إنتهت ولدولة لم ولن تأتي. هل آن أوان التأسيس اللبناني وهل بالضرورة أن يبدأ من الصفر؟