ذكية فكرة إختيار مسرح “دوار الشمس” في الطيونة. حتماً ليس مكان “تعارفوا” في “تياترو فردان”. لنتذكر أنه في يوم تشريني دافى قبل أربعة أشهر، كان هذا المسرح جزءاً من مسرح أكبر. إشتباك طائفي لبناني إستمر نهاراً بأكمله سقط بفعله قتلى وجرحى والأخطر أنه كاد أن يطيح بالسلم الأهلي. عشنا مشاهد أعادتنا سنوات إلى الوراء. صحيح أن ذاكرتنا اللبنانية مثقوبة ولكنها ما زالت تحفل بالصور البشعة. صور الخوف والدماء والدمار والطوابير وخطوط التماس والخطف على الهوية وغيرها.
في لحظة الطيونة اللبنانية الصعبة لا بل السوداء، ولدت فكرة مسرحية “تعارفوا”. أتوجه بسؤال إلى يحيى جابر عن سر إختيار العنوان والمكان والعمل فيجيب “بعد أحداث الطيونة مباشرة، إجتمعنا انا والصديقة ليا بارودي المنسقة العامة لجمعية “مارتش” وتناقشنا وفكرنا بصوت عالٍ وسألنا أنفسنا، هل يمكن أن تعود الحرب الأهلية اللبنانية؟ وهل يعيد التاريخ نفسه بين الشياح وعين الرمانة. هذه البوسطة هل كانت تستريح لثلاثة عقود من الزمن وقررت أن تستأنف سيرها بعجلاتها الدموية السوداء؟ من هم جيل الحرب الأهلية المقبلة. ماذا يعرفون؟ وهل نعرف بعضنا البعض؟ ما هي صورتنا عن أنفسنا وعن الآخر ومن يخاف ممن”.
صار بالإمكان اليوم الحديث عن “مسرح يحيى جابر” الذي راكم تجربة عمادها موهبة فريدة في عالم التأليف والإخراج. صار يحيى شاعراً معلقاً على خشبة يتقن لعبتها جيداً.. بدليل مسرحية “تعارفوا”
أسئلة يحيى جابر كثيرة. ميزتها أنها وضعته أمام تحدٍ جديد. يقول يحيى جابر إن “تعارفوا” من أهم تجاربي المسرحية “لأنها سمحت لي أن أتعرف على نفسي وعلى نفوس جيل جديد كأنه جيلي وجيل أجدادي وطبعا جيل أحفادي، أننا مصابون بلعنة الحروب الأهلية الى أبد الأبدين اذا لم “نتعارفوا”!
قبل أن أدخل إلى صلب العمل. من الواضح أن يحيى جابر نزل إلى الشارع. أمضى أياماً طويلة هنا وهناك. بحثاً عن شابات وشبان على الأرض. راح يجمع روايات ويدقق فيها. راح يبحث عن شخصيات. ذاكرته غنية بالصور. صور عاشها وصور جديدة تأتي. كيف نمزج هذه بتلك. أيام وأسابيع من البحث المضني. هذا الرجل لا يشبه إلا نفسه. يتأثر ويقرأ ولكن النتاج يصبح “جابرياً” بإمتياز. جابرية الجنوبي البيروتي اليساري المنفتح إلى حد قول الشيء وعكسه. الفكرة ونقيضها. مجتمع بمجتمعات.. يحيى جابر “بشخصيات كثيرة”، بالإذن من كمال الصليبي. تنطبق عليه قاعدة برتولت بريشت “لأن الأشياء على حالها فإن الأشياء لن تبقى على حالها”. نعم، التاريخ يقول لنا أن لا شيء بهذا السوء يمكن أن يستمر إلى الأبد.
هناك أعمال تذهب إليها وأنت بكامل الثقة بأنها ستعرف طريقها إلى رضاك. ذلك ناجم من كونك تعرف عقل منتجها. ينطبق ذلك على يحيى جابر المسرحي الشاعر الممسوس بالخشبة، المعجون بهموم وهزائم الإنسان والإنسانية على مذبح هذا الوطن، ولكن أهذا وطن أم مقتلة؟
تدخل إلى المسرح الذي أصابته رصاصات أحداث الطيونة. تشعر أن ما ينتظرك إنما تعيشه في كل دقيقة من حياتك ولكن هل يستطيع المخرج أن يستخرج منه رسائل تُدهشك إلى حد الضحك والبكاء؟
لست متأكدة ما إذا كان يحيى جابر المخرج “بريختياً” بالكامل بما يعني ذلك أن يجعل الناس أنفسهم الجدار الرابع في غرفة المسرح بجدرانها الثلاثة، وبالتالي تركهم يتفاعلون مع الموضوع بحيث ينتفي الفاصل بينهم وبين الجمهور. بينهم وبين الحيز المكاني والزمني. كأنه ينقل مسرحنا اللبناني الكبير إلى هذه الخشبة الصغيرة أمامنا.
يا ليت المسرح يستطيع إحداث تغيير في عقول المتزمتين المتحجرين فكرياً وعقائدياً، ولكن هؤلاء لا يشاهدون المسرح ويكرهون الفن ويحقدون على الموسيقى وحتى الكتاب إذا لم يكن من “لون واحد”.
بهذا المعنى، نعم يحيى جابر “بريختي” بقوة. ينحاز لفكرة واحدة هي فكرة الإنسان، ومهما تزاحمت عناصر الإختلاف، فلا يجوز أن تطيح بإنسانيتنا.
بدا جابر مذهلاً في إدارة عروض الممثل الواحد مع زياد عيتاني وأنجو ريحان وحسين قاووق، وبنفس المهارة أمسك بفريق مؤلف من ثمانية عشر ممثلاً وممثلةً من الشباب غير المحترفين وأخرج منهم طاقة تمثيلية “بكر”، لتجعل عدداً كبيراً منهم أصحاب فرصة في إستكمال رحلة وموهبة ما، لكن الكل أعطى الدور ما يستحقه من جهد لتصل الفكرة ويقنعنا بالـ”الكاراكتير” الذي إختاره.
المخرج الذي يتقن لعبته، قد لا نستطيع حبسه في مدرسة إخراجية واحدة ولكنه “غرامشي” السلوك، بما يعني ذلك التصاق المثقف والمبدع بقضايا إنسانية تفيد في تطوير مجتمعه ومحيطه فلا انفصال ولا غربة عن الواقع، ولا ترف وابتداع مسرح لأجل المسرح.
يقول أنطونيو غرامشي إن الجميع لديه الكثير من السياسة والقليل من الفلسفة وبعض من الشعر. نحن مندمجون عضوياً بالطائفية والإنقسامات المجانية العبثية المدمرة التي انتجت وتنتج حروباً لأننا نفتقد إلى الدولة المستحيلة.
ربما إبتعدنا قليلاً. لنعد إلى العرض المسرحي “تعارفوا” الذي موّلته جمعية “مارتش” وهو يعرض على خشبة مسرح “دوار الشمس” في الطيونة. إننا أمام عرض ممتلئ حيوية وحركة، وقد أضفى وجود عنصر الشباب نضارة وخفة وحيوية وإيقاعاً سريعا، وقد تم رفده بالموسيقى وغناء الراب وصولاً إلى تسلل الشعر إلى شخصية الصياد الفقير المُعدَم على بحر الأوزاعي، ألا يولد الشعر الألم!
المسرح خالٍ من البهرجة إلا من عدد من الكراسي. لا ديكور ولا سينوغرافيا، ولا نلاحظ ذلك إلا عندما نخرج ونستعيد الحوارات التعارفية بين 18 شاباً وشابة “من مناطق وخلفيات مختلفة في بيروت وضواحيها يلتقون ليتعارفوا ويمثلوا لأول مرة على خشبة المسرح؟. استخدمت عملية فنية فريدة من نوعها في كتابة سيناريو المسرحية”، كما يقول لنا كتيب المسرحية.
نعم “60 دقيقة مليئة بالمواجهات الشيقة وحس الفكاهة والمواقف المضحكة والتوتر، والمزيد حيث يعالج الشباب مواضيع مهمة، من أنا؟ شو بتعرف عن الآخر، وكم هوية بالهوية اللبنانية؟ ويجيبون عن القضايا المثيرة للجدل في لبنان اليوم ألا وهي: الخوف من الآخر والمفاهيم الخاطئة. والتنمّر والعزلة والعنف إلخ”.
البطولة معقودة للسيناريو و”الكومبارس”، ليس هناك بطل أو ممثل محترف واحد ولكننا شعرنا أن الكل أبطال، وهنا تكمن قدرة المخرج على إستخراج “لمعة” فنية من داخل كل شاب وصبية شاركوا في هذا العمل البسيط والعميق في الوقت عينه.
يعرف يحيى جابر كيف يجعلك تنقلب على ضهرك من الضحك على واقعنا المتجذر بالطائفية والتنمر والعنصرية والإنقسام الإجتماعي والمجتمعي حتى يتعب حنكك، ثم يهزك فجأة من الداخل ويزلزل كيانك بجملة تبكيك من دون إفتعال أو إستدراج..
صار بالإمكان اليوم الحديث عن “مسرح يحيى جابر” الذي راكم تجربة عمادها موهبة فريدة في عالم التأليف والإخراج. صار يحيى شاعراً معلقاً على خشبة يتقن لعبتها جيداً.. بدليل مسرحية “تعارفوا”.
“تعارفوا” عمل مسرحي يعرض على خشبة مسرح “دوار الشمس”.. في الطيونة ويستحق حتماً ساعة من وقتنا المهدور.