للسلطة أن تستبد.. هل للمعارضة أن تنتظم؟

ما يجري في شوارع معظم المناطق اللبنانية، في هذه الأيام، لا يشبه مشهد 17 تشرين.. أي سلوك تجنح إليه السلطة، سيكون مفهوماً، لكن الغريب أن قوى الإعتراض، وبرغم نضوج الظرف الموضوعي، ما زالت تفتقد للحد الأدنى من المشروع التغييري.

كثر الحديث مؤخراً عن جمهور انتفاضة ١٧ تشرين، بسبب عودة الاحتجاجات الشعبية الى مختلف المناطق اللبنانية. وإذا كان البعض قد شبّه هذه الهبّة الشعبية بمشهدية ١٧ تشرين، فإنّ الامر يختلف جذرياً ليس بسبب الظروف والمعطيات التي حكمت هذا التحرك الأخير فحسب، بل لانّ المشاركين في النسخة التشرينية الاصلية من الانتفاضة كانوا جمهوراً أوسع بكثير، تكوّن من الفئات التالية:

أولاً، جمهور الأحزاب السياسية التقليدية: وهم تحديداً مناصرو حزب الله، حركة أمل (في الايام الثلاثة الاولى لإنتفاضة 17 تشرين)، القوات اللبنانية، تيّار المستقبل، الحزب التقدمي الاشتراكي، الكتائب اللبنانية، التيّار الوطني الحرّ (هذا الأخير كان الأكثر إحراجاً بالنسبة لمشاركة شاباته وشبّانه في الانتفاضة). صحيحٌ أنّ معظم هذه الأحزاب شاركت على مدى العقود الماضية في رسم وتنفيذ كل السياسات التي أوصلت لبنان الى ما وصل إليه، سياسياً وإقتصادياً ومالياً ونقدياً وإجتماعياً، إلاّ أنّ مناصريها شعروا بضيق الحال، ولمسوا ازدياد معدلات الفقر والبطالة والهجرة، ففكروا في لحظة سياسية معينة في الانفكاك عن مرجعياتهم الطائفية والمذهبية وإنخرط جمهور صغير منهم في الحراك. طبعاً، كانت وتيرة هذا الانفكاك متفاوتة بين حزب وآخر، غير متجانسة في الشكل، وغير متساوية لدى جميع الطوائف. في جميع الأحوال، يستأهل هذا الأمر دراسة سوسيولوجية عن أسباب الانفكاك وشكله ووتيرته، الاّ أنّ مقالنا لن يتطرّق الى هذا الجانب إلا بشكل عابر.

ثانيا، الرأي العام الصامت: هنا المقصود جمهور لبناني عريض كان مستنكفاً لسنوات وربما لعقود عن الانخراط في الشأن العام. على الارجح، يضمّ هذا التيّار في صفوفه شريحة عريضة من أبناء الطبقة الوسطى، ولا سيما المهن الحرة (أطباء ومهندسون ومحامون وصيادلة) وأساتذة الجامعات والقضاة والضباط المتقاعدون وغيرهم من مقتدري الحال الذين شعروا فجأة أن جنى عمرهم صار يباباً وأن ودائعهم سُرقت ووظائفهم باتت مهددة. أيضاً هناك جيل الحرب الأهلية ممن كان لديه نشاط أو نزوع أو نزعة صوب الأحزاب السياسية المنخرطة في الحرب، سواء على ضفّة اليمين أم اليسار، ولكنّ أحلامه الكبرى خابت ودخل في مرحلة من الخيبة الأيدولوجية والسياسية إثر إنتهاء الحرب الأهلية عام ١٩٩٠. أميل إلى الإعتقاد أنّ جزءاً كبيراً منهم هم المواطنون أنفسهم الذين لم يشاركوا في العديد من الإستحقاقات الانتخابية وآخرها في العام ٢٠١٨ (٥١٪ من اللبنانيين لم يقترعوا آنذاك) وهذا مردّه الى حالة من القرف وعدم الثقة بالتغيير وأحزابه وبرامجه وآلياته إلخ.

كل الأسباب الذاتية والموضوعية التي تقدّمها قوى التغيير قاطبةً لعدم إنجاز هذا التنظيم الذاتي لغاية الآن، لا تقنع جمهور 17 تشرين العريض

ثالثاً، جمهور ومناصرو الأحزاب العقائدية (اليسارية) كالحزب الشيوعيّ اللبنانيّ والتنظيم الشعبيّ الناصريّ ومنظمة العمل الشيوعي والعديد من التنظيمات السابقة (مجموعات ناصرية أو بعثية خارج أي تنظيم)، يضاف إليهم ناشطون سياسيون ينتمون الى هيئات المجتمع المدنيّ سواء أخذ هذا الانتماء شكلاً واضحاً أو شكلاً غير مؤطر. وهنا يمكننا الحديث عن آلاف الشبّان والشابات الذين شاركوا بفعالية قصوى في تنظيم حراك إسقاط النظام الطائفي (٢٠١١) والحراك المدني إثر أزمة النفايات (٢٠١٥)، والحراك ضدّ الضرائب التي فرضتها حكومة الحريري الأولى في العهد الحالي (٢٠١٧).

رابعاً، جمهور “اللا ـ سياسة”: بحكم انخراطي في العمل السياسي في لبنان منذ سنوات عدّة، من الملاحظ أن قسماً ممن شاركوا في إنتفاضة ١٧ تشرين كان هذا الحدث بالنسبة إليهم بمثابة الإنخراط الفعلي الأوّل لهم في الشأن السياسي العام. على الارجح، تضمّ هذه الفئة جيل الشبّان والشابات ممن كانوا في المدارس والثانويات والجامعات إبان إندلاع الإنتفاضة، وشكّلت مشاركة معظم هؤلاء في الاحتجاجات مفاجأة للجميع، على إعتبار أنهم جيلٌ بعيدٌ عن السياسة وهمومها. جيل أطلقَ عليه بعض الباحثين تسمية “جيل الآيباد” أو “جيل السوشال ميديا”.

ملاحظة.. وخاتمة

 سعى هذا المقال الى تقديم هوية جمهور انتفاضة ١٧ تشرين، من الناحية السياسية والتنظيمية، وليس الفئات الاجتماعية والعمرية والجندرية التي شاركت في نشاطات الانتفاضة. فالفئات الاجتماعية والعمرية والجندرية، باختلاف شرائحها، توزعت على الفئات الاربع المذكورة أعلاه. ولعلّ أبرز دراسة في هذا المجال هي التي أعدها الباحث في علم الاجتماع، ملحم شاوول، وحملت عنوان “سوسيوغرافيا الإنتفاضة”.

وإذا سلمنا جدلاً ـ وهذا حقيقة وليست فرضية – أنّ جمهوراً حزبياً ينتمي إلى حركة أمل والقوّات اللبنانية وتيّار المستقبل والحزب التقدمي الإشتراكي قد شارك في الإنتفاضة، فإنّ أهداف هذه القوى السياسية معروفة: التصويب حصراً على مسؤولية “العهد” عمّا آلت اليه الاوضاع عموماً، فيما كان شعار “كلّن يعني كلّن” هو الشعار الأساسي لانتفاضة ١٧ تشرين. أمّا لماذا أقدمت هذه القوى السياسية (وربما غيرها في المستقبل القريب) على استعمال الشارع كوسيلة تنفيس لجماهيرها وإيصال رسائل إلى خصومها السياسيين، فهذا مردّه الى عدم إنتظام صفوف “جمهور ١٧ تشرين” ضمن إطار وطني واسع، يحمل مشروعاً سياسياً بديلاً، يستطيع أن يشارك تحت مظلته، أي شخص ينتمي الى إحدى الفئات المذكورة أعلاه، وربما فئات أخرى. وفي هذا المجال، فإنّ كل الأسباب الذاتية والموضوعية التي تقدّمها قوى التغيير قاطبةً لعدم إنجاز هذا التنظيم الذاتي لغاية الآن، لا تقنع جمهور 17 تشرين العريض.

إقرأ على موقع 180  هل أزفّت لحظةُ "القرارات الصعبة" في فيينا؟  

إذا كانت مهمة السلطة أن تستبدّ، فمهمة المعارضة الوحيدة هي أن تنتظم.

 

Print Friendly, PDF & Email
عطالله السليم

كاتب وباحث سياسي

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  البابا يحث المسؤولين اللبنانيين: ساعدوا أنفسكم يساعدكم أصدقاءكم!