كنْ شُجاعاً.. واكفر بما عدا الإنسان!

كيف أقول وداعاً؟ لمن ألوّح بيدي مغادراً؟ كيف أُسكِت قلبي عن النطق؟

كل ما عشت من أجله كان جميلاً ونبيلاً وإنسانياً. لم أكن أبداً على الشرفة متفرجاً أو متأملاً، كما لم أكن سائحاً. إنغمست بالأمل في كل الأمكنة والقضايا حتى عتبة الشيخوخة.. لم أكن ادرك أن كل ما حلمت به وحملته في عقلي وقلبي، وكل ما تمنيته إدماناً على التفاؤل، قد خسرته مراراً وبات هباءً ولا يستحق الندم.

ها أنذا أعتصر زمني بين يدي. ها أنذا أعلن ركامي. أخطأت وأستحق عقوبة تفاؤلي. خياراتي الخرافية، بالحرية والعدالة والمساواة والعيش الكريم، تستحق الشفقة. أفدحها، لا وطن لي. خلفي ركام شاهق من الفشل وأمامي عماء. ما كنت سأكونه، لم أكنه ابداً. أمة من دخان وركام. أمة عن بكرة أبيها، شعوب من سلالات عريقة، بعثرتها نضالات غلط وآلام مجانية ودماء ركامية.. قضايا مستحقة لكل أمة، كلها، كانت ضحية كفاح بلا أفق. كفاح خاضته بطريقة الإرتجال والمزايدة. تطلق النار على العدو، ولا تصيب إلا الأخوة الأعداء. زاغت طلقاتها عن الأعداء الحقيقيين، أعداء الخارج والداخل. إنها خسائرنا، نحن أنجبناها. فكرنا الهش أبوها، ويومياتنا الدامية روزنامة تراجعاتنا.

لذلك؛ تجرّأ وتشاءم. نعم، تجرأ واحكم على نفسك بالفشل المتعمد. العدو، أو الأعداء، لكنت تكون كفيلاً بهم، لو لم تكن معتلاً فكراً وعقيدة وديناً، ولو لم تكن مستأسداً على شقيقك الذي يشبهك، كما هو مفترض. غلَّبت الإنتقام الداخلي على الصراع من أجل الحرية والديموقراطية والعدالة والعيش بعرق الجبين. لقد عانينا من إحتلالين باهظين: إحتلال خارجي بصفوف مرصوصة، وإحتلال داخلي بقوى وصفوف متعادية. كنا نستحق الخسائر، لا شفاعة لأحد. كلهم مذنبون ومتخلفون إن لم نقل خونة على الأرجح.

***

كأننا ولدنا خطأ، عمداً، أو عن سابق تصور وتصميم. رحم زنى سياسي، دولي ومحلي. منذ ولادتنا، ولدنا أعداء حقيقيين. أخوة أعداء كنا، وأكملنا عهرنا السياسي. عوض أن نطلب المواطنة الكاملة، وهي حق مشروع وشرعي، تبرعنا وإجتهدنا وأسرعنا إلى الحضن الطائفي، الحضن المذهبي، الحض العرفي، الحضن العشائري. تفوقنا في العداء. كالأخوة الأعداء صرنا، كما صار بعضنا أصدقاء العدو. صرنا بدداً في جغرافيا شاءها الغرب الجشع ملعباً له برعاية جمهور من الرعايا. الغرب “الحضاري” المنافق شتّت الجغرافيا كيانات. رسّمها بدمنا، ثم زرعنا فيها، عائلات وعشائر وطوائف وعملاء. صارت “دولنا” هدية مسمومة. لبنان ليس، ولم يكن وطناً أبداً. شاؤوه ملجأ لخائفين وتائهين. هكذا وُلد، وهكذا كان، وهكذا ظل حتى كاد أن يتلاشى مراراً. الملجأ، بوابته الخوف: خوف المسيحي من المسلم، خوف السني من الماروني والماروني من الدرزي والخوف الجماعي، في ما بعد، من الشيعي. لا تعجبوا لماذا نحن هكذا. هكذا ولدنا وشبينا وكبرنا وهرمنا، و”قاتلناهم وقاتلونا”. حاضرنا الراهن ليس بِكراً. ما يشهده لبنان، نص مسرحي نتن، قرأناه مراراً. تبّاً لنا.

***

كما في لبنان، تم تمزيق الجغرافيا العربية وتفتيتها وتوزيعها. كل كيان لعائلة أو لعشيرة أو لملة أو لعرق. لآل مارون في لبنان، بالإشتراك غير المتوازن مع السنة والمجحف مع الشيعة. لآل هاشم الأردن، حتى الآن، والعراق، حتى إنقلاب عبد الكريم قاسم. مع قاسم إنتقل الإرث السياسي إلى الجيش. إستبدل الإستبداد الملكي بالإستبداد العسكري. والأخير أكثر عتواً وتوحشاً. العراق ظل أسير البنادق والخنادق والسجون ومنصات الإعدام حتى اليوم. عاش بالدم منذ عقود، وقد يظل لعقود. لا شفاء للعراق من جنون المذهبية والعرقية والسياسات الإنتحارية.

تجرأ أكثر واستعمل اللعنات. كن سخياً بها ولا تخجل. لا نملك نحن العراة. سوى قبضاتنا في الهواء ولساننا في العواء. تجرأ واشتم. هذا حظك الباقي في النضال. علماً أن الشتائم في لبنان، يتلقاها المسؤولون، كأنها مدائح. لا يردون. بلطوا البحر. قولوا ما تشاؤون وسنعمل ما نشاء

سوريا، الشام، أحبطت جريمة تقسيمها. دفعت ثمناً باهظاً حفاظاً على وحدتها بعد خسارة الإسكندرون وسواها. حكمت العائلات المتوارثة منذ العثمانيين، إلى أن اندلعت القومية العربية رافعة راية الوحدة. قومية زاحفة بقيادة مصر الناصرية والأحزاب العلمانية، بنسبة عالية.

فشلت التجربة الوحدوية بسرعة البرق. خاضت حروباً ركيكة ضد العدو فخسرتها. خاضت حروبها الأخوية فتهاوت الوحدة وترسخت الكيانية – القطرية الموروثة من توقيع الاستعمار لخرائطه. ويا للصدف الإنتحارية. ورث العسكر الحكم، وما أدراك ما العسكر في الحكم. الجزمة أرقى من الرأس. الأمر لي وحدي والكل مأمور. لا شورى ولا دستور ولا قوانين. جدران السجون تشهد على فداحة العسكر. وكان ما كان: ضاع العراق. غرقت سوريا بدمائها. ولبنان بات في قعر لا قعر له، أما الأردن، فهو الشقيق التوأم، لإسرائيل العبرية.

***

تجرأ أكثر واستعمل اللعنات. كن سخياً بها ولا تخجل. لا نملك نحن العراة. سوى قبضاتنا في الهواء ولساننا في العواء. تجرأ واشتم. هذا حظك الباقي في النضال. علماً أن الشتائم في لبنان، يتلقاها المسؤولون، كأنها مدائح. لا يردون. بلطوا البحر. قولوا ما تشاؤون وسنعمل ما نشاء.

إقرأ على موقع 180  مصرف لبنان يسترد "الهندسات" من المصارف

فلنوسّع الحلقة: هل ممالك الخليج بخير؟ البترول والنفط والثروة، لا تبني دولاً. بنت ممالك مملوكة من فوق لتحت – لا وجود لشعب هناك ابداً. هناك رعايا، يسيرون بخشية وصمت، ولا ينطقون إلا بما يصدر عن وسائل إعلامهم التي تشبه أيام “الدكتيلو”، في زمن المكتب الثاني الشهابي. هل نسمي تلك الممالك الغنية والشقية معاً؟ ثم ماذا عن ثرواتها؟ إنها ليست لها. ليست لها أبداً. إنهم وكلاء على أموالهم التي تصرف وفق جداول مهمة تعود بالريع على الأقوى. ثم ما هذه الحروب التي تتبناها وتخوضها. هل يستحق اليمن هذا الغضب الخليجي؟ أما كان بالإمكان الاستقلال قليلاً عن واشنطن، فدخلتم معها حروباً خليجية طاحنة في إيران وفي العراق. فلسطين ليست بعيدة، وما كانت تلقى غير الفتات.

لا شفاء لهذا الخليج. منذ ولادته وهو تحت الأمرة الأميركية. لم يشب بعد، وهو يدفع الثمن غالياً وبالعملة الصعبة، وهذا لا يكشف عن عدد الفقراء والمعوزين. بلاد سائبة.

***

تجرأ واغضب. مصر العريقة أين هي؟ ماذا حلّ بها؟ كانت قاطرة النهضة والنهوض. خسرت كل الفرص. بلاد بلا حريات، لا يمكن أن ننجو من الثورات والإنتفاضات. الناصرية الصاعدة بقيادة المشروع العربي القومي، سقطت بالضربة الاسرائيلية القاضية، لأن جيشها لم يكن للقتال، بل للقمع. القمع والتحرر نقيضان. الإتحاد السوفياتي العظيم. لم تسقطه حرب. أسقطته الحرية.

لنودع هذه الحقبة المئوية، فلن يكون أمامنا، إلا شعوب تمشي يومياً في جنائزها.. راجعوا الإرتكابات. تأملوا الأديان التي جاءت كما قيل لخير البشر. أي شر فادح إجترحته. راجعوا المذاهب والطوائف. تأملوا جيداً، ماذا فعلت الطائفية والمذهبية في لبنان. ولا تنسوا أبداً الإرهاب الإسلامي المتعدد والرهيب

مصر اليوم، تعيش في الخفاء. القبضة الأمنية عمياء. لا صوت يعلو على السيسي. وما أدرانا ما السيسي؟ هناك من يهنئ مصر على رجاحة الأمن فيها. صح. هذا أمن مفروض بالقوة. أما الإقتصاد، فهو مدين لديون. إقتصاد الديون يقود إلى الافلاس. إسألوا لبنان.

ماذا يُقال عن السودان؟ خزان العالم الروماني، خيراً وفيضاً. السودان الغني، أرضاً وماءً وشعباً يجوع. الإستبداد أكل الأخضر واليابس. ولأنها وقعت على ركبتيها، قادتها أميركا إلى التسليم بـ”السلام” مع “إسرائيل”، وهذا السلام لا يجلب سلاماً للسودان أبداً. ليبيا محذوفة من الوجود. هي خريطة محتلة من قوى إقليمية وعظمى. هل نزور الجزائر؟ ماذا نقول عن ثورة المليون شهيد، أو ثورة المليونين. عشر سنوات من “الجهاد الإسلامي المرير”. عشر سنوات ممن حاربوا في أفغانستان مع الأميركيين، ضد السوفيات، كمرتزقة، يقودهم “إيمانهم” إلى الوقوف إلى جانب أميركا، ثم محاربة النظام بعباءة عباس مدني. لا تسأل عن الحرية في الجزائر، ولا في أية دولة عربية.

أمة ودول وشعوب، قيد العذاب والتعذيب. قيد النحر والإنتحار. كيانات مختلفة. تتشابه في تخلفها. من المحيط إلى الخليج، ثروات هائلة، شعوب مليونية (300 مليون عربي) لم يصيبوا إسرائيلياً بمقتل. جراحهم الداخلية لا تُحصى. “إسرائيل”، الدولة التي أنشئت بقرار، نجحت وحدها، وسط هذا الركام الذي ولّدته حروب الأخوة الأعداء. أين فلسطين؟ إنها في الماضي. الحاضر ينكرها، والمستقبل يجهلها.

***

غلط. غلط. غلط. نحن الغلط الأول والأخير. وإن لم نكن كذلك، فلماذا ستنضم “لائحة عربية” في “إسرائيل” إلى نتنياهو. هل نصرخ يا للعار! أبداً. سيأتينا الأفدح والأفظع. التطبيع بداية. تكوين محور إقليمي بقيادة “إسرائيل” لن يكون النهاية.

لكل هذه الأسباب. تشجع. تجرّأ على التشاؤم. سمِّ الاشياء بأسمائها. قل: ماذا فعلت الديانات والمذاهب والممالك و..؟ لماذا أدمنَّا الإنتحار؟ قل لهذه الأمة والشعوب وداعاً. بدءاً بلبنان وإنتهاء بفلسطين.

لنودع هذه الحقبة المئوية، فلن يكون أمامنا، إلا شعوب تمشي يومياً في جنائزها. راجعوا الإرتكابات. تأملوا الأديان التي جاءت كما قيل لخير البشر. أي شر فادح إجترحته. راجعوا المذاهب والطوائف. تأملوا جيداً، ماذا فعلت الطائفية والمذهبية في لبنان. ولا تنسوا أبداً الإرهاب الإسلامي المتعدد والرهيب.

يا إلهي، أنزلنا عن هذه الجلجلة.

هل تسمعنا؟

إن لا، دعنا نؤمن بالإنسان، الذي ألغته الأنظمة والعقائد والمذاهب والطوائف والأعراق. والدول التي ترفع كذباً، الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وتمارس القتل والإغتيال وتبارك “إسرائيل” صبحاً وظهرا ً ومساءً.

قل إذن: اكفر بما عدا الإنسان.

(*) بالتزامن مع موقع طلال سلمان

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  من "أيزنهاور" إلى شينكر.. الإحتواء والتطويق!