لا تمرّ علينا أيام طبيعية في لبنان منذ حوالي السّنتين، فإن لم نسمع بخبرٍ جديد يومًا ما، فهناك أمر غير طبيعي إذًا، وهذا ما جرى في الأيام الماضية حيث ما كادت تصلنا أصداء اليورانيوم من منشآت الزهراني النفطية حتى هبّت وسائل الإعلام ووسائل التواصل بكلّ أنواع الإشاعات والأخبار، وصلت إلى حدّ عمليات تخصيب يورانيوم هناك.. على خط الجنوب!
ولكن ما حقيقة الأمر؟
هذه العبوات التي كانت موجودة في منشآت الزهراني، وباتت في عهدة الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية، هي عبارة عن مواد تحتوي على اليورانيوم، صحيح، وبنقاوة عالية، كما صرّح مدير الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية الدكتور بلال نصولي، ولكن استخداماتها ليست كما في خيال البعض، بل هي تستخدم بشكل أساسي في الاختبارات البيولوجية والكيميائية والأبحاث العلمية، على سبيل المثال لقياس تركيز عنصر الصوديوم في المياه، كما لها استخدامات قياسية مرجعية في الإشعاعات، فهي تحتوي على عنصر اليورانيوم المشع بشكل طبيعي بالتالي يمكن اعتبارها مرجعًا للإجابة على سؤال: كم يجب أن تكون كميّة الإشعاع في مكان ما؟
وهنا يجب الالتفات إلى أنّ اليورانيوم عنصر مشع بشكل عادي وطبيعي، نعم لا يجب التواجد بالقرب منه بشكل دائم والتعامل معه من دون تأمين الحماية الجسدية اللازمة، وهذا لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنّ العبوات الموجودة في الصوَر المسرّبة من منشآت الزهراني النفطية تشكّل خطرًا على هذه المنطقة أو على المكان الذي نقلت إليه، ويفترض أن يكون آمنًا ومحكومًا بمعايير دولية محددة.
لماذا لا تشكّل خطرًا على المنطقة إشعاعيًا؟
قبل الإجابة على هذا السّؤال يجب التأكيد أنّ الاشعاع النووي يصدر عن نواة غير مستقرّة، واليورانيوم الأساسي في التفاعلات النووية يحمل نواة غير مستقرّة، ولكن أي يورانيوم وما هي نسبة عدم الاستقرار؟
هذه المادة تتواجد في الطبيعة على شكل عدة نظائر، والنظائر هي ذرات تحمل نفس عدد البروتونات ولكن بعدد نوترونات مختلف (البروتونات والنوترونات هي مكونات نواة الذرة)، ما يؤدي بالتالي لنشاط إشعاعي مختلف في ما بينها واليورانيوم بكل نظائره وأهمها يورانيوم-238 (الأكثر شيوعًا بنسبة 99.3% من اليورانيوم على كوكب الأرض) ويورانيوم-235 (0.6%) ليست مشعة إلّا بشكل خفيف ولا تشكل خطرًا إشعاعيًا على المنطقة المحيطة باستثناء طبعًا حالات انشطار ذرات اليورانيوم، وهنا نكون قد دخلنا إما في المفاعلات المنتجة للطاقة أو القنابل وكلاهما غير موجود في هذه المواد التي يجري الحديث عنها والتي قدرتها الهيئة الوطنية للطاقة الذرية بنحو 1400 غرام.
لا أكشف سرًّا هنا لو قلت أنّ في الكثير من المختبرات على الأراضي اللبنانية توجد عبوات مثيلة لها وفيها مواد مشابهة وخطرة.. والفارق الوحيد أن لا أحد يعلم بوجودها ولو علموا لن يتغيّر شيء، فهناك خبير كيميائي وأجهزة أمن وقضاة وإدارات علمت بوجود 2750 طنًا من المواد المتفجرة (اليورانيوم) في مرفأ العاصمة وبين الناس ولم تفعل شيئًا
وهنا، في حال قامت الجهات المعنيّة في لبنان بفحص إشعاعي للمنطقة ستجد حتمًا أنّ نسبة الإشعاع المحيط بهذه العبوات هو أعلى من المعتاد ولكن المدى الأقصى التي ستصل إليه هذه الإشعاعات قد لا يتخطى أبواب المخزن المتواجدة فيه العبوات الصغيرة التي تحتوي هذه المواد، لأنّ ما يحدث هو ظاهرة طبيعية تحدث في كلّ ما يحيط بنا.
أمّا الإشعاع المخيف والقاتل والذي ينتشر بسرعة الضوء فهو يحدث داخل المفاعلات حيث نقوم عن قصد بالتسبب بانشطار ذرات يورانيوم-235 فتنتج الطاقة وذرات أصغر منها ولكن مشعة بشكل كبيرٍ جدًا، وهذا ليس موجودًا أيضًا هناك.
إنّها الزهراني.. إذًا لا تشرنوبيل.
“كومبي ليفت” في كلّ مكان
ما جرى يمكن تفاديه، وتفادي الكثير من المخاطر لو قيّض للشخص المناسب أن يكون في المكان المناسب، فمن غير المفهوم أن يكون هناك مختبر يحتوي موادًا كيميائية من دون جردة سنوية (المواد موجودة في الزهراني منذ العام 1960) توضح أين تستعمل مثل هذه المواد وبأيّة كميّات ومدى صلاحيتها وهل ما زال لها استعمال أم لا، نحن في لبنان لا تنقصنا لا الموهبة ولا الكفاءة فالشباب اللبناني يمتلك من الطاقات، دون مبالغة، ما يجعل دولًا صناعية تستقطبهم للعمل على أراضيها.. أمّا هنا فحدث ولا حرج عن التنفيعات والمحسوبيات للعمل والوظيفة.
لماذا تقوم شركة ألمانية (Combi Lift) بتفتيش مختبرات تابعة لمؤسّسات الدولة، سواء كانت منشآت النفط أم كهرباء لبنان وحتى مرفأ بيروت؟ ألا تعلم هذه الوزارات أنّ في جامعات لبنان من يستطيع التعامل مع جلّ هذه المواد ويدير عملية استعمالها أو التخلّص منها؟ أصحيح أنّ مبلغ 6 ملايين دولار، من الدولارات الطازجة، سيدفع للشركة الألمانية للتخلص من هذه المواد؟ لمصلحة من؟ ما اسم وكيل هذه الشركة؟
لا حاجة لدفع هذه الدولارات الطازجة إلى شركات أجنبية فنحن أحوج من نكون إليها كدولة لبنانية وجامعة لبنانية. لتبادر الهيئة الوطنية إلى وضع هذه العبوات في خزنة آمنة من رصاص إذا لم يكن لديكم أي استعمال آخر لها. هناك لن تؤثر على محيطها ولن تتأثر بالعوامل المحيطة.
الخلاصة
بحسب اتفاقية الحدّ من انتشار الأسلحة النووية، على لبنان التبليغ عن هذه المواد ويمكنه الاحتفاظ بها وإن لم يرغب فيجب الاحتفاظ بها في أماكن آمنة، فهذه المواد تعتبر أوليّة في الصناعات النووية سواء السّلميّة أم العسكرية والجهة المخوّلة التعامل معها لبنانيًا هي الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية.
أمّا ما يدفع للسّؤال حقًا هو عدم المعرفة المسبقة بما يوجد على رفوف الخزائن في المختبرات، وهذا الأمر لا يعود إلّا لقلّة المسؤولية التي نعاني منها على كلّ المستويات، ولا أكشف سرًّا هنا لو قلت أنّ في الكثير من المختبرات على الأراضي اللبنانية توجد عبوات مثيلة لها وفيها مواد مشابهة وخطرة.. والفارق الوحيد أن لا أحد يعلم بوجودها ولو علموا لن يتغيّر شيء، فهناك خبير كيميائي وأجهزة أمن وقضاة وإدارات علمت بوجود 2750 طنًا من المواد المتفجرة (نيترات الأمونيوم) في مرفأ العاصمة وبين الناس ولم تفعل شيئًا، فإنفجرت ولم نفعل شيئًا من وقتها حتى يومنا هذا، أقله لبلسمة جراح الناس والهمس بالحقيقة للضحايا وأهاليهم.