يروي العاهل الإسباني السابق الملك خوان كارلوس حديثاً دار بينه وملك الأردن الحسين بن طلال. كان الملكان يحضران مباراة مصارعة للثيران في مدينة أشبيلية الإسبانية. ذهب كارلوس يشرح لضيفه بحماسة بالغة لعبة المصارعة، واصفاً القتال بين الثور الهائج والمصارع الشجاع بأنه “صراع حتى الموت”، ولا بد لأحدهما أن يقتل الآخر. لعبة موت يخرج منها المصارع بطلاً إذا قتل الثور. لكن الملك حسين أدهش صديقه ملك إسبانيا بالرد قائلاً “أنا أعرف ما تتحدث عنه. أنا أعيشه كل يوم في منطقتي وحالي من حال هذا المصارع. على الأقل، هو يواجه ثوراً واحداً. أنا عندي كل يوم عشرة ثيران هائجة. كلها تهجم في آن واحد. مصارعك الإسباني لديه مساعدون يحملون أسلحة. أما أنا فوحدي في الحلبة. وأحياناً تأتي الأسلحة من وراء ظهري”.
لم يكن الملك المؤسس للأردن عبدالله الأول بن الحسين سعيداً بالإمارة التي أقطعه إياها وزير المستعمرات البريطاني آنذاك ونستون تشرشل. كان مدركاً لقسوة الجغرافيا وللموقع الذي وصل اليه، مُعاتباً أبيه ومغاضباً شقيقه الأصغر فيصل ملك العراق. وصل عبدالله الأول الى قرية معان الصغيرة المتناثرة على التلال ليجد بضعة مبانٍ إدارية تركتها الدولة العثمانية على خط سكة حديد الشام – الحجاز. في صميم قلبه، كان يعرف أن هذه المنطقة فقيرة وبلا موارد وأنها في حالة حصار دائم مما يجعلها في حاجة دائمة معونة خارجية.
هذه الحقيقة إكتملت مع مشروع قيام دولة اليهود في العام 1948. أصبح الموقع عبئاً ثقيلاً على كاهل الملك عبدالله. إنشاء دولة لليهود في الضفة الغربية من النهر يضمر نوايا إستراتيجية أكثر من النوايا الأيديولوجية التي خطّها وعد بلفور (1917). ثمة خريطة أمنية حديثة يعاد رسمها تتطلب نقطة مراقبة عسكرية غربية شرقي النهر. وهو ما كان في بال تشرشل عند إقتطاعه إمارة شرق الأردن في إجتماعه الشهير بفندق سميراميس في القاهرة.
في تقدير وزير المستعمرات الإنكليزي، أن قيام كيان سياسي شرق النهر تحت الحماية البريطانية يصنع نقطة إتصال محورية بين قواعد المملكة المتحدة العسكرية المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط. من قاعدة قناة السويس في مصر غرباً حتى قاعدة الحبانية شرقاً في العراق. في وسط الأردن، جرى إنشاء قاعدة الزرقاء في المفرق، أي ما بين وادي النيل وأودية دجلة والفرات.
مع ظهور بوادر النفط في الخليج العربي، تظهرت معادلة ماكرة لهذا البلد الفقير بالموارد والغني بالإستراتيجيا، مضمونها أن أمن الأردن وإستقراره يتخطى حدوده الطبيعية لتصل حدود صون التوازن بين أمن البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي. بين أمن البحر الأحمر وأمن البحر الأسود
مع ظهور بوادر النفط في دول الخليج العربي، تظهرت معادلة ماكرة لهذا البلد الفقير بالموارد والغني بالإستراتيجيا، مضمونها أن أمن الأردن وإستقراره يتخطى حدوده الطبيعية لتصل حدود صون التوازن بين أمن البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي. بين أمن البحر الأحمر وأمن البحر الأسود. معادلة التشبيك بين خرائط سياسية وأمنية وإقتصادية. جرى إنشاء خط التابلاين في مطلع خمسينيات القرن الماضي من القيصومة بحفر الباطن في السعودية وحتى الزهراني جنوب صيدا (لبنان) لأجل نقل نفط الخليج إلى أوروبا والولايات المتحدة. بعد أكثر من خمسين عاماً، يجري بناء خط أنبوب البصرة ـ العقبة.
هذا في الجغرافيا. لكن “قسوة التاريخ”، كما وصفها الكاتب المصري محمد حسنين هيكل كانت أشد مضاضة على عائلة الملك عبدالله مؤسس المملكة الأردنية. تراث أسري يجري في جينات العقل الباطني لكل من حكم أو يتطلع إلى كرسي العرش في عمّان. تمتد هذه القسوة من زمن سحيق في كتب التراث. يستعرضها بكل وضوح والد الملك المؤسس للأردن عبدالله الأول ملك الحجاز الحسين بن علي. كان الحسين يذكّر دائماً بما حلّ بأجداده العلويين من مأسٍ وآلام قائلاً “نحن آل البيت هذا قدرنا المكتوب”. لم يشرح مقتضيات القدر، كما في علوم الدين الإسلامي، لكنه إكتفى بقسوة الأحداث التاريخية التي تصنع الأقدار المستقبلية. كان ينظر الى الحاضر بمنظار الماضي، مما ترك كبير الأثر في سلوك إبنه الملك عبدالله الأول وتفكيره.
جاء من بعد عبدالله الأول، الملك الحسين بن طلال. الأخير إستعاد خطاب جده في معرض وصفه قسوة القدر عليه. ففي إجتماع للقادة العرب لإطلاق عملية السلام العربية ـ الإسرائيلية، إستشهد بمقولة الشاعر العرجي عبدالله بن عُمر بن عَمرو بن عثمان بن عفان والتي نسبت للإمام ابو حنيفة قائلاً “أضاعوني وأي فتى أضاعوا، ليوم كريهة وسداد ثغر”. وقتذاك، كان الأردن يئن تحت وطأة ضغط إقتصادي هائل ويستشعر أهوال السلام الآتي.
يظهر جانب المبالغة أكثر فأكثر إلى درجة تتخطى الأحداث التاريخية لتبلغ حد الأساطير. أساطير لها الأثر الكبير في عقل كل حاكم أردني. عائلة الملك الحالي عبدالله الثاني بن الحسين تمتد في عمود النسب إلى الجد الصانع لهذا المجد المجبول بالقلق. هو قتادة بن إدريس الجد الجامع. يحكى أن هذا الرجل ولد في مدينة ينبع الساحلية. ساقه طموحه إلى صنع قدره. لم يكن يُعرَف عنه، كما يدعي أخصامه، أنه كان من نسل آل البيت النبوي الشريف. صيغت سيرته نسباً بعد إستيلائه على مدينة مكة المكرمة وتنصيب نفسه حاكماً لها وإماماً عليها، وإتبع المذهب الشيعي الزيدي ووالى الدولة الفاطمية في مصر حينذاك، حيث كان ينادى في الصلاة بـ”حي على خير العمل”.
يدعو عبدالله خاله علي إلى البقاء في البلد إن أراد، لكن بشرط التفاهم مع الشريف الجديد (الحسين)، فيجيبه خاله المكلوم “هل ترضى بسفري إلى إسطنبول.. فيفعل بي السفهاء من حزب الاتحاد والترقي ما فعلوه بوزرائهم”؟
أساطير امتزجت بأحداث تاريخية تنغرس عميقاً في العقل الباطني. أساطير نجدها في قصة ذهاب قتادة الى العراق وأنه رأى درويشاً يقود أسداً بسلسلة. إمتعض قتادة من المنظر المشؤوم فقفل عائداً إلى الحجاز قائلاً “لا أدخل بلداً تُذل فيه الأسود”. يُقال أن الملك الحسين بن طلال كان يردّد هذه المقولة في أروقة الجامعة العربية، غداة إحتلال العراق للكويت في العام ١٩٩٠م.
هذا الأثر العميق في العقل الباطني لكل حاكم أردني يستمد وقوده من تاريخ مخضب بالدم والخيانة والدعم الخارجي. معادلة تجد ترجمتها في كل قرار من قرارات هذا العقل. عقل حكم الحجاز لأكثر من ستة قرون في ظل تبدل الدول والوصايات المتتالية على أرض الحرمين الشريفين.
في الدم، نجد الصراع ضمن أفراد العائلة الواحدة يتكرر عبر التاريخ. يخرج إلى العلن متفجراً لكن سرعان ما يضبط ضمن الأسرة. بين ذوي عون (أسرة الملك عبدالله الحالي) وذوي زيد صراع مرير على نيل مقعد الشرافة في مكة المكرمة. ففي العام ١٨٢٨م وقعت معركة شديدة بين عبد المطلب بن غالب زعيم بني زيد وبين قوات محمد بن عبد المعين زعيم بني عون. ساعدت القوات المصرية محمداً فانتصر على خصمه بني زيد ليصبح هو الحاكم. عند تعيين الشريف الحسين بن على (والد عبد الله مؤسس الأردن) في منصب الشرافة من قبل الدولة العثمانية عام ١٩٠٨م بعث إبنه عبدالله الى مدينة الطائف لإحضار خاله الشريف المعزول علي بن عبدالله. دار حوار بين رجلين يعرفان تبدل الأدوار والأطوار والرجال والدول. في هذا الحوار، يدعو عبدالله خاله علي إلى البقاء في البلد إن أراد، لكن بشرط التفاهم مع الشريف الجديد (الحسين)، فيجيبه خاله المكلوم “هل ترضى بسفري إلى إسطنبول.. فيفعل بي السفهاء من حزب الاتحاد والترقي ما فعلوه بوزرائهم”؟
يروي الوجيه محمد نصيف، وهو من أعيان مدينة جدة، أنه كان في حفل توديع فيصل بن الحسين عند ركوبه الباخرة إلى العراق في العام ١٩٢١م. قال له “نرجو أن نراك قريباً بيننا في موسم الحج القادم؟” فأجابه فيصل “لا، لن أعود الى الحجاز ما دام والدي فيه”. يضيف نصيف أن الخلاف كان قد استعر إلى درجة قيام الأمير زيد بالاتفاق مع أخويه عبدالله وفيصل على خلع والدهم واجلاس اخيهم الأكبر علي مكانه، لكن الأخير رفض ذلك.
لعل الإستثناء الوحيد جسّده الأمير الحسن بن طلال. الرجل الذي جلس وفياً لأخيه الملك الحسين طوال عهده ولياً له. فوجئ بتعيين إبن أخيه عبدالله ملكاً على وجه السرعة حتى أن البعض نعت تعيينه بـ”مؤامرة سلقت خارج الوطن”. لكنه لم يكن غريباً عن معادلة واقعية أكبر منه ومن بلده الأردن فوقف بكل إحترام وإجلال لمعادلة التاريخ والجغرافيا. عرف وهو المثقف المتعلم أن الأدوار أكبر من الأشخاص وأن الولاء وسيلة بقاء.
في الحكم والخيانة واستدراج الخارج، ثمة مفاهيم تسكن العقل الهاشمي وتحديداً بني عون منذ أن دخلت قوات الحملة العلوية بقيادة طوسون باشا إبن محمد علي باشا والي مصر في العام ١٨٤٠م. كان التقليد المتبع في الحجاز أن الشريف حاكم مطلق. تغيرت صيغة الحكم فأصبح الوالي التركي يشارك الشريف الحكم ومعه قوات عسكرية نظامية تخضع لأمرته. يتولى الشريف إدارة شؤون البدو والوالي التركي شؤون إدارة الدولة. هذا التبدل نراه شاخصاً في ثلاثية مراكز القوى في الأردن التي زرعها الملك المؤسس: الديوان الملكي، جهاز المخابرات ورئاسة مجلس الوزراء. أما شؤون العشائر فيختص بها الملك بنفسه.
تلك هي قسوة الجغرافيا والتاريخ على الأردن. تلة أنشئت عليها إمارة محرومة من موارد طبيعية وتقيم عليها جماعات غير مستقرة وبعضا من التراكمات الحضارية. هذا الموقع الهادئ على جغرافيا الطبيعة، هو صاخب في جغرافيا السياسة. أما في التاريخ، فحدث ولا حرج.