لو تكلّمت جدران بيروت!

إعادة طلاء الحائط عند جسر شارل حلو قبالة مرفأ بيروت، ومحو عبارة "دولتي فعلت هذا"، هو فعل جهل مقصود برتبة جريمة يضاف الى الجرائم المتراكمة للمنظومة الحاكمة.

سلطة فاشلة تتلطّى وراء الطلاء الأبيض علّه يمحو ذنوبها السوداء وما ارتكبه تقاعسها الممنهج وفسادها الفاضح، علّها تبيّض صفحاتها التي تفحّمت بفعل انفجار مرفأ بيروت.

سلطة غير بريئة تحاول أن تمحو بخربشة ريشة أرادَتْها معبّرة عن “فن التواصل اللاعنفي”، ذكرى أليمة خطفت أرواحًا ودمّرت عاصمة، كأن شيئًا لم يكن، على أمل النسيان لتعود الحياة سلسة كما تعهدها.

عبء الذنب ليس مُقدّرًا لمن لا ضمائر لهم.

أزعجتهم جملة على جدار، غرافيتي معبّرة لما يجول في خاطر كل لبناني: نعم، دولتي فعلت هذا!

لكنها لم تهزّهم حتى تتوقف المماطلة في تحقيق جريمة المرفأ ونعرف الحقيقة كاملة. حلقة مفرغة يديرها الفساد المتضّخم، ضحيتها الأولى حرية الرأي المغلوبة على أمرها. فيما تنشط دولتنا بإجراءاتها التعسفية بحق المغردين على وسائل التواصل. نجاح منقطع النظير في الملاحقة واغلاق حسابات ودعاوى لا تحصى.

الغستابو الافتراضي يعمل بلا توقف 24/24. يا ليتها تلاحق مرتكبي جريمة المرفأ بالإصرار والاندفاع ذاتهما!

حائط العار

لقد تحوّل هذا الحائط، الذي “نظّفته” بلدية بيروت، الى مجسّم معبّر عن محاولات السلطة الدؤوبة لطمس الحقائق، فأصبح هو حائط عارها wall of shame.

ليس أسوأ من التقاعس عن المسؤولية الا التخفّي وراء كذبة ومحاولة حجب الشمس بإصبع.

انفجار 4 آب/ أغسطس 2020 يحتاج، الى جانب رمزية الكتابة والرسم، إلى انفجار وعيّنا بالقوة ذاتها. هذا معنى أن تكون غاضبًا وثوريًا في آن معًا

لا يقتصر دور الفن الجداري او الغرافيتي على التجميل فقط، فمثلًا بانكسي، وهو من أشهر رسامي الغرافيتي في العالم، يستولي دون إذن على حائط تابع للدولة من اجل التعبير عن فكرة ما ورسالة موجهة ضد السلطات، فيزيّنه بصور تنطبع في الذاكرة الجماعية وترتبط مباشرة بالأحاسيس واللاوعي.

الغرافيتي تعبير عن شعور ما يخالج من يرسمه، ضد سلطة، ضد ظلم، ضد فكرة، ضد جريمة، ضد حرب. لكنها تبقى مجرّدة مصوِّبة نحو الحق ومحفِّزة وفعليًا غير قادرة وحدها على التغيير المنشود. يتكامل التعبير والتغيير على الرغم من اختلافهما شكلًا ومضمونًا. فيما التعبير الفني في الغرافيتي، وان كان متمردًا، تبقى حدوده الجدران الملوّنة المنطبعة في ذاكرة اللاوعي. التغيير، من جهته، يتطلب وعيًا وقدرة على التحرك الفعّال في الشارع والاصطفاف والتجنيد والا يلتزم حدودًا.

لجدران بيروت الجريحة المكلومة أصوات مكتومة، لو تكلّمت لصرخت بصوتها المبحوح من تراكم غبار الأيام السود: دعوني والتفتوا الى الشوارع الفارغة من إحساسكم، من نبضكم، من غضبكم، من ثورتكم المحقة، ما عاد ينفعني فقط تلوين جدراني وقلبي متّشح بالحزن، أفيقوا من وهلتكم، من كسلكم، من لامبالاتكم.. ولتكن الشوارع وجهة التنفيس والتنفيذ وليس الجدران فقط.

انفجار 4 آب/ أغسطس 2020 يحتاج، الى جانب رمزية الكتابة والرسم، إلى انفجار وعيّنا بالقوة ذاتها.

هذا معنى أن تكون غاضبًا وثوريًا في آن معًا.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  عبد الحسين شعبان: الدولة العراقية تترنح.. والخلافات تُهدّد بإحتراب أهلي
Avatar

صحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  لم يبقَ أمام اللبنانيين إلا إستنساخ قرطاجة!