

لئن كان لبنان وإسرائيل توأمين ولِدا في حقبة جيوستراتيجية واحدة في الفترة الزمنية بين الحربين العالميتين، وفي سياق تقسيم ابتُلِيت به منطقتنا العربية (وبخاصة مشرقنا العربي أو سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب) فإن غاية ذلك التقسيم كانت مدّ الكيان الصهيوني بكل أسباب القوة لجعله دولة كبرى، ومنع هذه الأسباب عن باقي دول المنطقة، بدءاً بفرضُ استقلال بعضها عن بعض للحيلولة دون تواصلها وتعاونها وتكاملها سياسياً واقتصاديا وعسكرياً، ومنعُ كل دولة عربية من تسليح جيشها، كما يجدر بدولة سيادية أن تفعل.
من مؤشرات وجود الدولة هو حُسنُ قيام المؤسسات التي تُنظّم هيكليتها بالوظائف المنوطة بها، وانتظام العلاقات التي تربط بين هذه الوظائف، بحيث يُمكن القول عندئذ بأن الدولة إمّا أنها قائمة فعلاً، وإمّا أنها موجودة شكلاً فقط. على أنّ التناعم والانسجام بين وظائف الدولة مرهون بالسلطة التي تشغل مؤسساتها. من هنا ضرورة التمييز بين هيكلية الدولة وبين السلطة (الحكومة) التي تشغلها، بين دولة فارغة وهيكلٍ خاوٍ، وبين دولة عاملة ينتظم عمل مؤسساتها وتتكامل وظائفها بانسجام لا تناقض فيه. وذلك مرهونٌ بالسلطة التي تشغل هيكل الدولة، فهي التي إما أن تشغّل وظائف مؤسساتها، وإما أن تعطّل عمل تلك المؤسسات.
معظم الدول العربية التي أنشأها سايكس ـ بيكو (1916) هي دول خاوية وخالية من وظائف مؤسساتها. على أن هذا الخواء لم يعد مقتصراً على الدول العربية، فثمة دول عريقة تأسست في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية منذ قرنين على الأقل يجتاحها الفساد وأصابها الخلل في اشتغال وظائفها وتحوّلت إلى مؤسسات صورية؛ والاتجاه الغالب في هذه الدول هو نحو تعطيل وظائف الدولة، تحت ضغط الليبرالية الرأسمالية المتوحشة التي لا تريد للدولة أن تتدخل في توزيع الثروات، ولا في إقامة العدالة بين المواطنين (وهذا يحتاج إلى توسعة ليس محلّها في هذه العجالة).
ما زالت دول سايكس ـ بيكو تحبو بين دول العالم، فإمّا أن نتدرّج في الحبو نحو بناء دولة الاستقلال والسيادة، وإما أن نبقى في وهم السيادة والخضوع، وهذا ما لا تريده الدولة ولا المقاومة في لبنان
موال الدولة
ليس ثمة مَن يعلَم عِلمَ اليقين بأن الدولة في لبنان معطّلة، أكثر من السياسيين اللبنانيين أنفسهم، فهُم يعلمون أنّ الكلام على الدولة هو فنٌّ من أفانين النفاق السياسي، ومع ذلك يخدعون الناس ويُصوّرون لهم أن الدولة قائمة ويتحدّثون عنها وكأنها تعمل بانتظام مثل الساعة “تِك تَك تِك تَك”، حتى إذا ما لاحظ المواطنون مرةً بعد مرة غياب الدولة ويسمعون السياسيين يتحدثون عنها يتساءلون بحرقة: “وينا الدولة”؟ وحده الشعب اللبناني مُضلَّل ومخدوع، فهو من جهة أولى يظن وبسذاجة تصل حدَّ الغفلة أن في لبنان دولة يطالب على الدوام برفع شكواه لها ويحلم بتدخلها والاحتكام إليها، وهو، من جهة ثانية، لا يلقى استجابةً لهذه المطالب، لأن آليات المطالبة والاستجابة معطّلة لا وجود لها.
ومنذ أن وضعت فرنسا العربة أمام الحصان، لم تُقلِع قاطرة الدولة في لبنان وما زالت عاجزة عن الإقلاع، فقد ظلّ حصان الطوائف يجر عربة السياسة في المجتمع اللبناني: لا اتفاق الطائف استطاع نقل هذا المجتمع إلى مصاف دولة في أعقاب حرب 1975، ولا الدولة الشهابية بعد حرب العام 1958 استطاعت الصمود في وجه معاول الهدم التي حملها “الحلف الثلاثي”[1]؛ فقد قام لبنان سايكس ـ بيكو على مجتمع زُرِع في طوائفه وهمٌ بأنه بات لهم دولة مثل دول باقي خلق الله، في حين أن هيكل الدولة شغلته هويتان سياسيتان؛ الأولى تنزع نحو الانخراط في محيطها العربي ولا تعترف بالحدود المصطنعة بين فلسطين ولبنان وسوريا، والثانية تحلم بأن يكون لها كيان سياسي مستقلٌّ على غرار الكيان السياسي العبري، فنشأ تبعاً لذلك نوعان من المواطنين. لم تقُم قائمة لدولة لبنان منذ أن قام لبنان على اتجاهين لم يتوقف التناقض بينهما، وقد لخصهما جورج نقاش بعبارته الشهيرة “نقيضان لا يصنعان أمة”[2].
بارومتر النفاق اللبناني!
نعم لدى لبنان مقعد في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومقعد آخر في جامعة الدول العربية ورئاسات جمهورية وحكومة وبرلمان، ولديه دستور وجيش وعلَم ونشيد وطني، ولكن ما نفع أن يكون لدينا دولة عبارة عن هيكل خاوٍ مسكون بسلطة تُفرِغه من كل مضمون إلّا من النقيضين المذكورَين أعلاه؟
ثمة ثلاثة عناوين يُشير إليها بارومتر النفاق السياسي في لبنان، تبعاً لميزان الصراع بين الهويتين، ومدى استجابة حكومته للمطالب الإسرائيلية الأميركية التي تتراوح بين الاستجابة التامة والاستجابة المترددة وعدم الاستجابة، وهذه العناوين هي: 1 ـ في لبنان دولة (قوية وقادرة)؛ 2 ـ في لبنان دولة ولكن ضعيفة ومشلولة؛ 3 ـ لا يوجد دولة في لبنان (أو في لبنان دولة فاشلة).
من مزايا الدولة وشيمها أنها تهبّ هبّة رجل واحد في وجه العدو حينما يعتدي على أي مواطن من مواطنيها، وأن تنصره ظالماً أو مظلوماً، لا أن تقف على الحياد أو أن تتبنّى حجة إسرائيل بأن حزب الله هو البادئ، وهي التي لم تتوقف يوماً عن اعتداءاتها على مواطني لبنان قبل ولادة الحزب (1982) بزمن، بل منذ العام 1948، ولن تتوقف حتى تحمل لبنان على التطبيع معها، وتُرغمه على الخضوع، وتراه جزءاً من “إسرائيل الكبرى”. ولو أن الدولة اللبنانية تهب تلك الهبة ولا تكتفي بالتفرج على اعتداءات إسرائيل على جنوب لبنان منذ 1948، لما كانت هناك حاجة لقيام مقاومة من خارج الدولة. ولكن ما حيلة الدولة حيال مواطنَيْها [مُثنّى مواطن] هذين، أو تجاه نوعَيْها من المواطنين: الأول يُعادي إسرائيل ويعمل على ألّا يكون لبنان خاضعاً لها، والثاني يُحالفها ويأمل أن يكون له كيان على شاكلة كيانها، ولو منزوع السلاح والأسنان والأظافر) وذلك من ضمن استراتيجية صهيو ـ استعمارية ترمي إلى تقزيم الجيوش في جميع الدول المحيطة بإسرائيل وتجريدها من سلاحها (كما فعلت في العراق وتفعل في سوريا ولبنان حالياً)، باستثناء السلاح الخفيف الذي تستخدمه في قمع مواطنيها إن هم قالوا “الموت لإسرائيل” (كسلاح السلطة الفلسطينية). أما الدول الأخرى ذات الجيوش المسلحة بكفاءة عالية وعقيدة قتالية (تركيا، إيران، مصر) فتُحرّم عليها إسرائيل امتلاك السلاح النووي كي يبقى امتيازاً إسرائيلياً وجعل الشرق الأوسط بحيرة إسرائيلية.
الفخ.. الإسرائيلي؟
عندما قال العدو الإسرائيلي إن حرب غزة هي حرب وجودية، كانت المقاومة اللبنانية تُدرك أيضاً أنها حرب وجودية، ففلسطيني ولبناني وأردني وسوري ليست سوى تسميات تقسيمية لتيسير مهمة الاحتلال التوسعية وحكاية الثور الأبيض والأسود والأشقر ليست مجرّد بلاغة أدبية وإنما هي حكمة سياسية ومقولة عسكرية. حرب إسناد غزة هي امتداد تاريخي لإسنادات سابقة على امتداد الفترة بين إعلان دولة لبنان الكبير واستقلال لبنان، حينما تضافرت جهود مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين، ومقاومة الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا؛ فقبل ولادة التوأمين الكيان اليهودي والكيان اللبناني لم يكن هناك ما يدعو إلى اعتبار المقاومتين منفصلتين فقد كانت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين بلدات جبل عامل وبلدات الجليل الفلسطيني عادية وطبيعية وشبيهة بعلاقات أبناء بلدات الشمال (وخصوصاً عكار) مع الجوار السوري (وهي علاقات ما يزال أبناء الجانبين أوفياء لها إلى يومهم هذا).
لا يعني طلب الدولة من المقاومة تسليم سلاحها أن الدولة تُضمِر الشرّ للمقاومة وتريد الإيقاع بها، ولا يعني امتناع المقاومة عن تسليم سلاحها للدولة أنها عازمة على التمرّد عليها، بل إن القضية برمتها هي فخ تنصبه إسرائيل/ أميركا لهما معاً للإيقاع بكليهما، ففي تسليم سلاح المقاومة للدولة (لا بُغيَةَ استفادة الدولة منه في سياسة دفاعية ضد إسرائيل، بل لغرض إتلافه وتدميره في مواقع وجوده في جنوب لبنان) يعني موت المقاومة ثم موت الدولة نفسها ببطءٍ أولاً، ثم زوالها التام بعد ذلك؛ فما نسميه فخ الدولة ليس فخاً تنصبه الدولة للمقاومة من أجل التخلص منها، وليس عدم وقوع المقاومة فيه تمرداً منها على الدولة بل هو فخ تنصبه إسرائيل/ أميركا للدولة وللمقاومة معاً.
حرب إسناد غزة هي امتداد تاريخي لإسنادات سابقة على امتداد الفترة بين إعلان دولة لبنان الكبير واستقلال لبنان، حينما تضافرت جهود مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين، ومقاومة الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا؛ فقبل ولادة التوأمين الكيان اليهودي والكيان اللبناني لم يكن هناك ما يدعو إلى اعتبار المقاومتين منفصلتين
وها نحن نشهد اليوم اشتغال آلة الهدم الإسرائيلية تدمر البناء العربي والتراث العربي في فلسطين ولبنان وسوريا: جيش إسرائيلي من الجرّارات والجرّافات والآليات العملاقة يواكبه جيش إسرائيلي آخر من المعدات والآليات والمواد لبناء عبري يحل محل البناء العربي.. وفي هذا التحول الكبير الجاري على قدم وساق من سوريا كبرى إلى إسرائيل كبرى، أو من مشرق عربي إلى شرق أوسط جديد، يُذكّر المحللون بالمنسيّ الأكبر، الشعوب العربية، ويتساءلون مستنكرين: أين الشعوب العربية؟ “وين الملايين” إزاء التغييرات المروّعة والمرعبة من دون أن تحرّك مشاعر الخوف في الشعوب العربية، فكأنما اللاعبون الوحيدون في هذا الصراع هم المخطط الصهيوني والأنظمة العربية والمصالح الأميركية، وكأنما الشعوب العربية في وادٍ وما يجري في وادٍ آخر، وكأنما شعوب هذه البلاد لا تملك إلا أن تتفرّج على ما يحدث وكأنما ما يحدث لا يهمها، فهو شأن الحكام (سلاطين كانوا أم أمراء أم خلفاء أم رؤساء..) المنفصلين عنها منذ قرون وقرون[3] فكيف يمكن أن يحصل ذلك؟ ولم يتغيّر على هذه الشعوب وعلى طريقة عيشها وتعايش مكوناتها حينما جُعِل لها أُطرٌ سياسية/ قانونية جديدة (سايكس ـ بيكو) بعد زوال الحكم العثماني، فقد ظلّت هذه الأطُر التي أُسقِطت عليها من فوق، منفصلةً عنها كما كان الأمر في القرون السابقة.
لا مرجعية دولتية عربية
ليس لدى الشعوب العربية مرجعية دولتية تاريخية (منذ قيام السلطنة العثمانية أوائل القرن السادس عشر) يستندون إليها، فهم انتقلوا من تحت حكم السلطان العثماني إلى تحت الحكم الاستعماري الغربي، وكأنه انتقال عادي وروتيني لم يُغيّر شيئاً في أوضاع هذه الشعوب التي اعتادت أن تعيش في مجتمعات مؤلفة من غنى ثقافي يتمثل في تعدد الأديان والمذاهب واللغات والأعراق (كسواها من المجتمعات في الشرق والغرب، قبل قيام الدولة التي جعلت أبناء هذه المجتمعات مواطنين ولاؤهم السياسي لدولهم يعلو على انتمائهم الثقافي الديني والمذهبي واللغوي والعرقي.. ومنعت عليهم تحويل هذا الانتماء الثقافي إلى أساس يقتضي تتويجه بهوية سياسية. ولم يُستثنَ من هذا المنع سوى اليهود الذين يزعمون بأنهم ما زالوا يشكّلون مجموعة واحدة ذات ثقافة تسعى لأن تستوي في دولة).
في عالم الدول، ما زالت دول سايكس ـ بيكو تحبو بين دول العالم، فإمّا أن نتدرّج في الحبو نحو بناء دولة الاستقلال والسيادة، وإما أن نبقى في وهم السيادة والخضوع، وهذا ما لا تريده الدولة ولا المقاومة في لبنان.
المواطنون في جنوب لبنان هم شعب لبناني، بل هم الشعب اللبناني، ومن يرى عكس ذلك لا يرى المخاطر المحدِقة باللبنانيين جميعاً.
[1] النقطة المضيئة الوحيدة في تاريخ لبنان الاستقلال هي تلك التي صنعها فؤاد شهاب ومشروعه الفعلي والحقيقي في بناء دولة ومؤسسات وطنية. غير أن هذا المشروع لم يصمُد طويلاً أمام هجمات الأحزاب الطائفية ثم الضربة القاضية التي وجّهها له “الحلف الثلاثي” (كتائب بيار الجميّل ونمور كميل شمعون وكتلة ريمون أددّه).
[2] في العام 1949 كتب جورج نقاش تحت عنوان “Deux négations ne font pas une nations” مقالة في صحيفته “لوريان” (التي أصبحت فيما بعد “لوريان ـ لوجور” L’Orient – Le Jour) وعوقِب بسببها بالسجن مدة ثلاثة أشهر، وبمنعه من الكتابة في الصحيفة مدة ستة أشهر.
[3] وهذا وضع ليس خاصاً بالشعوب العربية وحدها بل هو وضعٌ عام يطول شعوباً كثيرة، كما يوضح (Pierre Clastre) في كتابه الشهير “المجتمع ضد الدولة” société contre l’Etat La (1974).