لو يدري الكاظمي بما بين بلاد الرافدين.. ولبنان

بمعزل عن ظروف "الموعد الملتبس" لا بل "المُعلق"، حتى الآن، لرئيس حكومة لبنان المستقيلة حسان دياب، إلى العراق، من المناسب الطرق على أبواب الذاكرة اللبنانية ـ العراقية طوال المائة سنة المنصرمة، حيث كانت وجهة اللبنانيين نحو بغداد، ووجهة العراقيين نحو بيروت، وبصرف النظر عن انقلابات السياسة وتقلباتها.

في زمن مضى، كان الفلاحون والعمال والمثقفون والسياسيون في بلاد الرافدين يستيقظون عبر موجات الأثير القائلة: “هنا بغداد”، وتصدح بعدها فيروز من إذاعة “جمهورية العراق” منشدة ومغنية مع كل صباح:

بغداد و الشعراء والصور/ ذهب الزمان وضوعه العطر

يا ألف ليلة يا مكملة/ الأعراس يغسل وجهك القمر.

تلك الأغنية حظيت بشيوع وانتشار، لم ينافسهما سوى النشيد الوطني العراقي “موطني موطني/ الجلال والجمال/ والسناء والبهاء/ في رباك”، الذي وضع لحنه الموسيقيان اللبنانيان الأخوان محمد وأحمد فليفل عام 1934، وكذلك هي الحال مع النشيد الوطني الذي سبق عام 2003، والمعروف بـ”أرض الفراتين”، وهو من ألحان الموسيقار اللبناني وليد غلمية عام 1981.

لم تكن تلك المعطيات الفنية، لحظات عابرة، بل هي تعبير عن مسار متمازج طويل، عمره من عمر الدولتين العراقية واللبنانية منذ أوائل عشرينيات القرن الماضي، حين تساوت وارتفعت أحلام وطموحات اللبنانيين والعراقيين إلى مستوى بناء الدول الحديثة.

هل تعرفون رستم حيدر؟

أغلب الظن أن كثيرين يجهلونه.

رستم حيدر، أو محمد رستم حيدر، هو واضع الدينار العراقي، لبناني من مدينة بعلبك، شغل مناصب وزارية عدة في العراق بين الأعوام 1930 و1940، بينها وزارتا المالية والإقتصاد، ولكن قبل الإسهاب بذلك، من المناسب التطرق إلى شهادات بعض كبار السياسيين العراقيين به:

يقول  نوري السعيد، الشخصية  السياسية العراقية الأكثر بروزا في العهد الملكي والذي ترأس مجلس الوزراء مرات عدة “إن رستم حيدر أعظم رجال العراق والعرب وأصدقهم وطنية وأبرزهم كفاءة”، وفي كتابه “سيرة وذكريات”، يقول رئيس الوزراء العراقي الأسبق ناجي شوكت “رستم حيدر كان قوميا عربيا مستقيما وتثقف ثقافة عصرية واسعة، وكان الدماغ المفكر للملك فيصل، وكان يستحق رئاسة الوزارة”، وفي “ذكريات بغدادية”، يصف وزير الخارجية في الحقبة الملكية موسى الشابندر، رستم حيدر بأنه “الرجل الوحيد الذي يستحق أن يقال عنه رجل دولة”.

من عملة إلى عملة

في مذكرات رستم حيدر التي حققها ونشرها المؤرخ العراقي نجدة فتحي صفوة، يقول الأخير “من منجزات رستم حيدر في وزارة المالية، هو قانون العملة العراقية، الذي تبنى مشروعه ونفذه، فحقق بذلك للعراق استقلاله النقدي”.

في “ذكريات بغدادية”، يصف وزير الخارجية في الحقبة الملكية موسى الشابندر، رستم حيدر بأنه “الرجل الوحيد الذي يستحق أن يقال عنه رجل دولة”

وعلى ما يقول نجدة فتحي صفوة “كانت العملة المتداولة في العراق منذ الإحتلال البريطاني هي الروبية الهندية وتوابعها، التي فرضتها حكومة الإحتلال، ومن ثم بقيت عملة رسمية في العراق، وقد شعر رستم حيدر أن من الضروري إحداث عملة خاصة بالعراق بعد أن أصبح دولة مستقلة، كما أن القانون الأساسي كان نص على وجوب سك عملة وطنية للدولة، وقد تمكنت وزارة نوري السعيد الأولى، بمبادرة من رستم حيدر، من تحقيق هذه الأمنية الوطنية، فسنت قانون العملة العراقية، الذي أصبح بموجبه الدينار العراقي وتوابعه عملة رسمية اعتبارا من نيسان/ إبريل 1932، وكان رستم حيدر هو الذي وضع هذا القانون ودافع عنه في البرلمان، وقد عارض المشروع بعض رجال السياسة، وكان منهم من يعارضه لمجرد أن صاحبه هو رستم حيدر”.

وعن رستم حيدر والدينار العراقي ومعارضيه، يقول المفكر القومي ساطع الحصري في كتاب “مذكراتي في العراق” إنه عندما وضعت الحكومة العراقية “مشروعا لإحداث العملة العراقية لتقوم مقام الروبيات المتداولة في البلاد، عارض هذا المشروع بعض رجال السياسة، وقد التقيت يوما بأحد هؤلاء المعارضين، ولاحظت أن هذا الرجل كان يعارض المشروع، لكونه موضوعا من قبل رستم حيدر وزير المالية”.

ولكن ما علاقة الروبية الهندية بالعراق؟

هنا يتجه الكلام، إلى ما يورده أحد أهم الذين عملوا على حفظ الذاكرة السياسية العراقية في النصف الأول من القرن العشرين، عبد الرزاق الحسني (1903 ـ1997)، صاحب موسوعة “تاريخ الوزارات العراقية” التي أصدرتها مجلة “العرفان” اللبنانية في ستة أجزاء في خمسينيات القرن الماضي، ففي الجزء الأول من كتابه “أحداث عاصرتها”، يتساءل عبد الرزاق الحسني: كيف قضت ثورة العشرين على فكرة إلحاق العراق بالهند؟

يجيب الحسني على ذلك بالإعتماد على أطروحة بحثية للدكتور وميض عمر نظمي يكشف من خلالها مضمون رسالة لقائد عسكري إنكليزي موجهة إلى صديق له في البرلمان البريطاني، ويقول فيها “أود أن أعلن أنه من الضروري ضم ـ منطقة ـ ما بين النهرين ـ العراق ـ إلى الهند، مستعمرة للهند والهنود، بحيث تقوم حكومة الهند بإدارتها وزراعة سهولها الواسعة، بالتدريج وتوطين البنجاب أو الأجناس ـ الأقوام ـ المحاربة فيها”.

وأمام هذه المشروع التوطيني للهنود في العراق وإلحاقه بالهند، وفي حال جرى تجاوز احتماله العملي من عدمه، تكون ثورة العشرين كمفصل تاريخي كبير، أسّست لولادة الدولة العراقية الحديثة، فيما قدوم الشريف فيصل بن الحسين إلى العراق في التاسع والعشرين من حزيران/ يونيو1921 وما أعقبه من إعلان المملكة الهاشمية، شكل العماد الثاني لقيامة الدولة، فإن مشروع الدينار العراقي كرمز من رموز الإستقلال، أسهم في تكريس معالم الخصوصية الوطنية.

في مقالة لسعد سوسة على موقع “الحوار المتمدن” العراقي بتاريخ 8 ـ 10 ـ 2018، أن العراق وقّع مع لبنان اتفاقية في الثاني والعشرين من ايلول/ سبتمبر 1959، لإستقدام 13 مدرسا لبنانيا للتعليم في المدارس العراقية، وفي العام نفسه، قرر العراق أن يهدي لبنان 8 طائرات من نوع “هارفرت”

هل يوجد غير العملة الوطنية وتلحين نشيدين وطنيين؟

إقرأ على موقع 180  "ثورة البندورة" (3)

لا بأس من تصفح أوراق الزمن الذي مضى.

بتاريخ الخامس والعشرين من آذار/ مارس 1925، ذكرت مجلة “العرفان” أن موفدا لبنانيا وصل إلى العراق حاملا مشروعا وشروط امتياز للري، وهذا المشروع “تتوقف حياة العراق عليه”، وابتداء من الثاني عشر من شباط/ فبراير 1953، ستنشر صحيفة “الحياة” على حلقات متتالية “مذكرات عارف النعماني”، وفيها ستتوضح المشاريع الحيوية الإستراتيجية التي كان النعماني بصدد إنشائها وتمويلها في العراق، ومن ضمنها مشروع الري، وهذه المذكرات صدرت بعد حين في كتاب مستقل حرره محمد قره علي، وفي عام 1999 أصدرت الدكتورة فاطمة قدروة الشامي كتابا بعنوان “عارف بك النعماني: وثائق حول العلاقات اللبنانية السورية الفرنسية”، يحفل بوثائق جديدة حول المشاريع العمرانية للنعماني في العراق وغيره من الأقطار العربية.

من هو عارف النعماني؟

هو من بيروت (1882 ـ 1955) ومن كبار وجهائها وأثريائها، كادت مقصلة جمال باشا السفاح تطال رقبته لإشتغاله في الجمعيات السياسية العربية المناهضة للدولة العثمانية، وقد ارتبط بصلة وثيقة مع العائلة الهاشمية، وخصوصا ملك العراق، فيصل بن الحسين، وفي أوراق سيرته، أنه نزل عند رغبة الأمير شكيب إرسلان في تقديم الدعم المادي للعديد من حركات المقاومة العربية في فلسطين وتونس والمغرب والسودان، ومن دون إغفال مساهماته المالية الداعمة للثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين ومن بعده إبنه فيصل في المرحلة الممتدة بين عامي 1918 و1920.

من مشاريع عارف النعماني في العراق، ما يُعرف بسدود نهر ديالا، واستهدف هذا المشروع استصلاح الأراضي الزراعية بغرض زراعتها بالقطن، ولما استقر الإتفاق مع الحكومة العراقية على استثمار آلاف الكيلومترات المربعة بشرط أن تعود إلى ملكية الدولة بعد عشر سنوات، فإن الإنكليز رؤوا في مجمل المشروع تحديا منافسا لشركاتهم العاملة في مصر في مجال زراعة القطن ومنتوجاته، فعمدوا بعد سنوات ثلاث من انطلاق مشروع القطن العراقي على خفض منسوب مياه نهر ديالا المخصص للمشروع، ومن ثم قطعها، مما أثار حنق المزارعين نتيجة شح المياه وانقطاعها، فتظاهروا منددين بالمشروع ومطالبين بإلغائه، وهكذا كان.

وفي قائمة مشاريع النعماني في العراق، سد الحبانية لتوليد الكهرباء، وإذ نال هذا المشروع موافقة الحكومة العراقية، إلا أنه سرعان ما سقط، جراء تداعيات الإنقلاب العسكري الذي قاده اللواء بكر صدقي عام 1936 ضد حكومة ياسمين الهاشمي، ودخول العراق إثر ذلك في مرحلة مضطربة كان من عناوينها وسماتها السوداء، مقتل وزير الدفاع اللواء جعفر العسكري المعروف بـ”أبو الجيش العراقي”.

وقبل انقلاب بكر صدقي، كان في جعبة عارف النعماني، مشروع لتأسيس خطوط جوية عربية، مقرها بغداد، ومؤسسة إسلامية للحج، وكذلك سلسلة فنادق، ظهر منها إلى حيز الفعل، فندق “كارلتون”.

في مقالة لسعد سوسة منشورة على موقع “الحوار المتمدن” العراقي بتاريخ 8 ـ 10 ـ 2018، أن العراق وقّع مع لبنان اتفاقية في الثاني والعشرين من ايلول/ سبتمبر 1959، لإستقدام 13 مدرسا لبنانيا للتعليم في المدارس العراقية، وفي العام نفسه، قرر العراق أن يهدي لبنان 8 طائرات من نوع “هارفرت”.

ما بين الأعوام 1958 و1960، ارتفعت الصادرات العراقية إلى لبنان مما يقارب 560 ألف دينار إلى ما يتجاوز المليون و785 ألفا، وارتفعت الصادرات اللبنانية إلى العراق من مليون و231 ألف دينارا إلى 4 ملايين دينار.

هل يمكن الحديث عن خط نفط كركوك ـ طرابلس؟

ربما لا داعي للحديث عنه، فالخط ما زال قائما ينطق بصمت ويتكلم بكلمات ليست كالكلمات.

ختام الكلام مع شاعر العراق الكبير، محمد مهدي الجواهري، إذ يقول:

عضي على الجرح يا بغداد صابرة.

بيروت تعرفُ ما فيها وما فينا.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الطائف الجديد.. هل يُؤكل هذا الطبقُ بارداً؟