أيّها اللبنانيّون.. هذا هو قضاؤكم!

"الفساد مثل زواج المصلحة. إذا أفسدنا المصلحة، يبطل الزواج. ويصبح الأحبّة أعداءً، يدمِّر بعضهم بعضاً". هكذا يمازح القاضي الإيطالي أنطونيو دي بييترو صحافيّاً كان يستفسره، عمّا يعنيه قوله "إنّ الفساد يدمّر الدولة من الداخل، لذلك يجب تدميره من داخله". ودي بييترو هذا، ليس قاضياً عاديّاً. إنّه أسطورة إيطاليا القضائيّة الحيّة.

لقد اعتُبِر دي بييترو بطلاً قوميّاً. كيف لا، وبفضله أُلغيت منظومة عمرها أربعون عاماً. واندثرت أحزاب سياسيّة تاريخيّة بعد انفضاح ضلوعها بالفساد. بدأت الحكاية في شباط/فبراير 1992. عندما اكتشف دي بييترو في أحد تحقيقاته، تورّط بعض السياسيّين في قضايا رشوة. توسّع بالتحقيق. انضمّ إليه زملاء كثر. بعدئذٍ، تدحرجت كرة الثلج من ميلانو إلى كلّ أنحاء إيطاليا. وطوال أربعة عشر شهراً، فُتِحت الدروب لتأخذ العدالة مجراها. Mani pulite أو “الأيدي النظيفة”، كان اسم حملة مكافحة الفساد الشهيرة في إيطاليا. 5046 شخصاً أُوقفوا أو حُقّق معهم، من السياسيّين والنواب والمنتخَبين المحليّين والإداريّين والصناعيّين والموظّفين في القطاع العامّ ورجال أعمال. صُدِم الإيطاليّون بحجم الفساد المعشعش في ثنايا وطنهم. فخرجوا في تظاهراتٍ شعبيّة، دعماً لدي بييترو والقضاة الآخرين. غنّوا للقاضي الأسطورة في ملاعب كرة القدم “دي بييترو.. جعلتنا نحلم”. ما أجمل أحلام الشعوب! فهي دائماً تترجم الآمال المخبوءة والطموحات المكبوتة!

لا شكّ، بأنّ دي بييترو جعل القاضية اللبنانيّة غادة عون تحلم، هي الأخرى، بما فعله. فها هي تستيقظ، باكراً، يوم الجمعة الفائت. ليس غريباً أن يجافيها النوم! هي التي تجرّأت على فتح ملفاتٍ دسمة بالفساد، ترى نفسها تُقمَع من أهل البيت. خالجها شعور دفين، بأنَّها مستهدَفة. فقبل ساعاتٍ فقط، أعلمها النائب العامّ التمييزي القاضي غسان عويدات، بقراره كفّ يدها عن التحقيق في ملف شركة مكتّف للصيرفة. وعن سائر ملفّات القضايا الماليّة. كلّ الحرتقات والتضييقات التي حاصر بها عويدات عمل النائبة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان، لم تُشفِ غليله. هو يعرف، وقضاة المجلس الأعلى للقضاء يعرفون، وكلّ النيابات العامّة تعرف، أنّ لدى غادة عون وثائق و”داتا” تكفي لإطاحة أكثر من حكومة. لدحرجة أكثر من رأس. وهنا كان بيت القصيد!

تذكّرت جواب أنطونيو دي بييترو (ما غيره)، عندما سأله صحافي كيف استطاع أن يقوم “بمعجزته”، فقال له: “اتّخذتُ القرار، وأنا أعلم أنّني قد أدفع حياتي ثمناً لذلك. لذا اجتمعتُ بشبابٍ من نخبة الشرطة وقلتُ لهم إنّ مصير البلد بأيديهم وإنّه لا مجال للخوف. وهكذا بدأنا عمليّات اختراقٍ واسعة لشبكات الفساد”

إذْ إنّ نوع المعلومات التي بحوزتها، يقلقهم. والأشخاص المعنيّون بتلك المعلومات، يجزعون من أن يصيبهم مكروه. ليست المعلومات هي ما يخيف القضاء. إنّما الجهة التي تملكها. فالإخبارات والملفّات والتسجيلات التي تطيح وتدحرج، مكدّسة أيضاً في مكاتبهم. لقد تسلّموها باليد، من مواطنين وصحافيّين استقصائيّين. لكن على عجل، وضعوها في الأدراج. ومن أجل حفظ بعضٍ من ماء الوجه، استدعوا شخصيْن أو ثلاثة إلى العدليّة. استدعوهم تحت طائلة تلبية الدعوة الشهيرة “عازمينك على فنجان قهوة”!

نعود إلى الحلم الذي أفاق غادة عون، مضطربةً، من نومها. بينما ترتشف قهوة الصباح (في منزلها وليس في العدليّة)، كانت تطوف بفكرها في أجواء البلد الصاخبة. فترسَّخت قناعتها، بأنّها تقف على خطّ الزلازل. لذا، قرّرت أن تواجه “خصومها” علناً. فمعروفٌ عنها عنادها (يبدو أنّه متأصّل في جينات آل عون). وحماسها المفرط إذا تحدّاها أحدهم. والأهمّ، جسارتها حيال الأقوياء والأثرياء. همست في سرّها “فلتكن معركتكِ يا غادة شعواء مجلجلة، وعلى مرأى من الناس جميعاً”. وهذا ما كان، وشهدتم عليه في الأيّام المنصرمة. نعم. شكّلت مواجهتها سابقة قضائيّة لم نألف مثلها، لا في لبنان ولا خارجه. فالقضاء مهنة لا تلفت نظر الرأي العامّ، عادةً. كونها لا تتمتّع، بأيّ حيّز إثارة أو تأزّم في ساحات الصراع والوغى. وإذا كان مرادف السلطة في عقل الشعوب يتّحد مع مَن يُمسِك بالسيف والمدفع، فإنّ مرادف القضاء يتّحد مع مَن يُمسِك بميزان العدالة. لذا، فإنّ الصورة الذهنيّة التقليديّة للقاضي، تحمل غالباً ملامح الجدّية والوقار والبُعد عن الشبهات والروح المتزمّتة. وكلّها صفات لا تثير، حتماً، خيال الناس. لكنّ ذلك لا يمنع من بروز استثناءات. وغادة عون، عزمت على أن تكون ضمن هذه الاستثناءات.

ماذا فعلت؟

لقد تذكّرت جواب أنطونيو دي بييترو (ما غيره)، عندما سأله صحافي كيف استطاع أن يقوم “بمعجزته”، فقال له: “اتّخذتُ القرار، وأنا أعلم أنّني قد أدفع حياتي ثمناً لذلك. لذا اجتمعتُ بشبابٍ من نخبة الشرطة وقلتُ لهم إنّ مصير البلد بأيديهم وإنّه لا مجال للخوف. وهكذا بدأنا عمليّات اختراقٍ واسعة لشبكات الفساد”. شدّت غادة عون رحالها، وانطلقت بمعيّة عناصر من جهاز أمن الدولة إلى شركة ميشال مكتّف للصيرفة. فهذه الشركة التي تستحوذ على ما نسبته 90% من حركة نقل الأموال في لبنان، ملاحَقة بتهمة إخراج الدولارات cash من البلد. أي، في ذروة الأزمة الماليّة والاقتصاديّة وتبخُّر العملة الأجنبيّة من لبنان، يهرِّب “المكتّفيّون” الملايين تحت جنح الظلام.

الإنجاز الوحيد لغادة عون في “أسبوع آلامها القضائي”، هو إسقاطها ورقة التوت عن القضاء. كان المواطن اللبناني لا يزال يعتقد، وحتّى الأمس القريب، أنّ ما يحميه هو عدل القاضي وسيادة القانون. لكنّ واقعة مكاتب مكتّف، أكّدت له بالدليل القاطع أنّ القضاء اللبناني لا يحميه. على العكس تماماً. القضاء يعمل ضدّه

لا تهمّ كلّ تفاصيل “الاقتحامات القضائيّة المباشرة على الهواء”، لغادة عون. ولا ضرورة للخوض، أيضاً، في المتاهات القضائيّة والدستوريّة التي بدأها “الذباب المصرفي والإعلامي”، دعماً لمهرّبي الدولارات وذمّاً بالقاضية المتمرّدة. بل ما يجب تأكيده، أنّ كلّ همروجة “مجلس القضاء الأعلى” لم تكن إلاّ هراءً. زوبعة في فنجان. كلام حقٍّ، يُراد به باطل. فالهدف كان في ناحية، والتصويب كان باتجاه ناحيةٍ أخرى. كيف؟

إقرأ على موقع 180  لبنان بين فرضيّتين ساذجتين فلسطينياً.. ماذا عن الخيار الثالث؟

حاول القاضي غسان عويدات أن يوقف مساراً قضائيّاً، بأيّ ثمن. وقراره حيال القاضية عون (غير القانوني)، لا يمكن إدراجه إلاّ في خانة عرقلة تحقيقٍ حيوي بالنسبة للمجتمع اللبناني. قام، إذاً، بـ”تدخّلٍ جرمي سافر”، بحسب تعبير المدير التنفيذي للمفكّرة القانونيّة المحامي نزار صاغيّة. إذْ، بدت فاضحة محاولاتُ الجهاز القضائي وبعض الإعلاميّين، لتركيز الاهتمام على ما سُمّي “سلوك القاضية عون”. صوّروها مشاكسة. متمرّدة. مختلّة. مكبوتة جنسيّاً (لأنّها غير متزوجة!). ووصل بهم الأمر، إلى حدّ تناقل صورةٍ يظهر فيها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وإلى جانبه شابة (زوجة شقيقه رفعت)، قالوا إنّها القاضية غادة عون. وذيّلوا الصورة بجملة تقول “هكذا وصلت غادة عون إلى منصبها”! هل هناك أفظع من تشويه السمعة كأداةٍ للهجوم؟ بخاصّة عندما يكون المهاجَم إمرأة؟ كلا. ولكن، لماذا الهجوم على غادة عون؟

لأنّها، ببساطة، تجرّأت على المحرّمات. مسّت بمصالح “جهاتٍ عليا”، يمنع القضاء اللبناني منعاً باتّاً المسّ بها. وهذه الجهات هي تحديداً: كلّ سياسي صاحب نفوذ – المصارف – حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فضحت غادة عون، ومن دون قصدٍ ربّما، الخطّة الممنهجة للنظام. خطّة، تنفّذها الطغمة الحاكمة باستخدام القاضي عويدات لتثبيت الخطوط الحمراء إلى أبد الآبدين. وهذه الخطوط، يُمنع بموجبها أيّ قاضٍ، ولوج المسارات القانونيّة الموصلة إلى العقاب والمحاسبة. وضمن حملة استنفاره على غادة عون، رفع النائب العامّ التمييزي بطاقة “الهرميّة الوظيفيّة”، ليقطع عليها كلّ إمكانيّة للذهاب بعيداً في تحقيقاتها. ومثّلت خطوته هذه، آخر حلقات مسلسلٍ عنونه بـ”كيف تمنع عن حُكّامنا العقاب ويوم الحساب؟”. أكثر من بدعة خبرناها، في هذا المجال. بدءًا بالتطييف والزعامات التي لا تُمَسّ؛ مروراً بالسريّة المصرفيّة التي تمنع التعرّف على أسماء الذين قاموا بأكبر عمليّة سطو للشعوب في التاريخ؛ وصولاً إلى نغمة الحصانات التي صدحت بوجه التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت! وبعد؟

قد يكون الإنجاز الوحيد لغادة عون في “أسبوع آلامها القضائي”، هو إسقاطها (بفعلتها) ورقة التوت عن القضاء. كان المواطن اللبناني لا يزال يعتقد، وحتّى الأمس القريب، أنّ ما يحميه هو عدل القاضي وسيادة القانون. لكنّ واقعة مكاتب مكتّف، أكّدت له بالدليل القاطع أنّ القضاء اللبناني لا يحميه. على العكس تماماً. القضاء يعمل ضدّه. “ليست القوانين هي ما يُخشى منه، بل القضاة”، يقول المثل الروسي. نعم يا سادة. ليس عندنا في لبنان قضاء، بل قضاة. بضعة قضاةٍ، بالأحرى، ما زالوا يحترمون أنفسهم وموقعهم وقَسَمَهم. أمّا قضاؤنا، فنحر هيبته على أعتاب السياسيّين وأحزابهم. وشنق مصداقيّته على حبال زعماء الطوائف والمرجعيّات الدينيّة. وأفدح من ذلك. فسّر القوانين وابتدع لها الفذلكات، “غبّ الطلب”. وخبّأ الملفّات أو أخفاها، بقدرة قادر. وأصدر أحكاماً لا تحقّق إلاّ عدالةً قاتلة. فالعدالة، على الطريقة اللبنانيّة، تقيم وزناً للظالم والقاتل.

كلمة أخيرة. يُقال، إنّه برفقة العدالة يستطيع المرء أن يجتاز العالم، لكن برفقة الظلم لا يستطيع أن يعبر عتبة بيته. إقتضى التذكير.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أميركا من كييف إلى غزّة.. من "المستنقع" إلى "الطوفان"!