“ابو حسن سلامة لم يكن شخصا عادياً او قائداً مقرباً من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات فقط بل تمكن، وبرغم صغر سنه، ان يصبح قناة اتصال اساسية بين عرفات والادارة الأمريكية عبر نسجه شبكة علاقات معقدة مع الاستخبارات الأمريكية اثارت حفيظة الاستخبارات “الإسرائيلية” التي رأت في هذه العلاقات طعنة أمريكية في الظهر”. هكذا يبدأ بيرغمان سرديته للدور للدور الامني والسياسي الذي كان يلعبه ابو حسن سلامة، محاولاً تصويره مرة “ارهابياً” ومرة أخرى عميلاً أمريكياً لدى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وفي الحالتين، كان جهاز “الموساد” يرى مبرراً لقتله.
يقول بيرغمان ان اجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” كانت تعتقد ان سلامة هو من خطط ونفذ المذبحة بحق الفريق الرياضي “الإسرائيلي” خلال الالعاب الاولمبية في ميونيخ (1972)، برغم نفي فريق سلامة ان يكون له اي دور في العملية.
إثر محاولة الاغتيال الفاشلة التي نفذها “الموساد” في مدينة ليلهامر النروجية (قتل المواطن المغربي أحمد بوشيكي في مطعم بعدما إشتبه في كونه سلامة) والتي صنفت بوصفها أكبر إخفاق استخباري للجهاز حتى تاريخه، سخر أبو حسن سلامة في مقابلة صحفية مع مجلة “الصياد” اللبنانية من اداء “الموساد” قائلا “عندما قتلوا بوشيكي كنت في اوروبا، وبوشيكي كان مجرد عامل في بركة سباحة ولم يكن وجهه واوصافه لتتطابق مع اي من اوصافي، وانا نجوت من العملية ليس بسبب مهاراتي بل بسبب ضعف الاستخبارات الإسرائيلية”. لاحقاً، علق رئيس وحدة “قيساريا” مايك هراري على المقابلة قائلاً لرجاله “لا تخافوا يومه آت لا محالة”.
يضيف بيرغمان ان سلامة نفسه اعترف بدور له في عمليات “منظمة ايلول الاسود” وذلك في مقابلتين صحافيتين، ولكن في العام 1978 تم حل “أيلول الأسود” بقرار من عرفات وإنتقل سلامة للعب أدوار داخلية في فتح. هنا يتساءل الكاتب هل كان الانتقام منه للاعمال التي ارتكبها سابقا مبررا؟ الاجابة على سؤاله تأتي على لسان يائير رافيد، قائد الوحدة 504 واحد ابرز الخبراء بشؤون الهجمات التي كانت تشنها منظمة التحرير من لبنان. يقول رافيد “ان قتل سلامة كان اولوية واهم من ذلك هو اقفال لحساب عملية ميونيخ”، فيما ينقل عن مسؤولين اخرين في وحدة “قيساريا” قولهم “على الرغم ان سلامة لم يكن المبادر لشن هجمات ارهابية في اواخر السبعينيات الماضية لكنه يبقى تهديداً لنا من موقعه كقائد لقوة الـ 17 في منظمة التحرير وهي القوة المسؤولة عن حماية عرفات شخصيا وتنفيذ عمليات ارهابية”.
ينتقل بيرغمان الى الدافع الاعمق لقتل سلامة قائلاً انه في العاشر من يوليو/ تموز عام 1978، وخلال اجتماع لكبار مسؤولي “الموساد”، قدم رئيس وحدة “قيساريا” مايك هراري تقريراً يفيد ان “هناك تقدما ملحوظا في تحقيق هدف قتل سلامة”، ولكن ديفيد كيمش رئيس وحدة “تيفيل” المسؤولة عن العلاقات الخارجية مع وكالات الاستخبارات في دول اخرى قال ان نظيره في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي اي ايه) المح الى ان سلامة يخصهم جدا “لم يقولوا بوضوح انهم يريدون حمايته ولكن لا بد ان يبقى هذا الموضوع امامنا على الطاولة وان نسأل انفسنا هل علاقتنا مع هيلغا (الاسم الذي يطلقه الموساد على السي اي ايه) تستوجب ان نغير موقفنا من سلامة”؟
بيرغمان: أبو حسن سلامة “كان اهم مصدر للاستخبارات الأمريكية في كل الشرق الاوسط، واهم من ذلك انه كان يعمل بعلم كامل من ياسر عرفات كقناة تواصل وتبادل خدمات بين الأمريكيين ومنظمة التحرير الفلسطينية”
رد شيمشون ايزحاكي بحدة قائلا “وان يكن، فلنفترض انه مرتبط بالأمريكيين، ان يدي هذا الرجل ملطخة بدماء اليهود، وكانت له علاقة بعملية ميونيخ ولا يزال يعمل ضدنا، بالنسبة لي لن اعطي اهمية للامر حتى لو كان عميلا للأمريكيين”. هنا يستطرد الكاتب قائلا ان سلامة “كان اهم مصدر للاستخبارات الأمريكية في كل الشرق الاوسط، واهم من ذلك انه كان يعمل بعلم كامل من ياسر عرفات كقناة تواصل وتبادل خدمات بين الأمريكيين ومنظمة التحرير الفلسطينية”. وينقل الكاتب عن “دومينيك” وهو مسؤول رفيع في “الموساد” كان على علاقة بمطاردة سلامة انه طوال السبعينيات الماضية كان “الموساد” على علم بعمق العلاقة بين الـ”سي اي ايه” وسلامة وقد اعتبر كل من “الموساد” ورئيسي الوزراء اسحق رابين ومناحيم بيغن ان هذه العلاقة تشكل طعنة بالظهر لـ”إسرائيل” من اقرب حلفائها.
ويستطرد الكاتب بيرغمان في شرح علاقة سلامة بالـ”سي اي ايه” مستعيناً بكتاب الأمريكي كاي بيرد بعنوان “The Good Spy” او “الجاسوس الطيب” ويروي فيه قصة حياة الجاسوس الأمريكي الادهى في الشرق الاوسط روبيرت ايمز (قتل في تفجير السفارة الأمريكية في منطقة عين المريسة في بيروت عام 1983 وبقيت جثته معلقة فوق دمار السفارة على مستوى عال لمدة يومين حتى تمكنت رافعات فرق الانقاذ من انزالها).
يقول بيرد ان ايمز تعرف على سلامة عام 1969 في مقهى ستراند في بيروت، وتواصلت لقاءاتهما في منازل آمنة لـ”السي اي ايه” في بيروت، في الوقت نفسه الذي كانت الولايات المتحدة تعتبر منظمة التحرير “منظمة ارهابية” ولكن الـ”سي اي ايه” كانت تريد الاحتفاظ بقناة اتصال خلفية مع عرفات.
وفي العام 1973، وبموافقة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، اصبحت هذه القناة رسمية ولكن سرية بين الولايات المتحدة وعرفات، واستمرت هذه الصلة حتى عندما كان سلامة يلعب دورا قياديا في “منظمة ايلول الاسود”، كما يروي بيرغمان، ويضيف انه برغم اعتراف سلامة لايمز انه هو من جند محمد بودية، صاحب مسرح باريس للذهاب الى إسرائيل وتفجير أحد فنادقها، فان ايمز قال “انا على بينة من نشاطات صديقنا، وبرغم عدم موافقتي عليها كلها، فانني اتعاطف مع مشاعر منظمته بانهم ملزمون على القيام بها”. يشرح ذلك بيرغمان بالقول: طالما كان سلامة يحاذر أذية الأمريكيين او العمل على الاراضي الأمريكية، كان بإمكانه مواصلة هجماته على اهداف اخرى دون الخشية من ردة فعل أمريكية ضده لا بل يذهب ايمز ابعد من ذلك بان يعرض “ترتيب رحلة آمنة لسلامة الى اي نقطة في اوروبا اذا ما رغب في ذلك”.
ويتابع بيرغمان انه من خلال وساطة ايمز – سلامة، جرى ترتيب اجتماع في مدينة الرباط المغربية لنائب مدير الـ”سي اي ايه” فيرنون والترز ومسؤولين كبار في حركة فتح في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1973، وهكذا اصبح التفاهم بين الرجلين هو الموقف الرسمي وفيه ان فتح لا تقوم باي عمل يؤذي الأمريكيين وتبقى قنوات الاتصال السرية مفتوحة. ويضيف بيرغمان ان ايمز نظم برنامج زيارة عرفات (برفقة سلامة) الى الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك عام 1974 واللقاءات التي جرت في فندق والدورف استوريا. وينقل بيرغمان عن المسؤول في “الموساد” دومينيك قوله “لقد كنا نراقبه (ايمز) يرافق عرفات خلال تجواله في نيويورك، لقد كان ذلك جرحاً مذلاً لنا، كأني به يضع إصبعه في عيوننا”.
عندما اندلعت الحرب الاهلية اللبنانية في العام 1975 والتي تحولت معها بيروت الى منطقة قتال، جعل سلامة رجاله حراساً للسفارة الأمريكية (في عين المريسة) وقد نظر الإسرائيليون الى هذا الامر وهم يكزون على اسنانهم
ويضيف بيرغمان ان سلامة بصفته رسولاً لعرفات، حاول ان يحصل على اعتراف أمريكي بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني. ولكن برغم عدم حصول ذلك، فان وجود قناة اتصال مع الأميركيين كان بالنسبة لعرفات انجازاً بحد ذاته. مقابل ذلك، قدم سلامة لايمز معلومات عن لبنان ومنظمة التحرير ومحاولات بعض خصوم منظمة التحرير ارتكاب اعمال مؤذية للولايات المتحدة. ويتابع الكاتب ان الصداقة العميقة التي ربطت ايمز بسلامة راحت تؤثر تدريجياً في موقف الادارة الأمريكية حيال منظمة التحرير. وعندما اندلعت الحرب الاهلية اللبنانية في العام 1975 والتي تحولت معها بيروت الى منطقة قتال، جعل سلامة رجاله حراساً للسفارة الأمريكية (في عين المريسة) وقد نظر الإسرائيليون الى هذا الامر وهم يكزون على اسنانهم.
ويواصل بيرغمان قراءته لعلاقة سلامة وايمز قائلا ان هذه الصلة لم تكن مبادرة شخصية او عملية مارقة من مسؤول امني أمريكي بالرغم من انه كان للولايات المتحدة حينذاك موقفها النقدي الحاد للموقف “الإسرائيلي”. لذلك فقد كانت هذه الصلة ذات اولوية عالية لكل وكالة الـ”سي اي ايه”. وفي اواخر العام 1976، ارسل مدير الـ”سي اي ايه” حينها جورج بوش دعوة رسمية لسلامة عبر ايمز لزيارة المقر الرئيسي لوكالة الإستخبارات الأمريكية في لانغلي وقد حصلت الزيارة في يناير/ كانون الثاني عام 1977 وامتزج فيها العمل بالمرح.
خلال تلك الرحلة، قال سلامة لايمز انه بحاجة ماسة للنقاهة. كان تزوج حديثاً من ملكة جمال الكون وملكة جمال لبنان جورجينا رزق واراد ان يحقق لها حلمها بتمضية شهر العسل في هاواي وديزني لاند وقد وعده ايمز ان يهتم بالموضوع. وبالفعل، وفى ايمز بوعده ونظمت الـ”سي اي ايه” رحلة شهر العسل لسلامة وعروسه وكان برفقتهما حيثما كانا يذهبان مسؤول رفيع من الوكالة، واستمتعت رزق برحلة احلامها، اما سلامة فانه لم يحب ديزني لاند ولكنه كان مسرورا جدا بالهدية التي استلمها من مسؤول العمليات في الـ”سي اي ايه” آلان وولف وكانت عبارة عن جراب مسدس جلدي يعلق بالكتف.
ويضيف بيرغمان قائلا انه بسبب العلاقة بين وكالات الاستخبارات “الإسرائيلية” والأمريكية ونظرا لاعتماد “إسرائيل” الكامل على الولايات المتحدة، فان “الموساد” كان يمتنع عن اية نشاطات على الاراضي الأمريكية وكان سلامة يعرف ذلك ويعلم ان حياته غير مهددة. لذلك، امضى وعروسه اجازة حقيقية من دون مرافقين وحرس يعيقون حركتهما. ففي العادة نادراً ما كان سلامة يغادر بيروت وكان دائماً محاطاً بحراسة امنية مشددة وكان يتجول في المدينة في موكب من الآليات المحملة بالمرافقين المدججين بالسلاح ومن بين هذه الاليات عربة بيك اب منصوب عليها رشاش ثقيل من نوع “دوشكا” عيار 22 ميلليمتر، وهذا ما لم يعجب ايمز وزملائه في الـ”سي اي ايه” وينقل عن احد ضباط الاتصال الأمريكيين في بيروت سام وايمان سؤاله لسلامة “كيف يمكن لهذا المدفع الرشاش ان يحميك؟ انه بمثابة اعلان صارخ لكل انسان انك موجود حيث هذا المدفع موجود”، فكان سلامة يضحك ويجيب “آه.. هذا امر جيد”.
قال سلامة لايمز انه بحاجة ماسة للنقاهة. كان تزوج حديثاً من ملكة جمال الكون وملكة جمال لبنان جورجينا رزق واراد ان يحقق لها حلمها بتمضية شهر العسل في هاواي وديزني لاند وقد وعده ايمز ان يهتم بالموضوع. وبالفعل، وفى ايمز بوعده ونظمت الـ”سي اي ايه” رحلة شهر العسل لسلامة وعروسه
وينقل بيرغمان عن بيرد، مؤلف كتاب “الجاسوس الطيب” قوله ان الـ”سي اي ايه” اعلم سلامة عشرات المرات وبلغة صارمة ان جهاز “الموساد” يسعى للتخلص منه. وينقل بيرد عن وايمان قوله لسلامة “لقد انذرته وقلت له ايها الغبي انهم يطاردونك وسينالون منك وبالطريقة التي تتجول فيها في بيروت سيكون هذا الامر مسألة وقت، انك تخرق كل مبدأ من مبادىء الممارسة الامنية الجيدة، الإسرائيليون يعرفون من انت وماذا فعلت ويجب ان تكون اكثر حذراً”.
وقد تبين أن الـ”سي اي ايه” زوّدت سلامة بآلات حديثة لفك شيفرة الاتصالات من اجل تعزيز امنه وكانت تبحث في ارسال سيارة مصفحة له لحمايته من “الإسرائيليين”. وينقل بيرغمان عن المسؤول الاستخباري “الإسرائيلي” دومينيك قوله “تخيل ان يقيم الموساد علاقات سرية مع اسامة بن لادن ليس لاننا جندناه مقابل المال بل بسبب علاقات الصداقة وتقريبا كحليف نتبادل معه المعلومات والخدمات المتبادلة. تخيل ان ندعو بن لادن لزيارة المقر الرئيسي للموساد في تل ابيب وان نعرب له عن تفهمنا وتعاطفنا مع هجومه على برجي التجارة العالميين وان نقول له لا مشكلة لدينا في نسف السفارات الأمريكية طالما انك لا تنسف سفاراتنا، وقدمنا له ولزوجته ضيافة ملوكية وفعلنا كل ما بوسعنا لحمايته من قوات النخبة في البحرية الأمريكية التي تسعى لقتله، تخيل كل ذلك وقل لي كيف سينظر الأمريكيون الى ذلك الامر”.
يخلص بيرغمان بعد هذه الاستفاضة في شرح العلاقة بين أبو حسن سلامة والاستخبارات الأمريكية الى القول ان “الموساد” وصل الى قناعة بان قطع قناة الاتصال هذا امر مهم للغاية كي نظهر ان لا احد محصناً وكي نلمح للأمريكيين بانه ليست هذه هي الطريقة التي تتعاملون فيها مع اصدقائكم. ويتابع ان رئيس الوزراء مناحيم بيغن اعلم بكل تفاصيل العلاقة بين سلامة والأمريكيين، ومع ذلك فقد اعطى موافقته على توصية “الموساد” باغتيال سلامة.
(*) في الحلقة 38، تفاصيل عملية إغتيال أبو حسن سلامة